مثل «كرة ثلج» متدحرجة، تبدو الأزمة الليبية، منذ إسقاط نظام الرئيس الراحل معمر القذافي، إلا من مساعٍ أممية، بموازاة تصاعد «حرب النفوذ» السياسي والعسكري، وظهور بعض الطبقات المتمترسة خلف «ثروات متضخمة»، وترسانة من الأسلحة.
فمنذ قدوم عبد الإله الخطيب، وزير الخارجية الأردني الأسبق إلى ليبيا، وتسلمه ملف الأزمة لعدة أشهر، مروراً بتسعة مبعوثين آخرين، وصولاً إلى الدبلوماسية الغانية هانا تيتيه، والليبيون يعتصرون الصبر علّهم يجدون حلاً لمعضلتهم السياسية.
أسباب متعددة للأزمة
من وجهة نظر سياسيين عديدين، تتنوع أسباب المشكلة وتتعدد، بعضها ذات صلة بـ«قوى خارجية» متداخلة في ملف الأزمة منذ أن أطاح حلف الـ«ناتو» بنظام القذافي، وأخرى لها صلة بما يطلق عليهم «الأطراف المتنفذة». وما بين هذا وذاك أضحت ليبيا ملعباً متسعاً لـ«صراع أسري»، تفاقمت على هامشه طبقات طفيلية جديدة باتت هي الأخرى تحظى بنفوذ واسع..

وهنا يشخّص أبو القاسم قزيط، عضو المجلس الأعلى للدولة، جانباً من أزمة بلده، التي يرجعها إلى تغوّل بعض الدول التي تتصارع في ليبيا. ويرى في حديثه إلى «الشرق الأوسط» أن «بعض المبعوثين الأمميين الذين توافدوا عليها لم يكونوا يمتلكون فهماً حقيقياً للحالة الليبية، وبعضهم قال "إنهم كانوا يخضعون لإكراهات بعض الدول».
والخطيب الذي رحل عن ليبيا بعد أربعة أشهر فقط، أتى من بعده البريطاني إيان مارتن، ثم طارق متري، الأكاديمي اللبناني، ثم الإسباني برناردينو ليون، وأعقبه الألماني مارتن كوبلر، والأكاديمي اللبناني غسان سلامة، وستيفاني ويليامز الدبلوماسية الأميركية، ويان كوبيتش الدبلوماسي السلوفاكي السابق، ثم عبد الله باتيلي.

وطرح غالبية هؤلاء المبعوثين أفكاراً، وتقدموا بمبادرات، بعضها أثمر نتائج ملموسة مثل اتفاق «الصخيرات» الذي وقُع في المغرب نهاية عام 2015، وبعضها الآخر تعثرت لأسباب عديدة.
سطوة التدخلات الخارجية
يتمحور الخطاب السائد بين قطاع واسع من السياسيين الليبيين في الغالب حول سطوة «التدخلات الخارجية»، وقدرتها على التأثير في عمل البعثة الأممية، وهنا يقول قزيط إن أي مبعوث يأتي إلى ليبيا «إن لم يكن مدعوماً من بعض الدول الكبرى، فإنه لا يستطيع إنتاج أي حل حتى لو كان كفؤاً».
ويرى قزيط أن ليبيا «أصبحت ساحة مكشوفة للصراع الإقليمي والدولي؛ وبالتالي فإن حجم هذا التدخل هو أكبر بكثير من قدرة أي موظف دولي (...). والحقيقة، فإنه باستثناء بعض المحطات، لا توجد إرادة دولية حقيقية لإنتاج حل في ليبيا». وانتهى قزيط إلى أن البعثة «باتت منذ قرابة 3 سنوات غير محفزة، وأصبحت كابحة ومعرقلاً لكل جهود التوافق».

وسعى باتيلي في 23 نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، لطرح مبادرة تهدف لإحياء مسار الحل السياسي، تمحورت حول جمع القادة الليبيين على طاولة حوار لحل الخلافات المتعقلة بالانتخابات، لكنها تعثرت.
وفي ظل تصاعد «حرب النفوذ» السياسي والعسكري بين جبهتي شرق ليبيا وغربها، تواصل البعثة الاستماع إلى جميع الأطراف السياسية والاجتماعية، فضلاً عن جولات خارجية ذات صلة بالعملية السياسية الليبية.
وعدّ مصدر مقرب من البعثة أن أي حديث عن كونها «تعرقل حلول التوافق في ليبيا مجافٍ للحقيقة»، وقال لـ«الشرق الأوسط» إن دور البعثة «التقريب بين الأطراف السياسية دون تدخل، أو فرض أي توجه، وهو ما حدث في كل اللقاءات السابقة التي تجمع ممثلين من مجلسي النواب والدولة».

ولفت المصدر - الذي تحفظ على ذكر اسمه لأنه غير مخول بالحديث للإعلام - إلى المساعي التي بذلتها ستيفاني خوري، نائبة رئيس البعثة، ثم ما تجريه راهناً المبعوثة تيتيه، وقال موضحاً إن اللجنة الاستشارية «قطعت شوطاً مهماً، ويجب دعمها للخروج من مأزق الجمود السياسي».
وعقدت اللجنة الاستشارية، التي شكلتها البعثة، 5 اجتماعات حتى الآن، ومن المقرر أن تقدم مقترحات إلى البعثة الأممية لدراستها في المرحلة المقبلة من العملية السياسية.
وتستعد تيتيه لتقديم إحاطة دورية أمام مجلس الأمن الدولي في 17 من أبريل (نيسان) الحالي، تتناول خلالها الوضع السياسي والأمني والإنساني داخل ليبيا والتطورات الراهنة.
وإذا كان هناك من يرى أن المبعوثين الدوليين «لم يخرجوا من جلباب الدول الكبرى، التي تسيطر على إدارة المشهد السياسي في ليبيا»، مثلما صرح ضو المنصوري، عضو الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور، لـ«الشرق الأوسط»، فإن المصدر المقرب من البعثة دافع باتجاه «تمسك الأطراف المتنفذة بالعمل على إبقاء الوضع على ما هو عليه؛ لضمان البقاء في مناصبهم».
واستند المصدر إلى إحاطة سابقة لباتيلي أمام مجلس الأمن الدولي قبيل تقدمه باستقالته من منصبه مبعوثاً أممياً في ليبيا، عندما قال إن المسؤولين الليبيين «يغلّبون مصالحهم الشخصية على مصالح البلاد».
وكان باتيلي قد انتقد ما أسماه بمواقف الأطراف السياسية «المتحجرة»، وقال إن «أنانية القادة المحليين تأتي على حساب المواطنين، ويجب أن تتوقف فوراً».
وانتهى ضو المنصوري إلى أن «التدخل الخارجي وعجز دول الجوار، وتفاقم الصراع بين الأفرقاء المحليين، سمح للدول المتصارعة بنقل صراعها إلى ليبيا، فأصبحت ميداناً للصراع، وهو ما نجم عنه نتائج سلبية، وتكديس للسلاح، وإنشاء القواعد العسكرية».
وتكافح ليبيا راهناً تأثير «صراع أسري»، يتصدر السلطة في غرب البلاد وشرقها، ونمى على هامشه صراع آخر، يتمثل في طبقات طفيلية جديدة باتت نفوذاً من الميليشيات المسلحة المدعومة بـ«ثروات متضخمة»، وترسانة من الأسلحة.