ليس من الحكمة في شيء أن تحشر في زاوية ضيقة رجلاً اسمه صدام حسين وتُرغمه على القبول بك شريكاً في إدارة العراق. لا «البعث» يحب الشركاء ولا صدام يطيقهم.
في دفاتر «البعث» الذي عاد إلى السلطة في 17 تموز (يوليو) 1968 أيام منعطفات باهظة التكاليف. 30 يوليو (تموز) من تلك السنة كان المنعطف الأول، إذ أتاح لـ«البعث» الانفراد بالسلطة برئاسة أحمد حسن البكر وساعِده الأيمن صدام. شاءت المهنة أن ألتقي بعض المعنيين المباشرين بذلك النهار فقلت أشرك قراء «الشرق الأوسط» في رواياتهم.
أثارت هزيمة الجيوش العربية في حرب 1967 غضب الشارع العربي وحمّل الأنظمة مسؤولية «النكسة»، وهي كانت في الواقع نكبة. بدا الرئيس العراقي عبد الرحمن عارف الذي خلف شقيقه عبد السلام، ضعيفاً. قبضته متراخية في الجيش ورصيده محدود في الشارع. في ربيع 1968 تكاثر الهمس في الحلقات الضيقة عن تحفز جهات عدة للانقضاض على السلطة. ثمة من توقَّع أن تقع البلاد في قبضة عسكري.
كانت قيادة «البعث» تراقب المشهد. تخوفت من أن تستيقظ على انقلاب أو ما يشبهه. بدأت التخطيط للعودة إلى الحكم ثأراً من التجربة التي حدثت في 1963 وغرقت في الدم وانقضَّ عليها من جاءت به، وهو عبد السلام عارف.
سعت القيادة إلى تفادي دخول عودتها في نفق الدم وراحت تفكر في المواقع والعوائق. كان المقدم إبراهيم الداود آمراً للحرس الجمهوري الذي يبلغ عدد منتسبيه نحو عشرين ألفاً. إذا اختار الداود المقاومة ستندلع معركة دامية على أسوار القصر وأبعد منه. ومَن يدري فقد يؤدي الصدام نفسه إلى تقدم طرف ثالث ومن الجيش، لتقديم نفسه في صورة المنقذ.
قلّب المجتمعون الخيارات وفضّلوا في النهاية خيار مفاتحة الداود وعلى أمل اجتذابه إلى الحركة الانقلابية أو تحييده على الأقل. توقفوا قبل قرارهم عند نقطة مهمة وهي أن إبراهيم الداود شديد التأثر بصديقه عبد الرزاق النايف، معاون مدير الاستخبارات العسكرية. وكان الشائع عن النايف أنه رجل قوي بارع في الإمساك بالخيوط وتربطه علاقات غامضة بأجهزة غربية، وأن الداود ينقاد له بشكل أعمى.
مهمة معقدة من هذا النوع تحتاج إلى الدهاء. كان لا بد من أن تُسند إلى أحمد حسن البكر الذي يجمع في شخصه صورة العسكري وبراعة الحزبي مع خبرة في نصب المكائد.
ضمن منظمو الانقلاب تعاون الضابط سعدون غيدان الذي كانت لديه قوة متمركزة في قصر الرئاسة وتضم عدداً من الدبابات.
بدوره التقى البكر الداود وأطلعه على مشروع إطاحة عارف. قال له: «دعنا نضمن بقاء هذا الموضوع سراً بيننا وبينك. أنت رجل متدين فنقسم على القرآن أن هذا الكلام الذي أحدِّثك به لن يخرج إلى شخص ثالث». وطبعاً كان البكر يقصد النايف. أقسم الداود في 15 يوليو، لكنه لم يتردد في إبلاغ النايف.
وقعت قيادة «البعث» في مأزق. لم يعد السر سراً وصارت المعلومات في يد رجل خطر اسمه عبد الرزاق النايف، فكيف سيتصرف بها. بات مفتاح إنجاح أو إفشال المحاولة في يده. لم يكن «البعث» راغباً على الإطلاق في إشراك رجل يهمس كثيرون في البلاد بأنه «صاحب علاقات مشبوهة مع الأجهزة الغربية».
في تلك المرحلة، لعب عضو القيادة صلاح عمر العلي دوراً كبيراً. سأترك القارئ مع ما سمعته منه. قال العلي: «صباح 16 تموز أبلغْنا زُمَر التنفيذ المدنية والعسكرية بالصيغة النهائية لمهامها. فكَّرنا في البداية بتنفيذ العملية في 14 تموز لقيمته الرمزية (ذكرى انقلاب 1958 الذي أُعلنت بعده الجمهورية)، ثم فكرنا في اليوم التالي، لكنَّ اعتبارات عملية اضطرتنا إلى التأخير. في 16 أخرجنا الأسلحة المخبأة في الأوكار الحزبية ومعها كمية من الملابس العسكرية للتمويه. وفي الثامنة مساءً التقينا في بيت البكر في حي علي الصالح على شارع 14 رمضان. كان علينا أن نضع اللمسات النهائية بانتظار ساعة التنفيذ عند الثانية والنصف بعد منتصف الليل. وهنا وقعت المفاجأة».
الرسالة الصاعقة
كان المجتمعون كأعضاء في القيادة القطرية للحزب يتداولون في آخر الاستعدادات حين طرق الباب. ذهب البكر، ففتح ثم عاد حاملاً ورقة صغيرة. فجأة قال البكر إنها رسالة من المقدم عبد الرزاق النايف يقول فيها: «لديَّ معلومات أنكم ستقومون بهذه العملية. أضم صوتي إلى صوتكم. أنا معكم وجاهز لتنفيذ أي مهمة وتوكلوا على الله».
يتذكر العلي أن «البكر قال: هذه الرسالة بين أيديكم. أريدكم الآن أن تبحثوا في الأمر وتتخذوا القرار المناسب. كان للرسالة التي حملها ضابط برتبة ملازم يعمل مرافقاً للنايف وقع القنبلة. ناقل الرسالة بعثيٌّ من دون أن يدري رئيسه، لكنَّ ذلك لا يُقلل من حجم المشكلة. حصل تشاور مع شيء من الارتباك. النايف ضابط قوي وشديد الذكاء وطَموح، مما يجعل دوره يفوق موقعه. قلَّبنا الأمر على مختلف الجهات؛ إذا ألغينا العملية مَن يضمن أن النايف لن يغتنم المناسبة لكشفها وذبْحنا تماماً، فهو سيرى أننا تحركنا من دون اقتراح بإشراكه وألغينا العملية لأنه علم بها؟ بدا واضحاً أن الإلغاء سيعني كارثة للحزب. من جهة أخرى فإن إشراك النايف يعد مغامرة بدوره. كان واضحاً أن الداود لم يلتزم اليمين الذي أقسمه وأدخلنا في ورطة سيدفع ثمنها.
في النهاية قررنا السير في التنفيذ وبعثنا إلى النايف بالجواب الآتي: تعمَّدنا عن قصد ودراية عدم إبلاغك والسبب وجودك في موقع حساس وخوفنا عليك. إننا أبلغنا الأخ إبراهيم الداود كي لا نبلغك مباشرةً تجنباً للإحراج واعتبرنا أن هذه الطريقة الأجدى والأنفع وكنّا نعرف أنه سيبلغك. لقد اتخذنا قرارنا بالسير في العملية وستكون رئيساً لوزراء العراق إذا وفقنا الله. الواقع أننا اتخذنا قرارين متلازمين: الأول إغراء النايف بالمشاركة عن طريق عرض رئاسة الوزراء عليه. القرار الثاني وجوب التخلص من النايف والداود في أقرب فرصة. وقررنا أن يكون اقتحام القصر الجمهوري من مسؤولية أعضاء القيادة القطرية.
قبل التنفيذ التقينا في بيت عبد الكريم الندى، شقيق زوجة أحمد حسن البكر. كان عبد الكريم موظفاً في السكة الحديد ويقيم في مبانٍ مخصصة لها قرب الإذاعة في منطقة الصالحية. طبعاً لا داعي إلى وصف المشاعر في تلك الساعات الحاسمة. جلسنا في الشقة، أعضاء القيادة التسعة، وبينهم البكر وصدام، إضافةً إلى عدد من الأشخاص بينهم حردان التكريتي على ما أذكر. أي إن رقم الموجودين في الشقة كان أقل من عشرين. وكانت الخطة تقتضي أن يكون الداود وغيدان في انتظارنا».
القبض على القصر
وأضاف: «ارتدينا ملابس عسكرية وشارات ضباط. وفي التوقيت المحدد حضرت شاحنة عسكرية فصعدنا إليها واستقلَّ القسم الآخر سيارتين مدنيتين. ووصلنا إلى مدخل القصر بثيابنا العسكرية ورشاشاتنا. عند مدخل كتيبة الدبابات كان سعدون غيدان في انتظارنا وفتح باب الكتيبة. انضم إلينا أيضاً عدد من الشبان الحزبيين كنا قد أرسلناهم سراً للتدرب على استخدام الدبابات. فوجئنا أن الدبابات المرابطة حول القصر حديثة ولم يتمكن هؤلاء الشباب من تشغيلها. صدفةً نجح شاب في تشغيل دبابة وراح ينتقل من واحدة إلى أخرى فاستكملنا محاصرة القصر.
في مقر كتيبة الدبابات أقمنا مقر قيادتنا. وبادر البكر إلى الاتصال بعبد الرحمن عارف الذي كان نائماً. بين الرجلين صداقة وزمالة ولقاءات عدة. فوجئ عارف وقال للبكر الذي كنا إلى جانبه: خير أبو هيثم، ما القصة؟ فردَّ عليه: يا أبو قيس إن قيادة الثورة أنجزت مهمتها وسيطرت على كل البلد. باسم قيادة الثورة ندعوك أن تكون عاقلاً ومدركاً للأمور وأن تتحاشى أي محاولة. أنصحك بأن تسلّم نفسك لقيادة الثورة، وفي المقابل لك الأمان الكامل والمطلق والأمر نفسه بالنسبة إلى عائلتك. العملية لا تستهدف شخصك. الهدف إنقاذ البلاد من مشكلات ربما تترتب على استمرار حكمكم الضعيف وربما تدخل البلاد مجدداً في حمام دم. أرجوك أرجوك أرجوك سلِّم نفسك ولا تَقُم بأي محاولة. كل شيء انتهى وأنت تعرف ماذا أعني.
ليس من السهل على رئيس دولة التجاوب مع دعوة من هذا النوع. حاول عبد الرحمن عارف استكشاف الأجواء فاتصل بعدد من قادة الفرق في معسكرات خارج بغداد ووجد الأبواب مقفلة. بعد نحو عشر دقائق طلبه البكر ثانية وألحَّ عليه أن يسلِّم نفسه. وبعد دقائق أجرى معه اتصالاً أخيراً حازماً وقال له: إذا لم تسلِّم نفسك فأنت الذي سيتحمل المسؤولية. مسؤولية حياتك ومسؤولية حياة عائلتك. عندها أوعزنا إلى أحد الضباط بأن يطلق فوق القصر بضع طلقات مدفعية. عندما سمع عارف دويّ القذائف أدرك أنه لا مجال للمساومة فبادر إلى الاتصال هذه المرة للتفاوض على عملية التسليم. عندها ذهبت أنا وأنور عبد القادر الحديثي إلى الباب الرئيسي للقصر. خرج عارف فاصطحبناه في سيارة عسكرية صغيرة إلى مقر كتيبة الدبابات.
كان الرجل خائفاً ومرعوباً. راح يرتجف ويطلق كلاماً مبهماً. ربما لم يكن واثقاً أن سلامته مضمونة. عاملناه باحترام لكنَّ موقفنا لم يبدد قلقه. كنا قد اتفقنا سابقاً على أن يغادر عارف البلاد، إذ لا حاجة إلى اعتقاله. وبانتظار تحضير الطائرة التي ستُقلّه إلى الخارج طرح اقتراحاً بأخذه إلى بيت حردان التكريتي. قاد حردان السيارة وفي داخلها عارف وأنا. كان الرجل قلقاً بالفعل.
لم يصدق أن طائرته قيد التحضير. كان يعتقد أننا نقتاده إلى مكان ما لقتله. ولأنني كنت مرتدياً الملابس العسكرية ومسلحاً كان عارف يزداد قلقاً كلما قمت بأي حركة عادية. وعلى مدى الطريق كان يردد ما معناه أنه ابتُلي برئاسة الجمهورية وأنه نادم على قبولها. في النهاية أكدنا له أن سلامته مضمونة وأن باستطاعته أن يأخذ معه عائلته وكل ما يحتاج إليه. وهذا ما حصل صباحاً وأعتقد أن الطائرة أقلَّته إلى تركيا.
طبعاً في بداية العملية توجهت مجموعة واعتقلت رئيس الوزراء طاهر يحيى من منزله وهكذا عاد (البعث) إلى السلطة ومن دون إراقة دماء».
شجاعة صدام... وقسوته
سألت العلي عن سلوك صدام في تلك الساعات فأجاب: «تصرف تماماً كما تصرف الآخرون؛ ارتدى الملابس العسكرية وحمل رشاشه أسوةً بسائر أعضاء القيادة القطرية.
إن عملنا لإسقاط صدام يجب ألا يدفعنا إلى تزوير الوقائع. يمكن اليوم اتهام صدام بأشياء كثيرة لكن لا يمكن القول إنه غير شجاع. صدام رجل اعتاد المواقف الصعبة. شجاعته لا تحتاج إلى دليل وقسوته كذلك. يجب هنا أن نتنبه إلى مسألة أن العمل الحزبي كان صعباً وشاقاً وأن صدام لم يكن في تلك الفترة نجماً ولم يصادر القرار. أستطيع القول إنه كان حزبياً وملتزماً قرارات الحزب».
تسلم «البعث» السلطة لكنَّ قيادته كانت تنظر إلى رئيس الحكومة النايف، ووزير الدفاع الداود كجسمين غريبين قابلين للانفجار في أي لحظة. كان صلاح عمر العلي شريكاً في مكيدة القصر التي استهدفتهما، وها هي روايته: «عقدنا اجتماعاً للقيادة القطرية لمراجعة بعض القرارات التي اتخذناها سابقاً وبينها قرار إزاحة النايف والداود. تحدث البكر، وقال: اضطررنا إلى إشراك النايف لأنه اكتشف خطتنا وتخوفنا أن يتسبب في ذبحنا إذا تجاهلناه. وعدناه برئاسة الوزراء ونفَّذنا الوعد، وهو لم يغدر بنا ساعة التنفيذ. حين قررنا إشراكه قررنا أيضاً إزاحته في أسرع وقت. لكن اليوم أريد أن أقول إن أحداث 1963 بين (البعثيين) والشيوعيين لا تزال في ذاكرة الناس بسبب ما رافقها من سفك دماء. أخشى إذا أطحنا النايف اليوم أن نُتهَم بالغدر ويتعزز اقتناع الناس بأن التصفيات قادمة. ماذا لو استمر في التعاون معنا؟ وما الذي يدعونا إلى الإطاحة به؟ فلنعطه فرصة. كلنا لدينا أخطاء. أنا أقترح أن نستمر في التعاون وإذا وجدنا منه سلوكاً مختلفاً نقرر في حينه. وافقناه وبدأ النايف يمارس عمله رئيساً للوزراء.
بعد أيام دعانا البكر إلى اجتماع طارئ للقيادة القطرية. قال: تذكرون جيداً ما قلته عن النايف في اجتماع سابق. أنا الآن أدعوكم أن تتحركوا وبأسرع وقت للإطاحة به. سألناه عن السبب، فأشار إلى تقارير تفيد بأن رئيس الوزراء الجديد يتحرك وبسرعة جنونية للإطاحة بحكم الحزب. وقال إن النايف اتصل بعسكريين لتجنيدهم ضد الحزب ولم يكن يعرف بانتماء بعضهم إلى «البعث». وأضاف: أسرعوا يا رفاق قبل أن يُطيح بنا. هذا كل ما أريد قوله وقبل أن يأتينا إلى هذه الغرفة ويذبحنا جميعاً. سأغادر الآن. اجتمعوا وخططوا للخلاص منه وأنا موافق على ما تقررون.
في اليوم التالي، اجتمعنا في منزل صالح مهدي عماش الذي كان وزيراً للداخلية، وفي غياب البكر، إذ تخوفنا من أن يطْبق النايف على الجميع في مكان واحد. وضعنا الخطة واتفقنا على التنفيذ الذي أُوكل إلى اثنين، أنا وصدام. وكانت الخطة تقضي بالتخلص من النايف والداود، أي من رئيس الوزراء ووزير الدفاع.
كانت لدينا قطعات عسكرية في الأردن. فقررنا أن يذهب وزير الدفاع إبراهيم الداود لتفقدها على أن نرسل سراً في الوقت نفسه أعضاء من المكتب العسكري في الحزب لاعتقاله وإرغامه على التوجه إلى إسبانيا. وفي هذا الوقت ننفّذ الشق الثاني من الخطة المتعلق بالنايف وبالتزامن مع ما يجري في الأردن.
في 30 تموز، أُلقي القبض على الداود وأُرسل عنوة إلى إسبانيا. وفي الوقت نفسه تم إنهاء قصة النايف. كان من عادة رئيس الوزراء الجديد أن يأتي إلى القصر لتناول الغداء. وبعد الغداء يتوجه مع البكر إلى مكتب الأخير لتدارس بعض شؤون الدولة. في ذلك اليوم وبعد الغداء، دخلا إلى المكتب وكان معهما صالح مهدي عماش. ووفقاً للخطة دخلتُ وصدام وفي يد كل واحد منا رشاش وطلبنا من النايف أن يستسلم. في البداية كان شرساً وحاول أن يسحب مسدسه فلم يتمكن. بعدها راح يتوسل ويقول: أنا لديَّ عائلة وأطفال.
كان لا بد من استكمال التنفيذ سريعاً. النايف عسكري ورئيس وزراء ولا بد من إخراجه من القصر من دون لفت نظر حراسه. أبلغناه بأن عليه أن يخرج كأن شيئاً لم يحدث وأننا سنقتله لو أرسل إلى مرافقيه والعسكريين أي إشارة بحدوث شيء ما. صعد النايف إلى سيارة ورافقه صدام الذي كرر له أنه سيقتله إذا أبدى أي مقاومة. خرجت السيارة من باب خلفي للقصر واستسلم النايف لقدره وكانت الطائرة في انتظاره وغادر البلاد إلى المغرب».
مرارات الداود
كان إبراهيم الداود يهرم مع المرارات حين التقيته في الرياض. أصرَّ على القول: «أنا قائد ثورة 17 تموز وقد سرقها (البعث) مني... كنت مسؤولاً عن أمن القصر ولو لم أُسقطه أنا لَمَا تجرأ أحد على الاقتراب».
كان أحمد حسن البكر أستاذاً في نصب المكائد. خلال اجتماع للقيادة طرح اقتراحاً أن يتفقد وزير الدفاع الجديد القوات العراقية التي كانت مرابطة في الأردن. أُعطي الداود طائرة رئاسية ورافقه وفد من الضباط. لم يخطر بباله أنه وقع في الشَّرَك. قال إنه طلب طائرة للعودة فأُعطي طائرة صغيرة لكن بعد دخولها الأجواء العراقية، قال الطيار إن طائرتين حربيتين تهددان بإسقاط الطائرة إن هبطت في بغداد. وهكذا هبطت الطائرة في قاعدة «إتش 3» في الأنبار.
من القاعدة حملت الطائرة الداود إلى روما. استقبله السفير العراقي هناك، «وأبلغني أنهم حجزوا لي في فندق ليوناردو دافنشي. لم يكن لديَّ جواز سفر ولا مال ولا بيجامة. وكانت التعليمات من بغداد: لا تعطوه جوازاً إلا إذا وافق على العمل سفيراً. أمضيت 11 شهراً على هذه الحال وتحملت السفارة النفقات».
بعد إلحاح من عائلته، وافق الداود على عرض الحكومة فتسلم جوازه وغادر إلى مدريد سفيراً. يقول: «بقيت سفيراً إلى أن قتلوا أخي عبد الوهاب. بعثت ببرقية تقول إنني أرفض أن أكون سفيراً لحكومة خائنة عميلة يقودها اليهودي ميشال عفلق (مؤسس حزب البعث)».
استفسرت منه عن ملابسات مقتل أخيه فأجاب: «كان أخي ضابطاً وعمل سابقاً معاوناً للملحق العسكري في باكستان. تألم من قصتي وغدْر البكر والظلم الذي لحق بي. أُقيمت حفلة تخرج في كلية الأركان وكان أخي حاضراً. شَهَرَ مسدسه محاولاً اغتيال البكر فنام عليه المرافقون. اعتقلوه وعذّبوه وقتلوه. كان ذلك في 1971».
قال الداود إن البكر غدر به «كما غدر عبد الكريم قاسم بعبد السلام عارف الذي كان قائد ثورة 1958». وروى أنه بعد عودة «البعث» إلى السلطة رفض، كوزير للدفاع، طلباً عرضه عليه البكر لإعطاء مجموعة رتبة ضابط، وكان اسم صدام حسين بين تلك الأسماء.
استسلم إبراهيم الداود لمصيره في المنفى لكنَّ عبد الرزاق النايف الشاب لم يفعل. شارك في 1969 مع الضابط العراقي الصاخب عبد الغني الراوي في إعداد عملية انقلابية بدعم إيراني التقى خلالها الرجلان الشاه محمد رضا بهلوي. لكن النايف الذي أقلقه «تهور الراوي» انسحب من الخطة التي نجح صدام حسين في اختراقها. وبعد كشف المؤامرة قضت محكمة عراقية بإعدام الراوي والنايف.
لم يغفر صدام للنايف محاولته التآمر لإطاحة نظام «البعث». تعرَّض النايف في 1972 لمحاولة اغتيال في لندن أُصيبت خلالها زوجته. لكنه سيلتقي في فندق في لندن في 9 يوليو 1978 مسؤولاً عراقياً تقول عائلته إنه سعدون شاكر الذي تولى إدارة المخابرات العراقية ولاحقاً حقيبة الداخلية. ودَّع المسؤول النايف الذي قُتل برصاص شاب كان ينتظر أمام مدخل الفندق. وغادر «المسؤول العراقي» آمناً إلى بغداد.
أثارت قصة النايف المثيرة فضولي الصحافي. زرت عائلته وتكرمت أرملته باستقبالي. فتشت في حقائب تركها وتحدثت إلى نجله علي. أكد علي أن البكر نصب الفخ لوالده وألح عليه لتناول الغداء قائلاً: «لدينا غزال ولحم الغزال لا يُفوّت». وقال إن صدام المسلح هدده بجعل أولاده أيتاماً إن فكر في المقاومة ورافقه في السيارة حتى المطار. وكشف عن أن والده استقبل خلال إقامته في عمان بضيافة الملك حسين زائراً عراقياً، هو طارق عزيز، عرض عليه 40 مليون دولار في مقابل الامتناع عن أي نشاط سياسي.
ليس من الحكمة في شيء أن ترفض عرضاً قاطعاً وسخياً وأخيراً حين يقدمه رجل اسمه صدام حسين. والدليل أن رصاصة صدام طاردت النايف طويلاً ثم أدركته.