لم يكن تصريح «أبو عبيدة» الناطق باسم «كتائب القسام» الجناح العسكري لحركة «حماس»، قبل أيام، حول استعداد الكتائب لخوض حرب استنزاف طويلة ضد القوات الإسرائيلية داخل قطاع غزة، مجرد تهديدات، ولكنَّ «حماس» وطَّنت نفسها فعلياً لمثل هذه الحرب منذ شهور، بعدما أدركت أنها أمام حرب طويلة أجبرتها على تغيير التكتيكات.
وتدعم جميع الظروف السياسية والميدانية مثل هذا السيناريو، وهو الأقرب إذا لم نكن فعلاً في وسطه.
وتخوض «حماس» وباقي الفصائل، عملياً، حرب شوارع تحاول فيها استنزاف القوات البرية الإسرائيلية، بعد أن تخلَّت عن فكرة التصدي المستمر لهذه القوات ومنعها من التقدم، مستبدلةً بذلك شن هجمات مباغتة وسريعة في كل منطقة يمكنها فيها ذلك.
وبينما فقدت «القسام» وباقي الفصائل قوتها الصاروخية إلى حد كبير، فإنها تحتفظ بالعدد الأكبر من مقاتليها وأسلحتها الخفيفة بما في ذلك سلاح القاذفات الموجَّهة، مثل قذائف الآر بي جي، أو تلك التي طوَّرتها عن صواريخ التاندوم، والتي سمَّتها «القسام» صواريخ «الياسين 105» وكان لها أثر كبير في الحرب الحالية، والصواريخ المضادة للأفراد مثل «تي بي جي»، وجميعها تخدم الآن فكرة حرب الاستنزاف.
وقالت مصادر ميدانية لـ«الشرق الأوسط»، إن الخلايا الناشطة في غزة تعمل الآن فعلاً على استنزاف القوات الإسرائيلية، باستخدام الأسلحة الخفيفة وبعض القذائف الصاروخية الموجَّهة والعبوات الناسفة التي تمتلكها، رغم فقدانها الكثير من مخازن الأسلحة.
وأكدت المصادر أن «الآلاف من عناصر المقاومة ما زالوا ينشطون في مناطق متفرقة، وتلقوا التعليمات من أجل مواجهة طويلة مع القوات الإسرائيلية».
واستخدمت «القسام» والفصائل نهجاً يقوم على تنفيذ هجمات مباغتة حسبما تسمح الظروف في كل شارع وبيت وساحة، ولجأت من أجل ذلك إلى ترميم بعض الأنفاق الدفاعية التي قصفتها قوات الاحتلال خلال الحرب، وأُعيد استخدامها وتفخيخ فتحاتها وتفجيرها في القوات البرية الإسرائيلية.
وأكدت مصادر في «حماس» لـ«الشرق الأوسط»، أن كل ذلك هو جزء من حرب استنزاف حقيقية تخوضها المقاومة التي ما زال في جعبتها الكثير من المفاجآت.
تغيير التكتيكات
وقالت المصادر إن «القسام» تعاملت مع واقع جديد وغيَّرت التكتيكات بعدما فهمت أن المعركة أطول مما خُطِّط لها. وأضافت: «حرب الاستنزاف ستكون لصالح المقاومة. هذه أرضنا ونحن هنا باقون. هم الذين سيرحلون في النهاية».
لكن لا يخطط الإسرائيليون للرحيل سريعاً، وليست لديهم خطة واضحة. ومع اقتراب الحرب من شهرها الثامن، يقدِّر الجيش الإسرائيلي أن الحرب على جبهة غزة قد تستمر لأشهر أخرى (6 أشهر)، وربما تمتد لجبهات أخرى (لبنان)، وتستمر حتى عام 2026.
وحسب مصادر الجيش، فإنه يخطط لنقل العمليات في القطاع من «حربية» إلى «سيطرة أمنية» من خلال عمليات أكثر تركيزاً وفق الحاجة، في محاولة لاستنساخ سيناريو ما يجري في مناطق الضفة الغربية.
ولا تستبعد مصادر ميدانية من المقاومة، أن تكون تلك التقديرات صحيحة وتستمر الحرب لفترة طويلة، وأن تنتقل لمراحل مختلفة.
وقالت المصادر لـ«الشرق الأوسط»: «يحاول الاحتلال تثبيت قواعد قتال جديدة من خلال جعل غزة مستباحة. ونحن تتعامل وفق ذلك. نواجه هذه المشروع ونحبطه. وسنتعامل مع كل سيناريو وفق ما تحدده الظروف الميدانية، وحسب تحركات الاحتلال».
وأضافت المصادر: «إن كانوا يخططون فعلاً للبقاء طويلاً فعليهم أن ينتظروا الموت كل يوم. إن كانوا يخططون لاحتلال غزة فسيغرقون هنا».
ولم تتخذ الحكومة الإسرائيلية قرارها بعد، ويبدو أنه ليس لديها أي خطط جاهزة للتعامل مع «اليوم التالي» في غزة.
تكلفة عالية لإسرائيل
وأُثير جدل كبير في إسرائيل بعد تقرير نُشر في صحيفة «يديعوت أحرونوت» العبرية، جاء فيه أن حكماً عسكرياً أو مدنياً في غزة سيكون كبير التكلفة «البشرية والاقتصادية».
وحسب التقرير فإن مثل هذا الحكم تكلفته المالية نحو 6 مليارات دولار سنوياً، الأمر الذي دفع سياسيين واقتصاديين إلى رفض الفكرة، ودفع بوزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، تحديداً، إلى الخروج في مؤتمر صحافي تحدث فيه عن رفضه أن يكون لإسرائيل وجود دائم داخل قطاع غزة وبقاء قواته هناك، مطالباً رئيس حكومته بنيامين نتنياهو، بالعمل على إيجاد جسم بديل مثل السلطة الفلسطينية أو جهات أخرى، وهو طلب أغضب نتنياهو الذي جابه غالانت إعلامياً، برفضه تغيير ما قال عنها «حماسستان» بـ«فتحستان»، وأن قواته ستواصل القضاء على «حماس» بشكل كامل.
لكن إذا كانت إسرائيل ستحتل غزة أو تقاتل هناك لشهور طويلة أخرى، فهل حرب الاستنزاف الجارية ستكون لصالح إسرائيل أم لصالح «حماس»؟
يرى المحلل العسكري العقيد المتقاعد، منير حمد، أن إطالة أمد الحرب ليس من مصلحة إسرائيل، التي لا يمكن لجيشها أن يبقى طويلاً داخل قطاع غزة ويقاتل بهذا الزخم الذي نراه بعد 7 أشهر من الحرب. إن ما يجري في مخيم جباليا ورفح من قتال وجهاً لوجه، وما شهده حي الزيتون مؤخراً، يؤكد أن الجيش الإسرائيلي لم يُحدث التغيير المطلوب الذي كان يتوقعه في حرب تعتمد على الكرِّ والفرِّ من المقاومة الفلسطينية أكثر من أي تكتيكات أخرى.
وأضاف حمد لـ«الشرق الأوسط»: «المقاومة ورغم أن قدراتها العسكرية لا تمكن مقارنتها مع القدرات التي يمتلكها الجيش الإسرائيلي، قادرة على إلحاق الخسائر بقواته، واستمرار ذلك قد لا يتحمله المستوى السياسي ولا العسكري ولا حتى المجتمع الإسرائيلي».
وتوقع حمد أن تستمر عمليات الكر والفر من منطقة إلى أخرى، لحين الوصول إلى حل سياسي. والحل السياسي في غزة أكثر تعقيداً من العسكري.
وحتى اليوم مُنيت الجهود التي بُذلت من عدة أطراف لمحاولة التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق نار، بالفشل، كذلك فشلت الجهود من أجل وضع خطة واضحة لليوم التالي.
تماسُك مقابل خلافات
وبينما تظهر «حماس» أكثر تماسكاً في موقفها من ملف التهدئة بدعم من فصائل فلسطينية، أظهرت إسرائيل خلافات داخلية واسعة، سواء داخل مجلس الحرب المصغر، أو الموسع، وسط اتهامات لرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بأنه هو من يماطل ويتعمد إطالة أمد الحرب لأسباب شخصية.
من جهة أخرى، يقول الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم، لـ«الشرق الأوسط»، إن إسرائيل اعتادت أن تشن حروباً سريعة، واحتلال منطقة مثل قطاع غزة سيكون له تداعيات سياسية وأمنية واقتصادية لا تقوى عليها في ظل التفكك الداخلي والخلافات التي تزداد من حين إلى آخر.
ويرى إبراهيم أن إسرائيل ستبقى في وحل غزة في حال لم تجد حلاً سياسياً حقيقياً، وهذا الأمر تعيه الولايات المتحدة التي باتت تضغط بهذا الاتجاه وتستخدم عدة أوراق، من بينها ورقة بيني غانتس، في الضغط على نتنياهو من جهة، ووزراء اليمين المتطرف من جهة أخرى.
ويضيف إبراهيم: «ما دامت إسرائيل لا تريد السلطة الفلسطينية ولا حماس في حكم قطاع غزة وتفشل حتى الآن في إيجاد بديل حقيقي، فإنها ستتورط أكثر داخل القطاع... وستدفع ثمناً أكبر. وضعها معقَّد في غزة».
رمال غزة
ويتفق كثير من الإسرائيليين على أنه يجب على إسرائيل ألا تتورط. وبينما ينادي غالانت وغانتس وآخرون بموقف واضح «ضد البقاء في غزة بعد الحرب»، يريد الكثيرون وقف الحرب الآن.
الجنرال احتياط في الجيش الإسرائيلي إسحاق بريك، كتب في صحيفة «معاريف» مقالاً، حذَّر فيه من أن الجيش الإسرائيلي يبتعد أكثر وأكثر مع مرور الوقت عن تحقيق أهداف الحرب، ويغرق أكثر فأكثر في وحل غزة.
قال بريك إن «الجيش لا يملك القدرة على إسقاط حماس حتى لو طال أمد الحرب»، وإنه على وشك الغوص في رمال غزة في حرب استنزاف طويلة.