اشتباكات وقتلى وجرحى ودمار واسع في هجوم إسرائيلي على جنين

1000 جندي يشاركون في «عملية واسعة» بالضفة... والرئاسة الفلسطينية: حرب إبادة واضحة

الدخان يتصاعد في جنين خلال هجوم الجيش الإسرائيلي الثلاثاء (أ.ف.ب)
الدخان يتصاعد في جنين خلال هجوم الجيش الإسرائيلي الثلاثاء (أ.ف.ب)
TT

اشتباكات وقتلى وجرحى ودمار واسع في هجوم إسرائيلي على جنين

الدخان يتصاعد في جنين خلال هجوم الجيش الإسرائيلي الثلاثاء (أ.ف.ب)
الدخان يتصاعد في جنين خلال هجوم الجيش الإسرائيلي الثلاثاء (أ.ف.ب)

قتل الجيش الإسرائيلي 7 فلسطينيين على الأقل في عملية واسعة أطلقها في جنين شمال الضفة الغربية، الثلاثاء، وشهدت اشتباكات واسعة مع مقاتلين فلسطينيين، وخلّفت دماراً كبيراً في مخيم جنين.

واقتحم 1000 جندي إسرائيلي مدينة جنين ومخيمها في الهجوم الذي يُظهر تغييراً في أساليب عمل الجيش في الضفة، بعدما تحول إلى العمليات الواسعة التي تستمر أياماً، وتنتهي عادة بقتل عدد كبير من الفلسطينيين، واعتقال آخرين، وهدم مساكن، وتخريب بنى تحتية، بدل الغارات السريعة التي كانت تنتهي في غضون وقت قصير في نفس اليوم.

وصعّدت إسرائيل في الضفة بعد بداية الحرب على قطاع غزة في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، بدعوى كبح أي فرصة لتحولها إلى جبهة جديدة، لكنها بدأت تفتك بالمخيمات وبلدات أخرى تنشط فيها كتائب مسلحة.

جانب من تشييع معلّم فلسطيني قُتل خلال الهجوم الإسرائيلي على جنين الثلاثاء (رويترز)

ومنذ السابع من أكتوبر قتلت إسرائيل في الضفة 513 فلسطينياً، بينهم 127 من جنين وحدها.

واتهم الناطق باسم الرئاسة الفلسطينية، نبيل أبو ردينة، إسرائيل بشن حرب إبادة واضحة ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة.

وحذر أبو ردينة من خطورة استمرار هذه الحرب، وقال إنه على الرغم من قرار المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية إصدار مذكرة توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير دفاعه، فإن حكومة الاحتلال وجيشها يصران على «مواصلة جرائمهم، وذلك جراء الدعم الأميركي المستمر وغير المبرر لصالح الاحتلال».

وأضاف: «نحمّل الإدارة الأميركية مسؤولية هذه الأفعال الإسرائيلية الخطيرة التي تحرق المنطقة برمتها وتدفعها نحو الهاوية، فالدعم الأميركي بالمال والسلاح للاحتلال، وتوفير الغطاء لعدم محاسبته على جرائمه، يدفعان بقادة الاحتلال لارتكاب مزيد من الجرائم مثلما رأينا في شمال غزة ورفح، والثلاثاء، في جنين، تُنتهك الحرمات، ويُقتل الأبرياء والأطباء على مرأى ومسمع من العالم الذي يقف صامتاً تجاه هذه الجرائم التي تمس المدنيين، وكذلك تُدَمَّر البنية التحتية للمستشفيات والمدن والقرى والمخيمات الفلسطينية».

آليات إسرائيلية في جنين الثلاثاء (أ.ف.ب)

واقتحمت إسرائيل جنين بشكل واسع، ونشرت قواتها في المدينة، وحاصرت المخيم، ثم راحت تطلق النار على كل ما يتحرك في الشوارع، فقتلت 7 فلسطينيين في الساعات الأولى من العملية، بينهم طبيب ومعلم وطالب مدرسة، وأصابت 12 بجروح بينهم 2 في حال خطرة.

وأعلنت وزارة الصحة الفلسطينية أن القوات الإسرائيلية قتلت الطبيب أسيد جبارين (50 عاماً)، وهو اختصاصي جراحة عامة قُتل في محيط مستشفى جنين، والمعلم علام جرادات (48 عاماً)، المدرس في مدرسة «وليد أبو مويس الأساسية للبنين»، والطالب في الصف التاسع في مدرسة «ذكور الكرامة» الأساسية، ومحمود أمجد حمادنة (15 عاماً). ونعت وزارة الصحة بدورها الطبيب أسيد جبارين (50 عاماً)، مشيرة إلى أنه يعمل اختصاصي جراحة عامة منذ 17 عاماً في مستشفيات وزارة الصحة. وأضافت أن «جريمة قتل الشهيد الطبيب عمداً على يد قوات الاحتلال، تُضاف لسلسلة جرائم الاحتلال اليومية واعتداءاته المتواصلة على القطاع الصحي الفلسطيني بكل مكوناته، في قطاع غزة والضفة الغربية».

وكانت إسرائيل قد حاصرت إلى جانب مخيم جنين معظم مناطق المدينة بما في ذلك المستشفيات، قبل أن يتحول المخيم ومناطق أخرى في جنين إلى ساحات حرب. وقال الجيش الإسرائيلي إن عمليته التي قد تستمر أياماً عدة في جنين تستهدف «مكافحة الإرهاب».

آليات للجيش الإسرائيلي خلال الهجوم على جنين ومخيمها الثلاثاء (إ.ب.أ)

وأكدت وسائل إعلام إسرائيلية أن نحو 1000 جندي يعملون في جنين ومخيم جنين للاجئين بهدف القضاء على ضالعين بالعمل المسلح، وضرب البنية التحتية التابعة لهم.

وأعلنت فصائل فلسطينية أن مقاتليها يخوضون اشتباكات مع القوات الإسرائيلية في جنين.

وأكدت حركة «الجهاد الإسلامي» أن «سرايا القدس - كتيبة جنين» تخوض اشتباكات عنيفة مع قوات الاحتلال التي اقتحمت مخيم جنين.

كما أعلنت «كتائب الأقصى» التابعة لـ«فتح» أن مقاتليها يشتبكون مع القوات الإسرائيلية في مخيم جنين.

وأظهرت مقاطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي تعزيزات عسكرية هائلة في جنين، واشتباكات بالأسلحة، وانفجار عبوات ناسفة، وجرافات تخرب البنى التحتية، كما أظهرت دماراً واسعاً طال منازل وشوارع وبنايات وسيارات.

وفي أثناء العملية هدم الجيش منزل أحمد بركات الذي اغتيل بطائرة من دون طيار قبل نحو شهر ونصف، وتتهمه إسرائيل بأنه نفّذ عملية إطلاق النار في حرميش عام 2023، والتي قُتل فيها شخص إسرائيلي.

مسلح في جنين خلال المواجهات مع الجيش الإسرائيلي الثلاثاء (أ.ف.ب)

وبينما وصف رئيس المجلس الوطني الفلسطيني روحي فتوح ما يحدث في مدينة جنين، وكذلك في مخيم جباليا بغزة بـ«مذابح تصفوية تطهيرية وعدوان وحشي يشير إلى انفلات العنصرية اليمينية المتطرفة للاحتلال بكل صورها»، أدانت حركة «حماس» ما وصفته بـ«مجزرة الاحتلال في جنين»، وقالت إنها «لن تثني عزم شعبنا. مقاومتنا بالضفة ماضية ومتصاعدة مهما بلغت التضحيات».


مقالات ذات صلة

الأمم المتحدة تطلب رأي «العدل الدولية» حول التزامات إسرائيل بشأن المساعدات للفلسطينيين

شؤون إقليمية صورة أرشيفية لجلسة للجمعية العامة للأمم المتحدة (رويترز)

الأمم المتحدة تطلب رأي «العدل الدولية» حول التزامات إسرائيل بشأن المساعدات للفلسطينيين

صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة الخميس، على مشروع قرار لطلب رأي محكمة العدل الدولية بشأن التزامات إسرائيل بتسهيل المساعدات للفلسطينيين من المنظمات الدولية.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
المشرق العربي فلسطينيان ينقلان بسيارة إسعاف جثث قتلى سقطوا بضربة إسرائيلية في جباليا الخميس (أ.ف.ب)

مقتل العشرات بهجمات في قطاع غزة

تستغل إسرائيل المماطلة بإبرام اتفاق لوقف النار في قطاع غزة لشن هجمات تُودي بحياة العشرات كل يوم.

«الشرق الأوسط» (غزة)
المشرق العربي جندي إسرائيلي يوجّه بندقيته خلال مداهمة إسرائيلية في طولكرم شمال الضفة الغربية المحتلة أكتوبر الماضي (أ.ف.ب)

تحديث مقتل 6 فلسطينيين بنيران الجيش الإسرائيلي شمال الضفة الغربية

أفادت وسائل إعلام فلسطينية، الخميس، بمقتل وإصابة عدد من المواطنين جراء قصف الطيران الإسرائيلي مركبة في مخيم طولكرم بالضفة الغربية.

«الشرق الأوسط» (رام الله)
شؤون إقليمية أحد أفراد قوات الأمن الفلسطينية يلوح بيده خلال العملية في مخيم جنين (الفرنسية)

السلطة الفلسطينية ماضية في عمليتها ضد المسلحين بجنين

قال وزير الداخلية الفلسطيني، اللواء زياد هب الريح، إن العملية التي تشنها السلطة في مدينة جنين ومخيمها ستستمر حتى تحقيق أهدافها بفرض الأمن والنظام وبسط القانون.

كفاح زبون (رام الله)
العالم العربي قوات الأمن الفلسطينية (رويترز)

قوات الأمن الفلسطينية تحاول السيطرة على الاضطرابات بالضفة الغربية

تخوض قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية معارك مع مقاتلين إسلاميين في مدينة جنين منذ أيام، في محاولة لفرض سيطرتها على أحد المعاقل التاريخية للفصائل المسلحة.

«الشرق الأوسط» (الضفة الغربية)

3 سيناريوهات أمام الوجود العسكري الروسي في سوريا

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال تفقده قواته في قاعدة حميميم باللاذقية يوم 12 ديسمبر 2017 (سبوتنيك - أ.ب)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال تفقده قواته في قاعدة حميميم باللاذقية يوم 12 ديسمبر 2017 (سبوتنيك - أ.ب)
TT

3 سيناريوهات أمام الوجود العسكري الروسي في سوريا

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال تفقده قواته في قاعدة حميميم باللاذقية يوم 12 ديسمبر 2017 (سبوتنيك - أ.ب)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال تفقده قواته في قاعدة حميميم باللاذقية يوم 12 ديسمبر 2017 (سبوتنيك - أ.ب)

قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الخميس، إنه سيلتقي الرئيس السوري السابق بشار الأسد الذي لجأ إلى روسيا بعد سقوط نظام حكمه في دمشق. ولكن ماذا سيقول بوتين، هذه المرة، لحليفه السابق بشار الأسد؟ وما العبارة الأولى التي قد يوجهها المضيف للرجل الذي ساعدته القوات الروسية على الفرار من بلاده في ليلة عاصفة بالأحداث؟

إدارة الكرملين التي تحرص عادة على إعداد إخراج جيّد للمشهد التلفزيوني، عندما يتعلق الأمر بلقاءات بوتين، قد تفضل هذه المرة أن تبتعد عدسات الكاميرات قليلاً عن تغطية الحدث. وربما يظهر بوتين جالساً إلى طاولة صغيرة مع اللاجئ حديثاً إلى موسكو، من دون صوت. إذ لا مكان في هذا اللقاء للعبارات البروتوكولية المعتادة.

لكن، لماذا أعلن بوتين إذن أنه ينوي لقاء الأسد؟ هل ينوي توبيخه؟ يرى كثيرون في روسيا أن تعنت الرئيس السابق أضر كثيراً بجهود موسكو. وهدد عملياً كل إنجازاتها في سوريا. وربما يحرمها لاحقاً من وجودها العسكري المهم في هذا البلد.

الرئيسان بوتين والأسد في قاعدة حميميم على الساحل السوري يوم 11 ديسمبر 2017 (سبوتنيك - أ.ب)

للمقارنة، لم يعلن بوتين في أي وقت، أنه ينوي مقابلة حليفه الأوكراني السابق، فيكتور يانوكوفيتش، الذي فر في ليلة شتائية عاصفة عام 2014، إلى روسيا، وحصل على بطاقة لاجئ مثل الأسد.

هناك من يقول: قد يكون اللقاء مجرد رسالة روسية إلى الحكم الجديد في سوريا. باعتبار أن موسكو ما زالت تحتفظ بأوراق للتأثير على الوضع. لكن هذه الفرضية تتعارض مع قناعة سائدة بأن الكرملين لا يلجأ عادة لاستخدام أوراق قد حُرقت بالفعل. وهنا أيضاً يبدو مثال يانوكوفيتش واضحاً. فالرجل الذي وجّه رسائل أكثر من مرة إلى مواطنيه، من منفاه في روستوف الروسية على بعد كيلومترات عدة من حدود بلاده، بأن عليهم خلع النظام الجديد والعودة إلى أحضان الكرملين، لم يكن قادراً على لعب أي دور مهم في كل التطورات اللاحقة التي شهدتها بلاده.

بانتظار اتضاح تفاصيل المشهد، يسابق الخبراء الروس التطورات الجارية في سوريا لوضع تصورات عن المرحلة المقبلة.

مشهد غامض

عنصران من المعارضة السورية يراقبان آليات عسكرية روسية قرب قاعدة حميميم يوم 16 ديسمبر 2024 (أ.ب)

وضع بعضهم سيناريوهات متشائمة للغاية. وكتب أحد الخبراء في المجلس الروسي لشؤون السياسة والدفاع، وهو مؤسسة بحثية مرموقة للغاية، التصور التالي:

«المشهد غامض، لكن يمكن أن نحدد المخاطر الجيوسياسية المحتملة التي تواجه العالم: صراع داخلي طويل الأمد مع عناصر الحرب الأهلية. ومن غير المعروف من سيتمكن بالضبط من الاستفادة من الفوضى في دمشق والحصول على موطئ قدم. (...) كارثة إنسانية. ملايين اللاجئين، وأزمة متفاقمة في البلاد نفسها، وتفاقم أزمة الهجرة في أوروبا. وتصاعد المواجهة بين الدول. لقد بدأنا نرى بالفعل تحريك إسرائيل والولايات المتحدة وإيران. يمكن للاعبين الآخرين أيضاً الانضمام. ربما يصبح شكل الصراع في الشرق الأوسط أكثر تعقيداً. وموجة جديدة من الإرهاب الدولي. وسوف يتجاوز هذا التهديد المنطقة بكثير ويمكن أن يؤثر على مجموعة واسعة من البلدان».

في نفس هذا السياق جاءت تعليقات الخبراء البارزين في روسيا. وضع أحدهم صورة معارض سوري يدوس على تمثال للأسد الأب، وكتب إلى جانب الصورة تعليقاً مطولاً يؤكد أن كل هذا «هو مجرد بداية» والقادم أسوأ. فيما تحدث آخر عن «لعنة (باراك) أوباما»، مستعيداً تاريخ التدخل السلبي للغرب في الأزمة السورية. بينما اكتفى ثالث بوضع تحليل متشائم آخر، تحت عنوان: «علينا أن نصلّي من أجل سوريا».

صحيح أن الفترة الزمنية ما زالت محدودة للغاية، لكن اللافت أن وسائل الإعلام الروسية وكل مراكزها البحثية لم تنشر أي خبر أو تحليل يحمل نوعاً من التفاؤل بغد أفضل لسوريا.

صورة بالأقمار الاصطناعية للفرقاطة الروسية الأميرال غريغوروفيتش أمام سواحل طرطوس يوم 13 ديسمبر 2024 (ماكسار تكنولوجيز - رويترز)

هل يعكس ذلك مخاوف على سوريا نفسها، أم هو نوع من نعي السياسة الروسية في هذا البلد، ومحاولة للقول بطريقة مستترة إن مشروع الكرملين قد فشل؟

ينفي الرئيس الروسي بقوة أي شعور بالهزيمة في سوريا. قال لصحافي غربي سأله عن الموضوع: «من يدفعون لك راتبك الشهري يريدون أن يظهروا أن روسيا هزمت في سوريا، لكن هذا غير صحيح».

تبرير بوتين لشعوره الواثق هذا، يقوم على أن بلاده «أنجزت كل الأهداف التي وضعتها» عندما تدخلت عسكرياً في عام 2015.

قال الرئيس: «أتينا إلى سوريا قبل عشر سنوات لمنع نشوء جيب إرهابي آخر في المنطقة مثل أفغانستان. نحن حققنا أهدافنا». والأكثر من ذلك أن بوتين ألمح إلى دور لعبه التدخل الروسي في «تطويع المعارضة السورية» فهو أضاف: «حتى تلك المجموعات المعارضة المسلحة التي حاربت الأسد لسنوات خضعت لتغييرات داخلية كبيرة». وسأل بوتين الصحافي الغربي: «حكوماتكم في الولايات المتحدة وأوروبا تريد الآن إقامة علاقات مع هذه المجموعات (...) فإذا كانت ما زالت إرهابية فلماذا تذهبون لإقامة علاقات معها؟».

لم يضع بوتين هنا، بين أهداف بلاده في سوريا، تقديم مشروع سياسي بديل لتسوية الأزمات الإقليمية يخالف المدخل الغربي للتعامل مع الأزمات. وهو أمر لطالما فاخر بشأنه مقربون من الكرملين على مدى السنوات الماضية. وكان المنطق المطروح يقوم على أن «الغرب دمّر العراق وليبيا بينما نحن ذهبنا إلى سوريا وأوقفنا الحرب وأطلقنا مساراً سياسياً للتسوية». وتأسيساً على هذا، برزت المقولة الرائجة في روسيا بأن التدخل في سوريا أكد عودة مكانة روسيا الدولية وأنه «لا حل لأي مشكلة إقليمية أو دولية من دون موسكو».

هذا المدخل يناقض التحليلات التي ترى أن التطورات الجارية عكست فشلاً كاملاً للمشروع الروسي في سوريا، وهو مشروع كان قائماً على تأكيد قدرة الكرملين على إطفاء الحريق المشتعل في البلد عبر مساري «أستانة» و«سوتشي» اللذين تمخضا عن اتفاقات خفض التصعيد ووقف النار وإطلاق عمل اللجنة الدستورية. وهذا أمر مهم للكرملين الذي طالما تفاخر بنجاحاته في سوريا «خلافاً للفشل الأميركي في كل منطقة وبلد دخلته قوات (حلف) الناتو».

صورة بالأقمار الاصطناعية لطائرة شحن روسية عملاقة من طراز أنتونوف 124 في حميميم يوم 13 ديسمبر 2024 (ماكسار تكنولوجيز - أ.ف.ب)

السبب، وفقاً لخبراء، أن المسار السياسي على الطريقة الروسية، الذي تم إطلاقه، وتثبيته عبر الضغط العسكري والمساومات والتوافقات مع طهران وأنقرة، لكنه في النهاية ظل عاجزاً عن إحراز أي تقدم على مدى سنوات، بل إنه فاقم الظروف على الأرض وانتهى بالانفجار الذي وقع أخيراً.

لذلك تقول بعض التعليقات النادرة في روسيا، إن تقدم المعارضة المسلحة السريع والمباغت هدم في 12 يوماً مقولة «لا حل عسكرياً في سوريا» التي تم فرضها بالقوة العسكرية على مدى سنوات.

برغم ذلك، سوف يظل السؤال عن تحقيق كل الأهداف الروسية مطروحاً للبحث وفقا لسيناريوهات التطور اللاحق في سوريا.

العنصر الثاني المهم هنا، أن الكرملين بدا عاجزاً للمرة الأولى منذ سنوات عن حماية حليفه بعدما أكد قبل أيام قليلة من فراره أنه «لن يتخلى عنه». وهنا، وفقاً لمحللين، تتداخل مجموعة من العناصر، بينها أن موسكو لم تكن قادرة على فتح جبهة واسعة جديدة وهي تواجه منعطفاً خطراً في الحرب الأوكرانية بعدما وصلت الأمور إلى حافة الانزلاق إلى مواجهة مباشرة وقوية محتملة مع حلف شمال الأطلسي. أيضاً أدركت موسكو سريعاً تبدل المزاج الإقليمي والدولي حيال ملف نفوذ إيران وأذرعها العسكرية في المنطقة. كما أن الكرملين لم يخف غضبه كما ظهر من تحليلات مقربين منه، حيال تعنت الرئيس السوري الطويل أمام خطط موسكو لتهدئة الأجواء مع تركيا وفتح نافذة لتحريك التسوية السياسية. ولعب عنصران مهمان آخران دوراً في الإحجام الروسي عن مساعدة الأسد هذه المرة، أولهما عدم رغبة موسكو في تقويض كل احتمالات التفاهم اللاحق مع تركيا في حال ذهبت نحو عملية عسكرية واسعة النطاق، وثانيهما أن موسكو لم ترغب في فتح جبهة واسعة تستبق إمكانات التفاهم لاحقاً مع إدارة الرئيس المنتخب دونالد ترمب حول الملف الأوكراني والعلاقة مع قضايا الأمن الاستراتيجي في أوروبا، وهي الأمور التي تحظى بأولوية مطلقة لدى الكرملين.

أما على صعيد إنجازات الكرملين العسكرية لجهة نشر القواعد في سوريا، فإن الوضع يبدو أكثر غموضاً وتعقيداً. كان المكسب الأكبر للكرملين خلال السنوات الماضية هو إبرام اتفاقات طويلة الأجل لإقامة دائمة للقواعد العسكرية الروسية في سوريا. ويعد هذا الوجود واحداً من العناصر التي تقترب لأن تكون خطاً أحمر بالنسبة إلى موسكو، كون قاعدتي حميميم الجوية وطرطوس البحرية تحولتا بعد انتهاء العمليات العسكرية النشطة في سوريا إلى القيام بمهام ذات بعد استراتيجي بالنسبة إلى موسكو. ولم يخف قادة عسكريون أكثر من مرة أن الوجود العسكري في سوريا يعد ركيزة أساسية للوجود الروسي الحربي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كلها، وأن مهام السفن الحربية والبوارج الروسية تعتمد كثيراً على القواعد في سوريا التي باتت تشكل أهمية خاصة لرفد التحركات البحرية في المحيطات. وعلى هذا الأساس، فإن الوجود العسكري في سوريا يشكل تطبيقاً للحلم الروسي القديم بالإقامة في المياه الدافئة.

كما أنه يشكل معادلاً مهماً لوجود حلف شمال الأطلسي في المنطقة، وخصوصاً في تركيا.

برغم كل ذلك، يسارع مقربون من الكرملين للقول إن موسكو مستعدة لسحب قواعدها فوراً إذا دعت الضرورة، وهو أمر أشار إليه بوتين أكثر من مرة.

صورة بالأقمار الاصطناعية للقاعدة الروسية في طرطوس يوم 17 ديسمبر 2024 (ماكسار تكنولوجيز - رويترز)

3 سيناريوهات

في هذا الشأن يرى خبراء تحدثت معهم «الشرق الأوسط» أن موسكو قد تكون مستعدة للتعامل مع واحد من 3 سيناريوهات محتملة.

الأول وهو الأقرب لضمان مصالح روسيا، أن تنجح موسكو في ترتيب توافقات مع السلطات الجديدة لإبقاء الوجود العسكري لفترة زمنية محددة، بمعنى استبدال اتفاقات الـ49 سنة باتفاقية تنظم انسحاباً روسياً في مدة خمس سنوات مثلاً. وهذا قد يسهّل على السلطة الجديدة في سوريا آليات التعامل مع الضغوط الغربية لقطع كل أشكال التعاون مع موسكو.

الثاني يقوم على الاستغناء عن القاعدة الجوية في حميميم، في مقابل الإبقاء على وجود مهم في طرطوس، في استعادة للاتفاقات السابقة منذ عام 1972 التي كانت تنظم استخداماً للمركز اللوجيستي البحري من جانب السفن الروسية في المتوسط. هذا السيناريو يحافظ على مصالح روسيا ويمكن أن يضمن تقليص الضغط الغربي المحتمل إلى حد بعيد على دمشق.

الثالث ينطلق من اضطرار روسيا للانسحاب نهائياً، من القاعدتين، على أن تسعى لاحقاً لترتيب توافقات جديدة تقوم على إبرام اتفاقات لاستخدام متبادل للمواني الجوية والبحرية أسوة باتفاقات مماثلة موقعة مع بلدان كثيرة في المنطقة وخارجها وهي لا تثير حفيظة الغرب. مهما كانت طبيعة التطورات المحتملة، فإن المؤكد أن الكرملين لم يقم بعد بوضع استراتيجية للتعامل مع الوضع الناشئ في سوريا، وما حولها. والأسئلة المطروحة كثيرة، وعلى رأسها الوضع المتعلق بتقليص نفوذ إيران الإقليمي، وتعاظم الدورين التركي والإسرائيلي في سوريا، والرؤية المستقبلية لإقامة توازن جديد في العلاقات الإقليمية يضمن الحد الأدنى من مصالح الكرملين.