أوبئة تنهك السودان وسط انهيار النظام الصحي

مخلفات الحرب ومياه الأمطار أصبحت «مرتعاً» للميكروبات

عبد الرشيد طه يغالب الحمى في أحد المراكز الصحية بالخرطوم (الشرق الأوسط)
عبد الرشيد طه يغالب الحمى في أحد المراكز الصحية بالخرطوم (الشرق الأوسط)
TT

أوبئة تنهك السودان وسط انهيار النظام الصحي

عبد الرشيد طه يغالب الحمى في أحد المراكز الصحية بالخرطوم (الشرق الأوسط)
عبد الرشيد طه يغالب الحمى في أحد المراكز الصحية بالخرطوم (الشرق الأوسط)

على سريرٍ حديدي في مركز صحي مكتظ في العاصمة السودانية الخرطوم، يتقلب عبد الرشيد طه محاولاً تخفيف حرارة جسده المرتجف بالحمى، ويقول بصوتٍ متقطع: «أُصبت قبل أسبوع، وعندما وصلت للمركز وجدت العشرات يفترشون الأرض بانتظار الفحص. لم أجد سريراً، وتنقلت بين المراكز بلا جدوى. اكتفيت بالمحاليل وأقراص البندول، لكن حالتي لم تتحسن».

تختصر قصة عبد الرشيد مأساة آلاف السودانيين الذين عادوا إلى منازلهم بعد شهور من النزوح واللجوء، ليجدوا أنفسهم في مواجهة وباء متسارع الانتشار، تقوده حمى الضنك والكوليرا والتهاب الكبد الفيروسي والملاريا، ويزيده ضعف المناعة وانتشار أمراض أخرى.

أرقام صادمة

مركز لعلاج الكوليرا في العاصمة السودانية الخرطوم (أرشيف منظمة الصحة العالمية)

كشف التقرير الأسبوعي لمركز عمليات الطوارئ بوزارة الصحة الصادر الثلاثاء الماضي، أرقاماً رسمية صادمة ومأساوية عن الوضع الصحي في البلاد؛ إذ ذكر أن خمس ولايات من ولايات السودان البالغة 18 ولاية، سجلت 1378 إصابة جديدة بحمى الضنك، وأن ولاية الخرطوم هي الأعلى في حالات الإصابة.

كما أعلن عن 1501 حالة كوليرا مؤكدة في 13 ولاية من ولايات البلاد، و102 إصابة بالتهاب الكبد الفيروسي في ولاية الجزيرة وحدها، أما ولاية كسلا في شرق البلاد فقد سجلت وحدها 5 وفيات من بين 258 إصابة مؤكدة بالكوليرا.

وقال الصحافي محمد سلمان على صفحته في منصة «فيسبوك» إن مواطني مدينته القضارف يعيشون معاناة بالغة في مواجهة حمى الضنك، التي أصابت الآلاف. وأضاف: «يقضي معظم مواطني القضارف يومهم بين رحلة البحث عن العلاج ومقابلة الأطباء».

ووجّه سلمان انتقادات قاسية لإدارة الصحة المحلية، واصفاً إياها بالمتقاعسة عن مكافحة الناقل، وتابع: «المرض يكلف حسب بروتوكوله العلاجي ما بين 50 و150 ألف جنيه سوداني، ولا يملك المواطنون قدرة على تحمل نفقاته».

هذه الأرقام لا تشمل المناطق التي تسيطر عليها «قوات الدعم السريع» في ولايات دارفور الخمس، وبعض أجزاء ولايات غرب وجنوب كردفان التي تشهد معارك متواصلة بين الجيش و«قوات الدعم السريع»، حيث يتعذر الوصول، في حين تواجه الخدمات الصحية فيها صعوبات كبيرة مثل انعدام الدواء وقلة الكادر الطبي ودمار المنشآت الصحية.

مطالبات بإعلان الطوارئ

مياه الأمطار الغزيرة تغمر الشوارع وتخلف بركاً راكدة (أ.ف.ب)

طالبت اللجنة التمهيدية لنقابة الأطباء - وهي نقابة منتخبة - بإعلان الطوارئ الصحية في كسلا، مشددة على ضرورة توفير مراكز العزل، وضمان الإمداد الدوائي، وتعزيز حملات التوعية وإصحاح البيئة. ودعت النقابة إلى تكاتف الجهود لحماية الأرواح، محذّرة الولايات المجاورة، ومطالبةً إياها باتخاذ الحيطة والتنسيق عبر المنافذ الحدودية ومداخل الولايات.

سمية قاسم، ربة منزل من أم درمان، ترقد في أحد مستوصفات الخرطوم، روت بمرارة: «أُصبت أنا وثلاثة من أبنائي بحمى الضنك، وكاد المرض الوبيل يقتل طفلي الصغير محمد». وتابعت: «عدنا من النزوح إلى بيتنا، لكن الحمى تحاصرنا الآن. حتى عندما نذهب للفحص نقضي ساعات في الطابور ولا نحصل على علاج كافٍ».

وفي الخرطوم، قالت حياة إبراهيم (اسم مستعار)، صحافية مقيمة هناك: «في كل بيت تقريباً هناك حالتان من الحمى، بين ملاريا وضنك». وتابعت: «البيئة صارت طاردة للحياة؛ الذباب يملأ الأسواق والمنازل، وأسراب البعوض لا تنقطع ليلاً».

وأضافت إبراهيم أن أحد المراكز الصحية في منطقتها أغلق أبوابه أمام المرضى الجدد نتيجة لضغط الأعداد الكبيرة وقلة الكادر الطبي، في وقتٍ ما تزال فيه برك المياه ومخلفات الحرب مرتعاً لنواقل الأوبئة.

إصابات حمى الضنك

مرضى يتلقون العلاج في مستشفى بمدينة القضارف بشرق السودان (أرشيفية - أ.ف.ب)

في إفادة شخصية لافتة، كشف عبد المنعم أبو إدريس، نقيب الصحافيين السودانيين، لـ«الشرق الأوسط» عن إصابته بحمى الضنك، قائلاً: «للوهلة الأولى كنت أظنها الملاريا التي اعتاد عليها أهل السودان». وتابع: «قبل ثلاثة أشهر ذهبت من بورتسودان إلى مدينة كسلا، وهناك أحسست بحمى وصداع، وهي أعراض الملاريا، لكن عندما وصلت إلى عيادة الطبيب طلب فحص الدم، وجاءت النتيجة: الصفائح انخفضت إلى 245 من 450 المعدل الطبيعي».

وأضاف: «بعد 24 ساعة في مدينة مدني، عاصمة ولاية الجزيرة، فقدت الصفائح 150 وصارت تتناقص حتى وصلت إلى 60 فقط، وهو الحد الذي يجعلك تنزف، وبالفعل بدأ النزيف، لكنه لم يستمر طويلاً».

ووصف النقيب، بحسب خبرته مع المرض، حمى الضنك بأنها «لا علاج لها سوى مسكن بندول لخفض الحرارة، والمحافظة على تناول السوائل». وقال: «قضيت 40 يوماً أعاني من أعراضها التي تشتد ليلاً، وكنت أمسك الورقة مراراً لأكتب وصيتي ثم أتراجع. وبعد أن شُفيت، قال لي أهلي: كنا نظن أنك لن تخرج منها».

«حمى مجهولة»

قال طبيب اختصاصي أمراض باطنية لـ«الشرق الأوسط» إن انتشار البعوض والذباب، إلى جانب انقطاع الكهرباء ونقص مياه الشرب، ساهم بشكل مباشر في تفاقم الأزمة. وأوضح أن ضعف المناعة الناتج عن الظروف الاقتصادية والمعيشية الصعبة رفع من معدلات الإصابة وخفض نسب الشفاء، مع انتشار أمراض أخرى مثل التيفويد وحمى الشيكونغونيا والملاريا وغيرها في كل ولايات البلاد.

وندد الطبيب بالصعوبات التي تواجه وصول المساعدات الإنسانية من أغذية ومعدات صحية وغيرها للمواطنين، مبيناً أن بعضها يُتداول في الأسواق، فضلاً عن صعوبة وصولها إلى مناطق القتال.

ونقلت تقارير صحافية محلية ظهور ما أُطلق عليه طبياً «حمى مجهولة» في بعض مناطق ولاية الجزيرة بوسط البلاد، أعراضها حمى شديدة تودي بالمصاب خلال يوم أو يومين، ولا تتطابق مع أعراض حمى الضنك أو الملاريا. وأشارت إلى تسجيل وفيات يومية تتراوح بين 5 و6 حالات في مدينة الحصاحيصا والمناطق المحيطة بها، وفق ما رصدت صحيفة «التغيير الإلكترونية» المستقلة.

جهود المكافحة

رئيس الوزراء كامل إدريس يشارك في حملة نظافة بالخرطوم (الشرق الأوسط)

أعلنت وزارة الصحة عن حملات للرش الضبابي ضد البعوض والذباب عن طريق الطائرات في الخرطوم، إضافة إلى توزيع الناموسيات وتنظيم مبادرات شبابية لتنظيف الأحياء وردم البرك الراكدة، لكنها تبقى جهوداً محدودة ومجزأة.

وأدى ضعف الإمداد الدوائي وانهيار شبكات المياه والصرف الصحي وانقطاع الكهرباء إلى تقليل فاعلية الاستجابة. ويقول مواطنون إن عربات الرش لا تصل إلى المناطق الطرفية التي هي أكثر تضرراً، في حين يواجه الكادر الطبي نقصاً في المحاليل والمضادات الحيوية؛ ما يجعل المعركة مع الضنك والكوليرا والملاريا أشبه بسباق غير متكافئ مع المرض.

وسخر نشطاء في مواقع التواصل الاجتماعي من الحملات، وقال بعضهم: «يبدو أن المبيدات تغذي البعوض والذباب بدل القضاء عليه!»، في حين علق آخرون على توزيع الناموسيات في ولاية الجزيرة: «يتم صرف ناموسية واحدة لكل أسرة، هل تنام الأسرة كلها تحتها؟!».

بين أرقام رسمية صادمة، وإفادات مرضى يروون تجارب قاسية، وتحذيرات نقابية وطبية متزايدة، تبدو الأوبئة في السودان قد تحولت إلى أزمة وطنية شاملة. حمى الضنك والكوليرا والملاريا، ومعها أمراض جديدة مجهولة السبب، تضرب المدن والقرى، في حين تنهك الحرب جهاز المناعة وتقوّض النظام الصحي.

ومع دعوات الأطباء لإعلان الطوارئ وتكاتف الجهود، يبقى المواطن السوداني في قلب الحرب، يصارع المرض بأدوات بسيطة، منتظراً استجابة قد تحدد الفارق بين الحياة والموت.


مقالات ذات صلة

محادثات مصرية - روسية تتناول المستجدات في السودان وسوريا ولبنان وغزة

شمال افريقيا الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ونظيره الروسي فيلاديمير بوتين خلال تدشين تركيب وعاء ضغط المفاعل الأول بمحطة الضبعة النووية الشهر الماضي (الرئاسة المصرية)

محادثات مصرية - روسية تتناول المستجدات في السودان وسوريا ولبنان وغزة

أعرب بدر عبد العاطي عن اعتزاز مصر بـ«الشراكة الاستراتيجية» مع روسيا، التي تمثل إطاراً حاكماً للتعاون الثنائي في مختلف القطاعات.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
شمال افريقيا نازحون سودانيون فروا من الفاشر بعد سقوط المدينة في قبضة «قوات الدعم السريع» في 26 أكتوبر (أ.ف.ب) play-circle

تقارير: «الدعم السريع» تحتجز ناجين من الفاشر للحصول على فِدى

قال شهود لـ«رويترز» إن «قوات الدعم السريع»، التي حاصرت مدينة الفاشر في دارفور قبل اجتياحها، تحتجز ناجين من الحصار، وتطلب فدى لإطلاق سراحهم.

«الشرق الأوسط» (الطينة (تشاد))
شمال افريقيا 
صورة متداولة تبيّن جانباً من الدمار الذي ألحقته مسيَّرات «الدعم السريع» بمدينة الأُبيّض في إقليم كردفان play-circle

بعد بابنوسة «النفطية»... ما الهدف التالي لـ«الدعم السريع»؟

بعد قتال شرس استمر لأكثر من عامين، أعلنت «قوات الدعم السريع» الاثنين الماضي، سيطرتها «بشكل كامل» على مدينة بابنوسة... فما الهدف التالي؟

محمد أمين ياسين (نيروبي)
العالم العربي وزير الصحة المصري خالد عبد الغفار يناقش في لقاء سابق مع نظيره السوداني هيثم إبراهيم عوض الله تقديم الدعم اللازم (وزارة الصحة المصرية)

مرضى سودانيون في مصر رهن مبادرات الإغاثة

يعيش عشرات الآلاف من المرضى السودانيين في مصر، بعد فرارهم من الحرب السودانية، رهن مبادرات إغاثة دولية «محدودة»، وجهود حكومية مصرية لرعايتهم، في ظل ظروف صعبة.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
شمال افريقيا وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو (يسار) خلال اجتماع مجلس الوزراء وإلى يساره الرئيس دونالد ترمب في غرفة مجلس الوزراء في البيت الأبيض في العاصمة واشنطن... 2 ديسمبر 2025 (أ.ف.ب)

روبيو: ترمب يتولى شخصياً ملف الحرب في السودان

قال وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، الثلاثاء، إن الرئيس دونالد ترمب يتولى ملف الحرب في السودان شخصياً.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

اختيار المعارضة المالية قائداً جديداً يصبّ الزيت على نار الخلاف الجزائري - المالي

الرئيس الجزائري مستقبلاً الشيخ المالي المعارض محمود ديكو في 19 ديسمبر 2023 (الرئاسة الجزائرية)
الرئيس الجزائري مستقبلاً الشيخ المالي المعارض محمود ديكو في 19 ديسمبر 2023 (الرئاسة الجزائرية)
TT

اختيار المعارضة المالية قائداً جديداً يصبّ الزيت على نار الخلاف الجزائري - المالي

الرئيس الجزائري مستقبلاً الشيخ المالي المعارض محمود ديكو في 19 ديسمبر 2023 (الرئاسة الجزائرية)
الرئيس الجزائري مستقبلاً الشيخ المالي المعارض محمود ديكو في 19 ديسمبر 2023 (الرئاسة الجزائرية)

بينما تشهد الأزمة بين الجزائر وجارتها الجنوبية مالي تصاعداً مستمراً منذ بداية 2024، يرجّح مراقبون أن تتفاقم الأحداث بعد اختيار المعارضة المالية، رجل الدين محمود ديكو اللاجئ في الجزائر، على رأس تحالف أطلق حملة لإطاحة الرئيس الانتقالي العقيد عاصيمي غويتا.

أطلقت تنظيمات «أزواد» الطرقية المالية، أمس الجمعة، تحالفاً سُمّي «ائتلاف القوى من أجل الجمهورية» بقيادة الشيخ محمود ديكو، الرئيس السابق لـ«المجلس الإسلامي الأعلى» في مالي، ودعت في بيان الماليِّين إلى «المقاومة والعصيان».

الشيخ محمود ديكو (موقع مالي ويب)

وكتب أعضاء «الائتلاف» في بيان: «تمرّ مالي اليوم بإحدى أخطر الأزمات في تاريخها المعاصر. دولتنا ضعيفة، وشعبنا يتألم، ومؤسّساتنا منحرفة، وسيادتنا مُهانة من طرف أشخاص يجمعون بين النهب الاقتصادي، والعسكرة القائمة على الفساد واستغلال الخوف».

ويرى محرّرو البيان أنه «في ظلّ الانهيار الأمني، وانهيار السلطة العامة، ومجازر المدنيين والعسكريين، والرقابة الشاملة، والاعتقالات التعسفية، وإغلاق الحياة السياسية بالكامل، لم تعد المقاومة خياراً أخلاقياً فحسب، بل أصبحت واجباً وطنياً»، وفق ما نشرته مواقع إخبارية مالية، اليوم (السبت).

ويصف هذا الائتلاف نفسه بأنه «حركة مقاومة جمهورية، سلمية وشاملة، أنشأتها القوى الحية في مالي، تهدف إلى جعل العودة إلى النظام الدستوري ممكنة، وحماية السكان، واستعادة الحريات، والتحضير لحوار وطني شامل مع جميع الفاعلين الماليين، بما في ذلك الجماعات المسلحة الوطنية، وفقاً لمخرجات كل الندوات ومؤتمرات السلام منذ 2017».

عنصر «مزعج» في المنطقة

يؤكد أصحاب البيان أنهم «يقاومون لأن مالي تختفي أمام أعيننا... لأن الدولة تقتل جنودها؛ بسبب عدم الكفاءة أو الإهمال أو الكذب، لأن مئات المدنيين يُقتلون في صمت مفروض بالخوف». ويتهمون السلطة العسكرية بأنها «حوّلت السيادة إلى مجرد شعار، وعرّضت أمن بلادنا للمرتزقة»، في إشارة إلى وجود «الفيلق الأفريقي» الروسي في البلاد، الذي يوفر الدعم اللوجيستي لنظام الحكم ضد المعارضة، التي تتحصن بمواقعها في الشمال الحدودي مع الجزائر.

الشيخ محمود ديكو مع عميد جامع الجزائر الشيخ مأمون القاسيمي (الجامع)

ودعا البيان أفراد الجيش إلى «العصيان الأخلاقي عندما يُؤمَرون بالموت في عمليات عبثية بلا وسائل، ولا استراتيجية، ولخدمة طموحات شخصية»، وإلى «وقف مجازر المدنيين والعسكريين عبر فتح حوار وطني مع الفاعلين المسلحين الماليين».

كما دعا القضاة إلى «المقاومة القضائية»، والعمال إلى «العصيان المدني المنظم، السلمي، والمنهجي»، وأيضاً أفراد الجالية في الخارج إلى «التعبئة الدبلوماسية والمالية واللوجيستية». وبحسب البيان نفسه: «لن يُنقذ مالي لا السلاح الأجنبي ولا أكاذيب الدولة ولا الخوف. سينقذها شعبها. ندعو كل مالية وكل مالي إلى الانضمام إلى (ائتلاف القوى من أجل الجمهورية)، ورفض الاستسلام للقدر».

ومن بين أبرز قياديي «الائتلاف»، إتيان فاكابا سيسوكو، وهو أستاذ جامعي يعيش في المنفى وكان مسجوناً في مالي. أما الشيخ محمود ديكو رئيس تكتل المعارضة الجديد، فقد غادر مالي إلى الجزائر نهاية 2021 «بحثاً عن الأمن والعلاج»، بحسب ما أعلن عنه يومها، ومنذ ذلك الحين لم يعد إلى بلاده.

الرئيس الجزائري مستقبلاً وزير خارجية مالي في 16 يناير 2023 (الرئاسة الجزائرية)

لكن تبيَّن لاحقاً أنه قرَّر البقاء في الجزائر «خوفاً من الاعتقال، أو ربما القتل لو عاد إلى مالي»، وفق ما أكده مقربون منه في الجزائر لـ«الشرق الأوسط». وبكلام آخر، تُعدّ الجزائر «أفضل مكان له في الوقت الحالي»، بحسب ما نقل هؤلاء المقربون، الذين أشاروا إلى أن السلطة في مالي «تخشى تأثيره وقدرته على حشد السخط، ما يجعله قوة احتجاجية قد تهدد سلطة المرحلة الانتقالية، وربما تقوضها».

ضغط «جماعة النصرة»

حسب مراقبين لتطورات الأزمة بين الجزائر وباماكو، قد تحمل قيادة ديكو مسعى التغيير في البلاد، الذي تم إطلاقه الجمعة، مزيداً من التوترات، وفي أفضل الحالات يبعد انفراجة محتملة بين البلدين، خصوصاً أن وجوده في الجزائر يعني أن اجتماعات مرتقبة لـ«الائتلاف» المعارض ستكون على أرضها، وهو ما سيُعدّ بحسب مراقبين عملاً موجهاً بشكل مباشر ضد العقيد غويتا وقياديي المجلس الانتقالي العسكري، الذي يواجه منذ أكثر من شهر، ضربات متتالية من طرف «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين»، المُصنَّفة «جماعةً إرهابيةً»، بقيادة الطرقي إياد آغ غالي.

اجتماع لوزير خارجية الجزائر السابق مع ممثلي المعارضة المالية في سبتمبر 2022 (الخارجية الجزائرية)

وتفيد مصادر جزائرية بأن الإمام ديكو لا يخضع لأي مذكرة توقيف أو حكم قضائي، في حين تشير بعض التسريبات إلى أن «ذنبه» الوحيد ربما كان إقامته الطويلة في الجزائر، حيث يُشاع أنه التقى خلالها أشخاصاً على خلاف مع السلطة في مالي، بمَن فيهم المتمردون الذين تصفهم بـ«الإرهابيين»، وحتى بعض المسؤولين الجزائريين.

أخذت العلاقات بين الجزائر ومالي ضربةً قويةً مطلع 2024، عندما أعلن العقيد غويتا انسحابه من «اتفاق السلم والمصالحة»، الذي وقَّعته السلطة مع المعارضة في الجزائر 2015. وانبثقت من الاتفاق «لجنة دولية لمتابعة تنفيذه» ترأَّستها الجزائر، لكنها لم تحقق أي تقدم؛ نتيجة انعدام الثقة بين طرفَي الصراع.

الحاكم العسكري في مالي مستقبلاً وفداً دبلوماسياً وأمنياً جزائرياً في أبريل 2023 (الخارجية الجزائرية)

وبرَّر غويتا انسحابه من الاتفاق بـ«تدخل الجزائر في شؤون مالي الداخلية»، مشدداً على أنها «توفر الرعاية للإرهابيين». وعلى أثر ذلك عدّت الجزائر أن مبررات الانسحاب «غير صحيحة، ولا تمتّ للحقيقة بصلة»، محذِّرة من أن هذا القرار «قد يُهدِّد وحدة مالي واستقرار المنطقة برمتها، ويحمل بذور حرب أهلية».

بعد ذلك دخلت العلاقات في حالة احتقان شديد، فجَّرتها حادثة تحطيم سلاح الجو الجزائري طائرةً مسيّرةً مالية على الحدود، ليلة 31 مارس (آذار) إلى 1 أبريل (نيسان) 2025. وأكدت الجزائر أن الطائرة اخترقت مجالها الجوي لمسافة كيلومترين في «مناورة عدائية»، وبرَّرت تحطيمها بـ«تكرار انتهاكات حدودها من طرف الطائرة، التي كانت في منحى عدائي».

بقايا الطائرة المسيّرة المالية بعد تحطيمها من طرف سلاح الجو الجزائري (المعارضة المالية المسلحة)

في المقابل، نفت مالي أن تكون الطائرة قد اخترقت الحدود، وزعمت أنها تحطَّمت في الأراضي المالية؛ بسبب «عطل تقني»، وعدّت إسقاطها «عملاً عدائياً». وانضمت النيجر وبوركينا فاسو إلى باماكو في إدانة الحادث، في إطار «تحالف دول الساحل» الذي يجمع الدول الثلاث، مما زاد من حدة التوتر.


هل تُضخِّم «الوحدة» الليبية أرقام «المهاجرين» سعياً للتمويل الأوروبي؟

الطرابلسي يستعرض في المؤتمر الصحافي نتائج «البرنامج الوطني» لترحيل المهاجرين غير النظاميين (أ.ف.ب)
الطرابلسي يستعرض في المؤتمر الصحافي نتائج «البرنامج الوطني» لترحيل المهاجرين غير النظاميين (أ.ف.ب)
TT

هل تُضخِّم «الوحدة» الليبية أرقام «المهاجرين» سعياً للتمويل الأوروبي؟

الطرابلسي يستعرض في المؤتمر الصحافي نتائج «البرنامج الوطني» لترحيل المهاجرين غير النظاميين (أ.ف.ب)
الطرابلسي يستعرض في المؤتمر الصحافي نتائج «البرنامج الوطني» لترحيل المهاجرين غير النظاميين (أ.ف.ب)

أعاد وزير الداخلية المكلف بحكومة «الوحدة الوطنية» الليبية المؤقتة، عماد الطرابلسي، الحديث عن أزمات ملف المهاجرين غير النظاميين في بلاده، بعدما قدّر عددهم بثلاثة ملايين، مما أثار مخاوف تتعلق بالوضع الأمني والاقتصادي.

مهاجرون سريون جرى توقيفهم في طرابلس بعد حملة تفتيش أمنية (متداولة)

وكان الطرابلسي قد حمَّل المهاجرين الموجودين في ليبيا مسؤولية «ارتفاع معدلات الجريمة». كما حذَّر من «منافستهم الليبيين في سوق العمل، وإضرارهم بالاقتصاد الوطني من خلال تحويل أموال بالعملة الأجنبية لبلادهم بقيمة تتجاوز 600 مليون دولار شهرياً». (الدولار يساوي 5.44 دينار).

إلقاء اللوم على المهاجرين

رغم اتفاق كثير من الليبيين على أن الملف يمثل تحدياً كبيراً لليبيا، ويتجاوز قدراتها، خاصة في ظل الانقسام السياسي والمؤسسي، رأى سياسيون وحقوقيون أن تصريحات الطرابلسي اتسمت بـ«المبالغة»، واقتربت من تحميل المهاجرين مسؤولية أزمات صنعتها الحكومات، التي تعاقبت على إدارة البلاد، بما فيها حكومته.

ووصف عضو المجلس الأعلى للدولة، أحمد بوبريق، تصريحات الطرابلسي بأنها «بهرجة إعلامية»، وقال إنها «تفتقر إلى الإحصائيات وغياب أي تصور للمعالجة»، معتبراً أن «تكرار الحديث عن تعداد المهاجرين يعزز الشكوك حول أن الهدف هو البحث عن تمويل خارجي».

مهاجرون تم توقيفهم على الحدود الليبية (متداولة)

وأكد بوبريق لـ«الشرق الأوسط» أن «معظم المهاجرين يعتبرون ليبيا نقطة عبور إلى أوروبا، لكن فشل محاولاتهم يدفع بعضهم للاستقرار والعمل داخل البلاد». ورأى أن هذا الوضع يفرض على السلطات «تعزيز تأمين الحدود والسواحل، والبدء بحصر شامل للمهاجرين، عبر تسجيل منظم وتحديد جنسياتهم، تمهيداً لترحيلهم، بالتنسيق مع دولهم الأصلية والدول الغربية، التي استفادت تاريخياً من القارة السمراء». ونوه «بإمكانية الاستفادة من خبرات بعض المهاجرين التي تفتقدها السوق الليبية، بعد التأكد من أوضاعهم الأمنية والصحية».

وخلال مؤتمر صحافي حضره بعض سفراء الاتحاد الأوروبي، استعرض الطرابلسي نتائج برنامج وزارته لترحيل المهاجرين لبلادهم، داعياً الأوروبيين لدعمه «إذا أرادوا حماية سواحلهم»، ومؤكداً رفضه «إعادة المهاجرين من البحر إلى ليبيا في ظل رفض شعبي للتوطين».

وانتقد بوبريق «تحميل المهاجرين كامل المسؤولية عن الأزمات، سواء ارتفاع الجريمة أو نقص السيولة»، معتبراً ذلك «هروباً من المسؤولية، وتشويشاً على غياب معالجة علمية». وشدد على أن «جذور هذه الأزمات تعود لازدواج السلطة، وما نتج عنه من ضعف الرقابة وازدهار جرائم التهريب» متسائلاً عمّا إذا كانت داخلية «الوحدة» تملك إحصائيات تثبت تورط المهاجرين في الجرائم، وسبب عدم إعلانها.

وتشهد ليبيا ازدواجية في السلطة بين حكومة «الوحدة» برئاسة عبد الحميد الدبيبة، التي تتخذ من العاصمة في غرب البلاد مقراً لها، وحكومة أسامة حماد المكلفة من البرلمان وتحظى بدعم قائد «الجيش الوطني» المشير خليفة حفتر، وتدير المنطقة الشرقية وبعض مدن الجنوب.

إحصائيات مشكوك في صحتها

شكك رئيس مركز بنغازي لدراسات الهجرة واللجوء، طارق لملوم، في «دقة أرقام الطرابلسي»، خصوصاً أن الوزير أقر بعدم امتلاك إحصائيات رسمية لعدد المهاجرين.

واعتبر لملوم في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «تقديرات الوزير حول التحويلات المالية غير دقيقة»، وقال إنه «جمع العناصر الأجنبية كافة من مهاجرين وعمالة وافدة، ولاجئين من الصراعات في بلدانهم في حزمة واحدة».

وأضاف موضحاً: «لقد افترض الطرابلسي أن الجميع يعملون في السوق الليبية، مقدراً متوسط تحويل كل فرد 200 دولار، مما يجعل الحصيلة نحو 600 مليون دولار شهرياً، أي 7 مليارات سنوياً».

قارب مهاجرين سريين جرى اعتراضه من قبل خفر السواحل الليبية (الوحدة)

وأشار لملوم إلى أن «الطرابلسي تعمّد ربط ملف المهاجرين بأزمة نقص السيولة، وارتفاع سعر صرف العملة الأجنبية، في ظل وطأتهم على الأسر الليبية»، واتهمه بـ«السعي للسيطرة على ملف الهجرة عبر برنامج الترحيل، لتحقيق مكاسب من ورائه، من خلال عقود إعاشة المهاجرين ونقلهم بالطائرات». كما توقع عدم استجابة الأوروبيين لمطالب الطرابلسي بدعمه، نظراً لوجود برنامج العودة الطوعية منذ سنوات بدعم المنظمة الدولية للهجرة، موضحاً في هذا السياق أن سيطرة حكومة «الوحدة» تقتصر على الغرب الليبي فقط، فضلاً عن عدم إعلان الوزير عن أعداد من تم ترحيلهم وفق برنامج وزارته.

تعزيز الحدود

قدَّرت المنظمة الدولية للهجرة بداية العام الحالي أعداد المهاجرين في ليبيا بـ«867 ألفاً من 44 جنسية».

ورغم تزايد أعداد المهاجرين، فإن الناشط المدني محمد عبيد رأى أن الحل يكمن في «تعزيز تأمين الحدود وتنظيم وجودهم، لا في إثارة فزع المواطنين بالأرقام». واعتبر في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «تنظيم سوق العمل ودمج العمالة الوافدة قانونياً يحد من الوجود غير المشروع».

وشهدت ليبيا حملات احتجاجية ومظاهرات ضد ارتفاع أعداد المهاجرين، مع التحذير من المخاطر الصحية لتجمعاتهم العشوائية، وملاحظة البعض لانتشار السلاح بين صفوفهم.

قوات الأمن الليبي خلال اعتقال مهربين للبشر جنوب ليبيا (مديرية الأمن)

من جانبه، يعتقد الباحث في الشؤون الأفريقية، موسى تيهوساي أن «أعداد المهاجرين تفوق ما أعلنه الطرابلسي، نظراً لدخول أعداد كبيرة يومياً من الحدود الجنوبية الوعرة، إضافة إلى من تتم إعادتهم من البحر تحت ضغط أوروبي». ويرى في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «شبكات التهريب تنسج علاقات مع متنفذين في الأجهزة الأمنية شرق ليبيا وغربها»، مقللاً من جدوى «العودة الطوعية» للمهاجرين، معتبراً أنها لا تتجاوز 1 في المائة من العدد الإجمالي للمهاجرين.

ورهن معالجة الملف «بتوحيد السلطة التنفيذية والمؤسسات الأمنية والعسكرية»، مؤكداً أنه «لا يمكن وضع استراتيجية موحدة في ظل وجود حكومتين متنازعتين». واعتبر أن «بعض الأطراف توظف الهجرة وتدفقاتها لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية».


وزير الخارجية المصري يدعو إلى نشر قوة استقرار دولية في غزة «بأسرع وقت»

وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي (د.ب.أ)
وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي (د.ب.أ)
TT

وزير الخارجية المصري يدعو إلى نشر قوة استقرار دولية في غزة «بأسرع وقت»

وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي (د.ب.أ)
وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي (د.ب.أ)

دعا وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي اليوم (السبت) إلى الإسراع في نشر قوة استقرار دولية نصت عليها المرحلة الثانية من اتفاق السلام في قطاع غزة، لمراقبة وقف إطلاق النار.

وقال عبد العاطي خلال منتدى الدوحة: «فيما يتعلق بقوة الاستقرار الدولية، فإننا بحاجة إلى نشر هذه القوة بأسرع وقت ممكن على الأرض؛ لأن أحد الأطراف -وهو إسرائيل- ينتهك وقف إطلاق النار يومياً... لذا نحن بحاجة إلى مراقبين».

وأضاف أن معبر رفح البري بين مصر وغزة «لن يكون بوابة للتهجير؛ بل لإمداد غزة بالمساعدات الإنسانية والطبية فقط».

وحسب مشروع قرار بمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة واقترحته واشنطن، ستستخدم القوة الدولية «جميع التدابير اللازمة» لنزع سلاح غزة، وحماية المدنيين، وإيصال المساعدات، وتأمين حدود القطاع، ودعم قوة شرطة فلسطينية مدربة.