تستعد «المحكمة الجنائية الدولية» لإصدار حكمها في قضية المدعي العام ضد السوداني علي محمد علي عبد الرحمن، المعروف بـ«علي كوشيب»، أحد أبرز قادة «ميليشيا الجنجويد» في دارفور، وحددت السادس من أكتوبر (تشرين الأول) المقبل موعداً للنطق بالحكم.
وينظر إلى مثل هذا الحكم المرتقب، بعد محاكمة استمرت منذ أبريل (نيسان) 2022، بوصفه أول اختبار حقيقي لعدالة المحكمة الدولية، في ملف دارفور الذي ظل معلقاً منذ قرابة عقدين.

ووفقاً لـ«نظام روما الأساسي»، فإن القضاة سيقررون إما إدانة كوشيب وإما تبرئته من 31 تهمة، بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في أثناء الحرب في دارفور بين عامي 2003 و2004، ويُتوقع أن يفتح الحكم الباب واسعاً أمام تسريع مسار تسليم بقية المطلوبين للمحكمة.
«الجنائية» والسودان
في مارس (آذار) 2005، أحال مجلس الأمن الدولي قضية الحرب في دارفور على «المحكمة الجنائية الدولية»، للنظر في الانتهاكات التي ارتكبت هناك، والتي وصفت بأنه ترقى إلى «جرائم إبادة جماعية».
ومنذ ذلك الحين، أصدرت المحكمة ست مذكرات توقيف بحق قادة سياسيين وعسكريين من حكومة الخرطوم السابقة، إضافة إلى بعض قادة الحركات المسلحة التي كانت تقاتل ذات الحكومة.

وتعثر تنفيذ مذكرات القبض لرفض نظام عمر البشير التعاون، ولاحقاً بسبب تعقيدات الوضع الانتقالي بعد سقوطه في 2019، وزاد المشهد تعقيداً اندلاع الحرب عام 2023، والتي أتاحت لبعض رموز النظام السابق الفرار من السجون التي كانوا فيها بانتظار المحاكمة بجرائم الانقلاب العسكري في 1989، والعودة إلى العمل السياسي.
حرب دارفور الأولى
واندلعت الحرب في دارفور عام 2003 حين حملت حركتا «جيش تحرير السودان»، و«العدل والمساواة» السلاح ضد حكومة الرئيس عمر البشير، متهمة إياها بـ«تهميش الإقليم اقتصادياً وسياسياً»، وردت الحكومة بتسليح ميليشيات محلية عُرفت لاحقاً باسم «الجنجويد»، قامت بشن هجمات واسعة على القرى المشتبه في دعمها للتمرد.
وخلّف النزاع أكثر من 300 ألف قتيل، بحسب تقديرات الأمم المتحدة، إضافة إلى ملايين النازحين واللاجئين. ووُثّقت انتهاكات واسعة النطاق شملت القتل الجماعي، والاغتصاب، والتهجير القسري، وحرق القرى. وهي الجرائم التي وصفتها الولايات المتحدة الأميركية وغيرها بأنها ترقى إلى «جرائم إبادة جماعية»، و«أسوأ أزمة إنسانية في العالم وقتها».
أبرز المتهمين
ويعد الرئيس السوداني السابق عمر أحمد البشير، أبرز المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية، بوصفه أول رئيس دولة في سدة الحكم تصدر المحكمة أمراً باعتقاله، في مذكرتي قبض، آخرهما في مارس 2009، بتهم «الإبادة الجماعية»، و«جرائم ضد الإنسانية»، و«جرائم حرب»، لكنه رفض المثول أمام المحكمة هو ورفاقه.
بعد إطاحة حكومته، ألقي القبض على البشير، وأودع «سجن كوبر» لعدة سنوات، وأدين في واحدة من المحاكمات، بينما كانت تستمر محاكمته في قضية تدبير انقلاب الإسلاميين في يونيو (حزيران) 1989 الذي أطاح بالحكومة المنتخبة برئاسة الصادق المهدي.

ثم تضاربت الأنباء حول وضعه بعد اندلاع الحرب بين الجيش و«قوات الدعم السريع» في أبريل 2023، وفي أثنائها نقل إلى مستشفى السلاح الطبي، وبقي هناك إلى أن راجت أخيراً معلومات تراوحت بين إطلاق سراحه، وإبقائه تحت الحراسة المنزلية المشددة.
أما وزير الدولة بوزارة الداخلية وقتها أحمد محمد هارون، فيواجه 42 تهمة تتعلق بالقتل والترحيل القسري والاغتصاب والتعذيب، وقد فر من السجن في أبريل 2023 مع اندلاع الحرب، وعاد للظهور السياسي، وأعلن في 2024 توليه رئاسة حزب «المؤتمر الوطني»، الحاكم السابق.

ويواجه عبد الرحيم محمد حسين، وزير الدفاع الأسبق والمقرّب من البشير، 13 تهمة بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وظل معتقلاً في «سجن كوبر» إلى أن أعلن إطلاق سراحه، دون تحديد مكان إقامته الحالي.
وسلم كوشيب، والذي كان يعرف باسم «زعيم الجنجويد» نفسه للمحكمة في أفريقيا الوسطى في يونيو 2020، وراج وقتها أن هناك جهات في الحكومة السابقة تنوي التخلص منه، لكن المحكمة لم تعلن عن أسباب تسليمه الطوعي لها.

وسلم القيادي السابق بحركات التمرد، بحر إدريس أبو قردة، نفسه للمحكمة الجنائية الدولية، التي اتهمته بارتكاب جرائم حرب في هجوم على قوات حفظ السلام الأفريقية 2007، ثم أسقطت عنه التهم، وعاد وصالح حكومة البشير التي عينته وزيراً للصحة.
كما اتهمت المحكمة كلاً من: عبد الله باندا القيادي بحركة «العدل والمساواة»، والقيادي بـ«حركة تحرير السودان» محمد صالح جربو، بالمشاركة في الهجوم على بلدة «حسكنيتة» بجنوب دارفور 2007، لكن الأخير لقي مصرعه في معارك بدارفور عام 2013 فأسقطت قضيته.
ظل باندا مختفياً إلى أن عاد اسمه للظهور بقوة مؤخراً بمشاركته في القتال إلى جانب الجيش ضد «قوات الدعم السريع». وأفادت مصادر متطابقة بأنه أصيب في معارك دارفور، ضمن صفوف القوات المشتركة للحركات المسلحة (المتمردة السابقة). ولا يزال الادعاء الدولي يطالب بمثوله.

يمثل الحكم المرتقب على كوشيب أول إدانة أو تبرئة في ملف دارفور بعد 20 عاماً على النزاع، وحال تقررت إدانته، فإن الحكم سيشكل ضغطاً غير مسبوق على السلطات السودانية، لتسليم البشير وهارون وحسين إلى لاهاي.
أما إذا تمت تبرئته فقد تضعف الثقة بقدرة المحكمة على إنصاف الضحايا الذين تجاوز عددهم، وفق تقديرات الأمم المتحدة، 300 ألف قتيل وملايين النازحين.
لكن المتغيرات الأخيرة في السودان، من فرار بعض المتهمين وتوليهم أدواراً سياسية جديدة، إلى مشاركة آخرين في الحرب الجارية وإصابتهم في جبهات القتال، تجعل مستقبل العدالة الدولية في ملف دارفور أمام تحد أكبر من أي وقت مضى، بحسب مراقبين.
ويرى هؤلاء أنه يمكن أن يكون الحكم المرتقب على كوشيب لحظة فاصلة، ليس فقط لضحايا دارفور الذين ينتظرون العدالة منذ عقدين، بل أيضاً لاختبار قدرة المحكمة على فرض ولايتها في ظل وضع سوداني متشظٍ.
الواقع على الأرض معقد؛ لأن بعض المطلوبين مثل هارون ما زالوا يمارسون أدواراً سياسية علنية، أو مثل باندا، يقاتلون إلى جانب الجيش. أما البشير وحسين فهما في حالة «غياب قضائي» معلق بين الاعتقال المحلي والضغط الدولي.




