«رحلة شقاء لا تستثني أحداً»... كيف يحصل أهل غزة على الطعام؟

«الشرق الأوسط» رافقت طفلة وسيدة في صفوف «التكايا» الخيرية

فلسطينيون يتدافعون للحصول على طعام من تكيَّة خيرية بمدينة غزة (الشرق الأوسط)
فلسطينيون يتدافعون للحصول على طعام من تكيَّة خيرية بمدينة غزة (الشرق الأوسط)
TT

«رحلة شقاء لا تستثني أحداً»... كيف يحصل أهل غزة على الطعام؟

فلسطينيون يتدافعون للحصول على طعام من تكيَّة خيرية بمدينة غزة (الشرق الأوسط)
فلسطينيون يتدافعون للحصول على طعام من تكيَّة خيرية بمدينة غزة (الشرق الأوسط)

ما إن تدق عقارب الساعة الثانية عشرة ظهراً، حتى يهم وحيد أبو صبيح بمناداة ابنته بيسان البالغة من العمر 7 أعوام لحمل «طنجرة» صغيرة تجلب فيها شيئاً من طعام تقدمه تكيَّة خيرية تبعد عشرات الأمتار عن خيمته بمنطقة مدارس «الأونروا» في مخيم الشاطئ، غرب مدينة غزة.

أبو صبيح (47 عاماً) نازح من بلدة بيت لاهيا بشمال القطاع، ويعيش مع عائلته المكونة من 7 أفراد في خيمة لا تتعدى مساحتها 4 أمتار؛ ومثل كثيرين غيره، لا يجد طعاماً يقدمه لأطفاله.

تصطف بيسان، التي كان من المفترض أن تكون بمقاعد الدراسة، في طابور طويل، وسط حشد كبير من الأطفال والنساء والرجال، من أجل الحصول على نحو 400 غرام من «غذاء مطبوخ»، مثل العدس، أو الفاصولياء، أو البازلاء، أو الأرز، تقدمها التكية دون أي إضافات أخرى.

فتيات ونساء في انتظار تزويدهن بالطعام عند تكيَّة خيرية في غزة (الشرق الأوسط)

وتقف الطفلة نحو ساعة ونصف الساعة يومياً، وربما أكثر، حتى تحصل على الطعام. وفي أوقات أخرى تخرج باكراً لمزاحمة الآخرين على أبواب خيمة التكية.

وبكلمات طفولية بريئة تقول: «أنا بروح أجيب الأكل مشان أساعد أهلي ياكلوا لأنه ما فيه أكل عنا».

عجز وقهر

كمية الطعام التي تُحضرها بيسان لا تكاد تكفي وجبة الغذاء فقط، وفي أحيان تعود بلا أي طعام فلا تجد الأسرة ما تتناوله طيلة اليوم سوى بعض من زعتر أو حمص لديها، دون خبز أحياناً.

ويشرح الأب، الذي كان يملك يوماً محلاً صغيراً لبيع حاجيات الأطفال قبل أن يُدمَّر تماماً نتيجة القصف الإسرائيلي الذي طال متجره ومنزله منذ نحو عام، كيف أن طفلته تخرج يومياً لساعات كي تجلب هذه الكمية المحدودة، وكيف تدخل أحياناً في عراك مع بعض أقرانها المتزاحمين على الطعام.

ويضيف في حديثه لـ«الشرق الأوسط» أن سلوك طفلته اختلف بسبب الواقع الأليم، فباتت تزاحم الجميع لضمان موقع متقدِّم بين الصفوف، وأصبح صوتها يعلو على الآخرين وهي تحاول الحصول سريعاً على ما يتوفر من وجبات يومية.

تدافع لملء الطناجر بطعام أعدته تكيَّة خيرية بمدينة غزة يوم الأربعاء (الشرق الأوسط)

ويشعر أبو صبيح بالحيرة والعجز: هل يمنع طفلته من التوجُّه إلى التكية للحصول على بعض من طعام، أم يكلف أحد أطفاله الآخرين بذلك، وهو ما سيضطر بيسان للوقوف في طابور آخر للحصول على بضعة لترات من المياه الصالحة للشرب؟

يقول متحسراً: «هذا ما وصل إليه حال أطفالنا... الوقوف في طوابير طويلة للحصول على بعض الطعام أو المياه بدلاً من التوجه للمدارس والتعلُّم».

ويشير إلى أنه لم يعد لديه أي دخل مادي بعد أن فقد محله ومنزله واضطر للنزوح إلى جنوب القطاع في فترات سابقة، قبل أن يعود إلى الشمال في فترة وقف إطلاق النار المؤقت، ولا مجال لديه لتوفير أي طعام إلا من خلال التكيات الخيرية.

وتختنق العَبَرات في عينيه وهو يقول: «كنا عايشين حياة كويسة، وبنقدر نجيب لقمتنا بكل سهولة، وعايشين على القليل، لكن في الحرب هذه وصلنا لوضع ما بنقدر نوصفه حتى أصبحنا جعانين ومشردين».

النوم جوعى

يومياً تقف فاتن المصري (51 عاماً)، وهي من سكان بلدة بيت حانون ونازحة إلى حي الرمال، في طابور طويل وهي تحمل طنجرة ربما توضع لها فيها كمية صغيرة من العدس أو الأرز أو أي صنف من الطعام.

وتقول السيدة التي تعيش منذ أشهر في خيمة برفقة عائلتها المكونة من 13 فرداً، إن ساعات انتظارها للحصول على حصة من طعام لا تقل عن 3 كل يوم. ونظراً لعدم توفر الطحين (الدقيق)، تضطر عائلتها لتناول طعام التكية من دون خبز أو أي مكملات أخرى.

وبكلمات غلب عليها القهر والوجع أضافت لـ«الشرق الأوسط»: «الجوع وانشغال أولادي، كل واحد بيروح لتوفير مياه أو غيره، بيخليني اضطر أروح أقف في الطابور رغم إني مريضة سكري وما بقدر أقف لساعات طويلة، لكني مضطرة لأن ظروف عائلتي صعبة وما عنا إشي ناكله».

تزاحم للحصول على طعام من إحدى التكايا الخيرية بقطاع غزة (الشرق الأوسط)

وأيضاً مثل الآخرين، ما تتحصل عليه يكاد يكفي لوجبة واحدة فقط في اليوم. وعندما يحل المساء لا يجد أفراد الأسرة ما يأكلونه، فينامون جوعى.

ومع تزايد أعداد النازحين في الأيام الأخيرة، ازداد عناء الحصول على طعام من التكيات، وباتت الجهود مضاعفة، مع تزاحم الرجال والأطفال والنساء من أجل الحصول على كمية بسيطة تسد جزءاً من رمق.

تقول فاتن: «حياتنا صارت رأساً على عقب، كل إشي فيها تغير وانقلب، وما عاد فينا حيل نتحمل كل هالوجع وهالتعب وهالذل اللي وصلنا له».

تحذير من واقع «أكثر من كارثي»

وترصد «الشرق الأوسط» أن بعض التكيات باتت لا تستطيع مؤخراً توفير كميات كبيرة من الطعام، وأصبح بعضها يقلص الكميات التي يقدمها، في حين توقف البعض الآخر عن العمل تماماً.

وتشرف على تلك التكيات مؤسسات أممية ودولية وعربية وأخرى مبادرات شبابية خيرية.

تزاحم أمام تكية خيرية بمدينة غزة يوم الأربعاء (الشرق الأوسط)

ويقول علي مطر، أحد القائمين على إحدى «التكايا» غرب مدينة غزة، وهي المنطقة التي يتكدس بها النازحون من شمال قطاع غزة، إن هناك نقصاً واضحاً في المعلبات وكميات الأرز والعدس وغيرها لدى التجار، الأمر الذي بدأ يؤثر على قدرة الكثيرين على تقديم الطعام للمواطنين، مما يفاقم الواقع المأساوي والجوع الذي يعتصر أهل القطاع.

ويضيف قائلاً لـ«الشرق الأوسط» إن أسعار ما يتوفر من أرز وعدس وبعض المعلبات من الفاصولياء والبازلاء والفول وغيرها باتت باهظة، مما يزيد من التكلفة على المتبرعين ويرهقهم، لا سيما أن بعض المؤسسات الأممية والدولية بدأت فعلاً بإغلاق «تكاياها» لعدم توفر أي أنواع من الطعام في مخازنها.

ويشير إلى أن بعض المؤسسات المدعومة من جهات عربية وخيرية لجأت لتوحيد الجهود في محاولة لطهي الطعام معاً بعد النقص في الغذائية.

واستطرد: «إن لم يُتدارك هذا الخطر الذي بات يؤثر على عمل (التكيات) الخيرية، فإن الواقع في غزة سيكون أكثر من كارثي والمجاعة ستتسبب بوفاة العشرات أسبوعياً».

وتحت وطأة ضغوط دولية هائلة لوقف حملتها العسكرية المكثفة في غزة، والسماح بدخول المساعدات إلى القطاع، أعلنت إسرائيل أنها ستسمح بدخول مساعدات «أساسية»، وذلك بعد منع ذلك منذ الثاني من مارس (آذار) الماضي.

عمال في مخبز في دير البلح بوسط قطاع غزة، الخميس، بعد أن سمحت إسرائيل بدخول مساعدات إنسانية محدودة (أ.ف.ب)

غير أن منظمة «أطباء بلا حدود» وصفت المساعدات التي تسمح إسرائيل بإدخالها بأنها «غير كافية بشكل مثير للسخرية»، وتهدف فقط لتجنُّب اتهامها «بتجويع الناس» في القطاع المحاصَر.


مقالات ذات صلة

تركيا تحث إسرائيل وإيران على الالتزام بوقف إطلاق النار

شؤون إقليمية إردوغان متحدثاً خلال مؤتمر صحافي في مطار أنقرة في طريقه إلى لاهاي للمشاركة في قمة ناتو (الرئاسة التركية)

تركيا تحث إسرائيل وإيران على الالتزام بوقف إطلاق النار

دعت تركيا كلّاً من إسرائيل وإيران إلى الالتزام بوقف إطلاق النار وطالبت بوضع حد للتصعيد الإسرائيلي في المنطقة.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
المشرق العربي المرشد الإيراني علي خامنئي يستقبل زعيم «حماس» الراحل إسماعيل هنية وقائد حركة «الجهاد» زياد نخالة في طهران يوليو 2024 (أ.ف.ب)

«حماس» و«الجهاد الإسلامي» تطالبان إعلامهما بـ«دعم الرواية الإيرانية»

ذكرت مصادر فلسطينية مطلعة أن حركتي «حماس» و«الجهاد الإسلامي» طلبتا من وسائل إعلام تابعة لهما دعم الرواية الإيرانية في الحرب التي تخوضها طهران ضد إسرائيل.

«الشرق الأوسط» (غزة)
شؤون إقليمية صورة تذكارية للوزراء والمسؤولين المشاركين في الدورة الـ51 لمجلس «منظمة التعاون الإسلامي» في إسطنبول (أ.ف.ب)

إجماع في «الوزاري الإسلامي» بإسطنبول على ضرورة التضامن بمواجهة إسرائيل

أظهرت الدول الأعضاء في «منظمة التعاون الإسلامي» إجماعاً على ضرورة التضامن في مواجهة توسيع إسرائيل عدوانها بالمنطقة، وسط صمت المجتمع الدولي.

سعيد عبد الرازق (إسطنبول)
خاص فلسطينيون يحملون مساعدات قرب شاحنات لبرنامج الغذاء العالمي في مدينة غزة يوم 16 يونيو الحالي (أ.ب)

خاص مصادر لـ«الشرق الأوسط»: «كتائب القسام» تعمل بلا قيادة مركزية

كشفت مصادر في حركة «حماس» أن الجناح العسكري للحركة، «كتائب القسام»، يعمل حالياً بلا قيادة مركزية تقوده على مستوى قطاع غزة.

«الشرق الأوسط» (غزة)
المشرق العربي فلسطينيون يحاولون الحصول على الطعام من مطبخ خيري يقدم وجبات ساخنة في حي الرمال بمدينة غزة في 18 يونيو 2025 (أ.ف.ب)

«يونيسف»: غزة تواجه جفافاً من صُنع الإنسان وانهياراً لشبكات المياه

قالت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف)، اليوم (الجمعة)، إن غزة تواجه جفافاً من صنع الإنسان في الوقت الذي تنهار فيه شبكات المياه.

«الشرق الأوسط» (جنيف)

الجيش يعلن توقيف قائد تنظيم «داعش» في لبنان

جندي لبناني قرب سيارة استهدفتها مسيّرة إسرائيلية في جنوب لبنان (أ.ف.ب)
جندي لبناني قرب سيارة استهدفتها مسيّرة إسرائيلية في جنوب لبنان (أ.ف.ب)
TT

الجيش يعلن توقيف قائد تنظيم «داعش» في لبنان

جندي لبناني قرب سيارة استهدفتها مسيّرة إسرائيلية في جنوب لبنان (أ.ف.ب)
جندي لبناني قرب سيارة استهدفتها مسيّرة إسرائيلية في جنوب لبنان (أ.ف.ب)

أعلن الجيش اللبناني، اليوم الثلاثاء، توقيف قائد تنظيم «داعش» في لبنان، بعد سلسلة عمليات رصد ومتابعة أمنية.

وأضاف، في بيان، أن المواطن «ر.ف»، الملقب بـ«قسورة»، هو أحد أبرز قادة التنظيم، وشارك في التخطيط لعمليات أمنية، كما ضُبطت بحوزته كمية كبيرة من الأسلحة والذخائر الحربية، بالإضافة إلى أجهزة إلكترونية ومعدات لتصنيع طائرات مسيّرة.

وذكر البيان أن الموقوف كان قد تسلّم قيادة التنظيم في لبنان بعد توقيف سلفه المواطن «م.خ» الذي عينه التنظيم «والي لبنان»، والملقب بـ«أبو سعيد الشامي»، مع عدد كبير من القادة نتيجة عملية لمديرية المخابرات في ديسمبر (كانون الأول) الماضي.