في مشهد غير معتاد في ليبيا الغنية بثرواتها النفطية، اختار عبد الله (اسم مستعار) أن يواجه الموت مع 38 مهاجراً من ليبيا وجنسيات مختلفة، عبر رحلة هجرة غير نظامية إلى أوروبا من خلال البحر المتوسط.
وبرغم شبح الموت الذي طارد هذا الشاب الليبي، مع تعطل القارب الحديدي الذي كان يقله مع آخرين، فإن قناعته لم تتزحزح عن ضرورة الهجرة غير النظامية من بلده الثري... وهو ما عده متابعون تغيراً نوعياً طرأ على ملف الهجرة غير النظامية في ليبيا منذ عام 2011، مع تجدد التساؤلات حول دوافع بعض الليبيين للهروب إلى أوروبا عبر «المتوسط».
ومنذ سنوات، تتعالى أصوات التحذير من ارتياد شباب ليبيين قوارب الموت إلى الشواطئ الأوروبية، لكن الشاب الليبي، الذي وصل إلى هولندا قبل أشهر، ما زال يترقب قرار الجهات المعنية هناك لمنحه الإقامة أو منعها عنه... ويبدي في حديث مع «الشرق الأوسط» قناعته «بعدم وجود أي آمال قريبة بحدوث استقرار سياسي واقتصادي في ليبيا، يكفل تحقيق العدالة المجتمعية بالفرص والوظائف».
ولا تتوفر إحصائيات رسمية عن أعداد المهاجرين الليبيين غير النظاميين إلى أوروبا، إلا أن أرقاماً غير رسمية تقدر أعدادهم بنحو 870 ليبياً منذ مطلع العام الحالي، من بينهم نساء وأطفال، وفقاً للناشط الحقوقي الليبي طارق لملوم.
وحسب لملوم، فقد جرى تسجيل نحو 300 مهاجر ليبي في ألمانيا، و250 في مراكز اللجوء الهولندية، و173 في إيطاليا، و150 في بريطانيا. ويستند لملوم في هذه الأرقام إلى تقديرات جهات رسمية في دول أوروبية وإفادات من بعض هؤلاء الشباب وبلاغات حررتها أسر المهاجرين في أجهزة الأمن الليبية.
ومنذ عام 2011، بات من المعتاد ضبط مهاجرين غير نظاميين من جنسيات أفريقية وآسيوية، علماً بأن أحدث أرقام المنظمة الدولية للهجرة تكشف ضبط 59889 مهاجراً غير نظامي وإعادتهم إلى ليبيا. لكن اللافت للمراقبين هو إقدام شباب ليبي على ارتياد أمواج الموت، هرباً من بلد ثري يتجاوز إنتاجه اليومي من النفط 1.3 مليون برميل، ويطمح لبلوغ حاجز مليوني برميل.
ومن بين تلك الحالات أيضاً عبد الله ابن مدينة بنغازي (شرق ليبيا)، الذي تمكن قبل قرابة العامين، من الوصول إلى سواحل أوروبا عبر ما يعرف بـ«قوارب الموت»، ولا يزال يتمسك بقناعته بصواب قراره، رغم ما انطوى عليه من مخاطر الموت غرقاً أو العودة لسواحل بلده مكبلاً لو تمكن خفر السواحل من إيقاف القارب.
ويفصل الشاب الليبي مبررات قراره خوض هذه المغامرة، قبل أن يكمل 20 عاماً بسبب «عجز أشقائه الذكور الستة خريجي الجامعات عن الحصول على فرص عمل». ويقول إن عدم تمكنه من الإيفاء بالمتطلبات المالية للحصول على تأشيرة بعض الدول الأوربية كوجود حساب بنكي لا يقل عن 5000 دولار، زاد من تزكية خيار ركوب البحر، مشيراً إلى أنه بالمقابل لم تزد تكلفة رحلته لجنوب إيطاليا عن 600 دولار، اقترضها من صديق له.
ويعتقد عبد الله أن «التعيينات الحكومية قاصرة على من يملك أقارب نافذين بالجهاز الإداري، ولم أرغب بالانتساب إلى الأجهزة الأمنية والعسكرية، فيما يفضل القطاع الخاص الاستعانة بالعمالة الوافدة لأنها تقبل برواتب ضئيلة».
وتقدر آخر أرقام رسمية نسبة البطالة في ليبيا بنحو 19 في المائة، فيما ترتفع نسبة الفقر إلى 40 في المائة عام 2023، بحسب النتائج الأولية للمسح الشامل للدخل والإنفاق الأسري 2023 - 2022، ودراسة لمصلحة الإحصاء والتعداد.
وفي بلد يعاني انقساماً سياسياً واعتقالات وإخفاء قسرياً في شرق البلاد وغربها، وفق إفادات أممية، فإن «التخوف من الاستهداف والاعتقال التعسفي من قبل قيادات أمنية بارزة أو مجموعات مسلحة بعموم البلاد» سبب آخر رئيسي عدّه لملوم إلى جانب البطالة، من العوامل التي دفعت بعض الليبيين لقبول المخاطرة بالهجرة عبر البحر.
ويعد «رفض دول الاتحاد الأوروبي نسبة غير هينة من طلبات الليبيين للحصول على تأشيرة سفر» من بين الأسباب التي رصدها الناشط الحقوقي لملوم، ملقياً باللائمة على ما رآه «تناقضاً وتصريحات الساسة الأوروبيين حول الشراكة مع ليبيا، ويعكس تعمق تخوفاتهم من طلب الليبيين حق اللجوء متى ما سمح لهم بالسفر لدولهم».
ورغم الإقرار بتدني أرقام الليبيين الذين يقدمون على الهجرة على متن قوارب الموت مقارنة ببقية الجنسيات، يحذر الناشط الحقوقي من «تزايد هجرة الشباب بأي وسيلة إذا استمرت حالة عدم الاستقرار السياسي والأمني، وطبقت سياسات التضييق المجتمعي التي تلوح بها سلطات غرب البلاد كشرطة الآداب».
بالمقابل، قلّل عضو مجلس النواب الليبي، عصام الجهاني، من الأسباب التي يرددها من يلجأون للسفر لأوروبا عبر «المتوسط»، معتبراً «إياهم ضحايا الترويج للحلم الأوروبي». وقال الجهاني لـ«الشرق الأوسط»: «للأسف كثير من الشباب الليبي يفضل العمل بالقطاع الحكومي لضمان الراتب دون بذل كثير من الجهد، وهو ما أدى لوجود أكثر من مليوني موظف بهذا القطاع، دون أن يكون هناك احتياج حقيقي لكل هذه الأعداد».