بقرادوني يفنّد تعقيدات الرئاسة اللبنانية... عبر توثيق «تحديات» ميشال عون

توقف عند علاقة الرئيس السابق المتوترة بالأميركيين.. و«أزمة الثقة» مع جعجع

TT

بقرادوني يفنّد تعقيدات الرئاسة اللبنانية... عبر توثيق «تحديات» ميشال عون

بقرادوني يتصفح كتابه الجديد «ميشال عون رجل التحديات» (الشرق الأوسط)
بقرادوني يتصفح كتابه الجديد «ميشال عون رجل التحديات» (الشرق الأوسط)

يضع المحامي كريم بقرادوني، الذي عايش تجارب أربعة عهود رئاسية على الأقل عن كثب، معايير لآلية حكم أي رئيس مقبل للجمهورية، ويفند تعقيداتها، من خلال سرد لنجاحات وانتكاسات عهد الرئيس السابق ميشال عون، الذي يرى في خلفيته «فؤاد شهاب ما»، لكنه أراد أن يكون «حَكَمَاً وحاكماً»، ما حال دون أن يكون عون «صانع الدولة الجديدة» كما أراد، محاصراً بـ«أزمة ثقة» مع رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع، وبعلاقة متوترة مع الأميركيين.

وبقرادوني الذي كان مستشار «الظل» و«العلن» لعدد من الرؤساء، وحامل رسائل الزعماء المسيحيين في الداخل وجزء من الخارج، والنائب السابق لقائد «القوات اللبنانية» في أواخر الثمانينات، يوثق في كتابه «ميشال عون رجل التحديات» الصادر عن «دار كنعان» أخيراً، سنوات الحكم الست للرئيس عون، وما سبقها من مواقع وتحديات، بدأت بأدوار له وتقارب مع الرئيس الراحل بشير الجميل، ثم بقيادة الجيش خلال عهد الرئيس أمين الجميل، ثم بالحكومة العسكرية، ولجوئه إلى فرنسا في 1990، وعودته في 2005، وصولاً إلى الرئاسة في 2016.

توثيق نهاية العهد

لم يخفِ بقرادوني مفاجأة المحيطين به لدى معرفتهم باستعداده لنشر كتاب عن عون الذي «تراجعت شعبيته كثيراً، بينما صعد نجم خصومه»، لكنه كان مصراً على ذلك، إسوة بإصراره على توثيق تجربة الرئيس الراحل إلياس سركيس الذي لم يكن يحظى بشعبية لدى انتهاء ولايته. يشرح بقرادوني في حديث مع «الشرق الأوسط» أن عون الذي كان يمثل «مشروع تغيير أو تجديد على الأقل في مكافحة الفساد»، تبدلت شعبيته منذ عودته إلى لبنان في مايو (أيار) 2005، وخوضه انتخابات حاز فيها أكبر تمثيل في جبل لبنان، وحتى انتهاء ولايته. يقول: «أنا اقتنعت بأنه يمكن أن يكون فؤاد شهاب الثاني»، في إشارة إلى الرئيس الراحل الذي يُوصف في لبنان بأنه «أب المؤسسات». يضيف: «كما كان شهاب صانع الدولة، كان يمكن أن يكون عون صانع الدولة الجديدة».

كريم بقرادوني (الشرق الأوسط)

لكن شعبية عون تعرضت لانتكاسة بعد عامين من ممارسة الحكم، وينظر إليها بقرادوني على أنها «تقليد ينطبق على كل الرؤساء». حسب التجربة اللبنانية «في الثلث الأول من ولايته (البالغة 6 سنوات) يستطيع الرئيس أن يقوم بكل ما يريد، لأن كل القوى تكون مهتمة بالقيام بعلاقات معه». بعدها «يصبح الرئيس هو من يبحث عن شريك، وعادة ما يكون رئيس الحكومة». أما في الثلث الثالث، «فلا تهتم القرى بالرئيس القائم، بل بالرئيس المقبل».

كانت الآمال معلقة على عون لتحقيق إنجازات كرئيس جمهورية، ويرى بقرادوني: «كانت أكبر من أي واقع، لأن الناس كانوا يعتقدون أنه قادر على القيام بالمُحال». كان خطاب عون في هذا الاتجاه. «كرر مرات كثيرة أن لبنان غير مفلس، بل منهوب. وكان يطرح قضية الفساد التي يقيس اللبنانيون الإنسان على أساسها، لأن مكافحة الفساد هي حاجة لبنانية. استطاع أن يربح بخطابه المضاد للفساد وأهله، والإشارة إليهم بوضوح، وهو خطاب يلقى شعبية، وباتت الآمال معلقة عليه».

في معرض تفنيده للانتكاسات التي تعرض لها عهد عون، يؤكد بقرادوني أن «الموقع في المعارضة أسهل منه في السلطة». يستدل على ذلك بتجربة الرئيس بشير الجميل الذي كانت أهميته «أنه حلم، ولم يعد واقعاً».

شهاب في الخلفية

قسّم بقرادوني الكتاب إلى خمسة أقسام، حسب السياق الزمني، واعتمد في سرد الوقائع والمواقف على أربعة مراجع أساسية، هي ما دونّه في لقاءاته مع عون، بما فيها اجتماعات «يوم السبت» التي عقدت أسبوعياً منذ 2014 إلى حين انتخابه في 2016، وعلى «موسوعة العماد عون، التاريخ السياسي والعسكري» للعميد الركن سامي روحانا، وكتاب «لعنة القصر» للكاتب ورئيس تحرير «الشرق الأوسط» غسان شربل، و«النشرة» اليومية التي يصدرها شوقي عشقوتي وتتضمن تحاليل وكواليس لبنانية ودولية.

وثق بقرادوني التجارب، وفي معظم تعليقاته التي تضاءلت في سرده لمرحلة عون الرئاسية مقارنة بما كانت عليه في سرد مراحل الثمانينات، يستعيد تجربة الرئيس فؤاد شهاب الذي يوجد «بخلفية عقل عون»، رغم إقراره بأن عون كان في وضع أصعب، «لأن الممسك بالوضع اللبناني كانت سوريا، مختلفة عن مصر عبد الناصر» التي أطلقت يد شهاب، وأحاطته بدعم خارجي، بينما «الجار القريب أصعب من الجار البعيد».

كريم بقرادوني متحدثاً لـ«الشرق الأوسط»

حَكَم... وحاكم

تتنازع ألقاب العهود الرئاسية في لبنان، كان آخرها وصف عهد عون بـ«العهد القوي»، وهي ألقاب يرفضها بقرادوني الذي يرى أنه «لا عهد قوياً أو ضعيفاً بالمطلق، بالنظر إلى التحالفات والظروف في الوضع اللبناني الذي لا يسمح بتقييم رئيس على هذا الأساس». ما يمكن قوله: «هذا الرئيس قادر على أن يكون حكماً أو حاكماً». ذلك أن «دوره بالممارسة يجب أن يكون حكماً، وليس حاكماً، وذلك منذ عام 1926».

في هذا السياق، «أراد عون أن يكون حكماً وحاكماً»، وهي تجربة لا ينصح الرؤساء بها «كي لا يكون الرئيس طرفاً». يوضح: «يجب لعب دور الحكم لتبقى كل الأفرقاء في تواصل معهم، ويُحافظ على التعددية اللبنانية والتعايش الذي يعد رئيس الجمهورية مسؤولاً عنه».

لكن المعضلة أن المسيحيين لا يهتمون بفكرة أن رئيس الجمهورية يحتاج إلى أن يكون على يمينه جبهة مسيحية تدعمه، حتى تكون الأمور التي تصعب عليه، مطلباً جبهوياً، فيما تكون على يساره جبهة معارضة، وهي تجربة طبقها فؤاد شهاب، فصار بيار الجميل، الرجل القوي في الشارع المسيحي إلى يمينه، بينما كان على يساره كمال جنبلاط. ويثبت ذلك، وفقاً لبقرادوني، أنه «لا يكفي أن يدعم الخارج الرئيس، بل يجب أن يكون ممسكاً بلعبة التناقضات في الداخل».

علاقة متوترة مع واشنطن

يعود بقرادوني بالزمن إلى الاتفاق الأميركي مع دمشق حول انتخاب الوزير الأسبق مخايل الضاهر رئيساً للجمهورية بعد انتهاء ولاية أمين الجميل، ويستنتج بأن علاقة عون مع واشنطن كانت متوترة. يعيد بقرادوني تذكر تلك الحادثة، قائلاً: «في أحد الاجتماعات سأله المندوب الأميركي السؤال التالي: من تريد إلى رئاسة الجمهورية؟ فأجابه عون: المشكلة ليست في رئاسة الجمهورية، المشكلة في عدم وجود جمهورية». ومنذ ذلك التاريخ «بدأ الخلاف بين الولايات المتحدة والرئيس عون».

يتصل الأمر، حسب بقرادوني، بشخص عون الذي يعده «من الأشخاص الذين لا يجربون الأمر مرتين»، إذ «حين يصادق، يصادق حتى النهاية، وحين يعادي، فحتى النهاية أيضاً»، وكان يرى عون أن الولايات المتحدة «لا يهمها لبنان، وأنه في آخر لائحة الأولويات والاهتمامات»، وهو ما وضعه «بمواجهة الأميركيين». ويعتقد عون أنهم أتوا إلى لبنان لمصلحة لبنان «ثم اتفقوا مع سوريا، والآن يتفقون مع إيران»، وبالتالي، «لا يمكن الاتكال عليهم».

كريم بقرادوني (الشرق الاوسط)

تحالفات الداخل

لم يمسك عون بلعبة التناقضات. تحالفاته في الداخل تعرضت لانتكاسة أيضاً، كان أبرزها انفراط «ورقة التفاهم» التي وقعها مع رئيس «القوات» سمير جعجع في عام 2015. في الكتاب، يتحدث بقرادوني عن «ودّ مفقود» و«أزمة ثقة»، و«تنافس»، يستدل إليها بـ«تباعد مستحكم بين عون وجعجع اللذين كانا يختلفان على نقطة تُطرح، وكان بينهما نفور»، حسب وصف أنطوان نجم.

يشرح بقرادوني: «لم يكرر عون في عام 1989 تجربة شهاب حين تولى رئاسة حكومة عسكرية انتقالية في عام 1952 وأنجز انتخابات رئاسية خلال أسبوع». يوم تسلم عون رئاسة الحكومة العسكرية، «قال إنه لا يقبل بانتخابات رئاسية في ظل الوجود السوري، وبدأ بحرب التحرير بدل انتخاب رئيس، وكان ذلك نقطة خلاف مع جعجع»، وانتقلت الأزمة «عندما وافق جعجع على اتفاق الطائف، وانتهى ذلك بحرب إلغاء».

غير أن تلك التجربة لا تنفصل عن تقليد ماروني يتمثل في «تنافس» ثلاث شخصيات، يكون الرئيس أحدهم وقائد الجيش ثانيهم، ومنافس من خارج هذا الإطار. في عام 1989، تمثلت تلك الثلاثية في قائد «القوات» سمير جعجع، وقائد الجيش ميشال عون، والرئيس أمين الجميل «الذي أصبح أقوى عندما لم يعد يركز على الرئاسة، بمعنى أنه لم يرد التمديد لنفسه». لكن الأزمة في تلك الثلاثية، أن اثنين منهم كانا يتفقان على الثالث، ثم يختلف الثنائي. ومنذ ذلك الحين، «بدا أن أزمة عون وجعجع هي أزمة ثقة، تُضاف إلى التنافس الطبيعي بين الموارنة الثلاثة، وعادة ما يكون أقواهم قائد الجيش».

حل ثلاثي للشغور الرئاسي

أنتج التنافس المسيحي أربعة فراغات في سدة الرئاسة، أولها في 1989، ثم في 2007، وفي 2014، وآخرها اليوم حيث يعاني لبنان شغوراً منذ انتهاء ولاية عون في 31 أكتوبر (تشرين الأول) 2022. يرى بقرادوني أن حل هذه المعضلة تتمثل في «حلّ ثلاثي، يقوم على مداورة المواقع الرئاسية الثلاثة (رئاسة الجمهورية ورئاسة البرلمان ورئاسة الحكومة) بين الطوائف الثلاث (الموارنة والشيعة والسنة)، تجنباً للوقوع في فراغ ومرحلة انتقالية». يدرك بقرادوني أن هذا الحل «قد لا يكون مقبولاً عند الموارنة وربما آخرين، لكنه قد يكون حلاً».

وحتى الوصول إلى حل مستدام، لا ينكر أن الانتخابات الرئاسية، «لسوء الحظ، يحيط بها تدخل أجنبي» يقوى بظل الانقسام الداخلي، ويضعف لدى التوافق بين اللبنانيين. وسنطبق الأمر على الوضع الحالي حيث «تنتظر الأطراف التدخل الخارجي وعادة ما يكون أميركياً أو فرنسياً أو عربياً، أو بتدخل اثنين من أصل ثلاثة». وعليه، ينظر إلى قرار تمديد ولاية قائد الجيش لمدة عام «هو نفسه القرار الذي يمكن أن يوصله إلى الرئاسة»، بالنظر إلى أن العماد جوزيف عون «هو الأكثر حظاً، بينما رئيس المردة سليمان فرنجية هو الأكثر علانية»، وذلك «استناداً إلى تحليلي المستند إلى وقائع تاريخية»، في وقت تعيش المنطقة تغييراً كبيراً «ستكون السعودية اللاعب الرئيس فيها، ولا يمكن تجاوزها في ذلك».


مقالات ذات صلة

المشرق العربي لبنانيون يسيرون على طول طريق على الجانب اللبناني من الحدود مع إسرائيل وسط الدمار في قرية ميس الجبل بجنوب لبنان في 18 فبراير 2025 (إ.ب.أ)

بالصور: «دمار شامل» في قرى حدودية بجنوب لبنان بعد انسحاب إسرائيل

يعود أهالي جنوب لبنان إلى قراهم بعد انسحاب إسرائيل ليجدوا أمامهم دماراً شاملاً... بيوت ومعالم لم تعد موجودة بعد الحرب.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
المشرق العربي مركبة عسكرية إسرائيلية على الحدود الإسرائيلية اللبنانية (أ.ف.ب) play-circle

الجيش اللبناني ينتشر في قرى جنوب لبنان بعد الانسحاب الإسرائيلي

قال مسؤول طالباً عدم كشف هويته: إن «القوات الإسرائيلية بدأت بالانسحاب من قرى حدودية بما في ذلك ميس الجبل وبليدا مع تقدّم الجيش اللبناني».

«الشرق الأوسط» (بيروت)
المشرق العربي رئيس الجمهورية جوزيف عون متوسطاً سفراء «اللجنة الخماسية» خلال استقبالهم في قصر بعبدا (رئاسة الجمهورية)

«الخماسية» تؤكد التزامها دعم لبنان والعمل على تنفيذ الانسحاب الإسرائيلي وإعادة الإعمار

أكد سفراء «اللجنة الخماسية» الالتزام بدعم لبنان والعمل على دفع إسرائيل إلى الانسحاب في الموعد المحدّد يوم 18 فبراير (شباط) الحالي.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
تحليل إخباري متظاهرون يرفعون أعلام «حزب الله» وصورة أمين عام الحزب السابق حسن نصر الله خلال اعتصام على طريق المطار رفضاً لمنع هبوط طائرة إيرانية في بيروت (د.ب.أ) play-circle

تحليل إخباري «حزب الله» مرتبك وخطابه السياسي دون التحولات في لبنان

يعرف أصدقاء «حزب الله» قبل خصومه أن قيادته لم تتمكن حتى الساعة من الخروج من الصدمة التي حلت به باغتيال أمينه العام السابق حسن نصر الله.

محمد شقير (بيروت)

​الأمم المتحدة: عودة أكثر من مليون سوري إلى ديارهم منذ سقوط الأسد

طفل يعيش في أحد المخيمات بسوريا (رويترز)
طفل يعيش في أحد المخيمات بسوريا (رويترز)
TT

​الأمم المتحدة: عودة أكثر من مليون سوري إلى ديارهم منذ سقوط الأسد

طفل يعيش في أحد المخيمات بسوريا (رويترز)
طفل يعيش في أحد المخيمات بسوريا (رويترز)

أعلنت الأمم المتحدة، الثلاثاء، عودة أكثر من مليون سوري، بينهم 800 ألف نازح و280 ألف لاجئ، إلى ديارهم منذ سقوط بشار الأسد في الثامن من ديسمبر (كانون الأول).

وكتب مفوض الأمم المتحدة السامي لشؤون اللاجئين فيليبو غراندي على «إكس»: «منذ سقوط النظام في سوريا، نقدر أن 280 ألف لاجئ سوري وأكثر من 800 ألف نازح عادوا إلى ديارهم».

وأشار إلى أن الجهود الأولية لمساعدة سوريا على التعافي «يجب أن تكون أكثر جرأة وسرعة، وإلا فإن الناس سيغادرون من جديد، وهذا الأمر بات عاجلاً الآن!».

وفي نهاية يناير (كانون الثاني)، دعا غراندي المجتمع الدولي إلى دعم إعادة الإعمار في سوريا لتسهيل عودة ملايين اللاجئين والنازحين إلى ديارهم.

وقال خلال مؤتمر صحافي في أنقرة لدى عودته من سوريا ولبنان وقبل التوجه إلى الأردن: «ارفعوا العقوبات، وشجعوا إعادة الإعمار. يجب أن نفعل ذلك الآن، في بداية المرحلة الانتقالية، نحن نضيع الوقت».

وفي 13 فبراير (شباط)، تعهدت نحو عشرين دولة عربية وغربية الخميس في ختام المؤتمر حول سوريا بباريس بالمساعدة في إعادة بناء سوريا وحماية المرحلة الانتقالية الهشة في وجه التحديات الأمنية والتدخلات الخارجية، بعد سقوط الأسد.

وأسفر النزاع السوري الذي امتد 14 عاماً تقريباً عن مقتل أكثر من 500 ألف شخص، ونزوح ملايين السوريين داخل البلاد وخارجها.