صراع الحياة والموت في غرف العناية المركزة بغزة

الاكتظاظ ونقص الإمكانات يجبر أطباءها على خيارات «صعبة ومؤلمة»

TT

صراع الحياة والموت في غرف العناية المركزة بغزة

الفريق الطبي في غرفة العناية المركزة بمستشفى «ناصر» بمدينة خان يونس (الشرق الأوسط)
الفريق الطبي في غرفة العناية المركزة بمستشفى «ناصر» بمدينة خان يونس (الشرق الأوسط)

يرسم الأطباء في قطاع غزة صورة قاتمة للغاية لما آلت إليه الأوضاع في مستشفيات القطاع؛ إذ تخوض الطواقم الطبية منذ نحو شهر معركة صعبة وقاسية لإنقاذ الأرواح وإسعاف الجرحى وإنعاش النظام الصحي الذي يئن تحت وطأة الحرب.

ففي ظل واقع صعب ومغاير لكل جولات الحروب السابقة، يكافح الأطباء «لإنقاذ ما يمكن إنقاذه» سعياً منهم، كما يقولون، لتأجيل الانهيار الكامل للمنظومة الصحية على وقع اتساع دائرة الحرب وارتفاع حصيلة الضحايا ونفاد الدواء والمستلزمات الطبية والوقود. يقول مسؤولون في طواقم طبية لـ«الشرق الأوسط» إن المستشفيات باتت اليوم على حافة الانهيار الكامل، محذرين بأنه ومع مضي كل ساعة دون دخول المساعدات «يصبح الانهيار أمراً حتمياً».

ومنذ سنوات تعاني المستشفيات والطواقم الطبية في غزة من أزمات متفاقمة خلفتها الحروب السابقة وسياسات الحصار، إلا إنها وجدت نفسها اليوم أمام واقع جديد أكثر قسوة، وتواجه تحديات لم تر مثيلاً لها من قبل.

في مستشفى «ناصر» بمدينة خان يونس جنوب قطاع غزة، تصل الطواقم الطبية الليل بالنهار للاستجابة للأعداد الضخمة وغير المسبوقة من المصابين الذي يصلون إلى أقسامه. يقول مسؤولون في المستشفى لـ«الشرق الأوسط» إن أعداد المرضى تخطت «بأضعاف» الطاقة الاستيعابية لهذه المنشأة الطبية، ناهيك بالنقص الحاد في الإمكانات والمستلزمات الطبية والأدوية والوقود اللازم لتشغيل مرافقها.

يقول الدكتور محمد قنديل، رئيس قسم الحوادث والطوارئ، إن الوضع الطبي في المستشفى بات في حال «لا توصف»، مضيفاً أن الطواقم تواجه «تدفقاً مستمراً لمئات الحالات» غالبيتها تعاني من إصابات بليغة.

د. محمد قنديل رئيس قسم الحوادث والطوارئ بمستشفى «ناصر» في خان يونس (الشرق الأوسط)

 

«يصل المصابون أشلاء مقطعة ونادراً ما ينجو أحد من الضربات الإسرائيلية»

رئيس قسم الحوادث والطوارئ في «مسشتفى ناصر» د. محمد قنديل

وبينما تتركز الغارات الإسرائيلية على الأحياء السكنية في غزة، يشرح طبيب الواقع المفزع للإصابات التي تصل من المنازل التي تطالها الضربات بشكل مباشر؛ إذ يصل المصابون «أشلاء مقطعة» ونادراً ما ينجو أحد من هذه الضربات التي تخلّف أيضاً إصابات بليغة جداً في البيوت المجاورة للمناطق المستهدفة.

عمليات دون تخدير

وتشير تقديرات الطواقم الطبية والإسعاف إلى أن عمليات القصف التي تطال البيوت تخلّف في المعدل عشرات الإصابات؛ وأن نحو 60 في المائة منها لنساء وأطفال، كما أن نصف المصابين يصلون في حالة تتطلب الإدخال العاجل لغرف العمليات ومن ثم تحويلهم إلى العناية المركزة، مما يفاقم من أعباء مرافق المستشفى المنهكة.

مصاب في غرفة العناية المركزة بمستشفى «ناصر» بمدينة خان يونس (الشرق الأوسط)

ويقول الدكتور قنديل إنه وفي غالب الأحيان، لا سيما في الأسبوع الأخير، «لم يعد للمرضى مكان في غرفة العمليات، فاضطرت الطواقم الطبية إلى إجراء عملياتها في غرف الطوارئ من دون أدوات تعقيم أو تخدير كامل».

 

حقائق

60 % من المصابين

بالقصف الإسرائيلي على غزة نساء وأطفال

 

وأمام حدة القصف الإسرائيلي ودخول أسلحة جديدة على خط هذه الحرب، يجهد الأطباء والممرضون للاستجابة أيضاً لأنواع جديدة من الإصابات التي تصل إلى المستشفى. وتشير طواقم طبية إلى أن الأسلحة المستخدمة «جنونية» وتخلّف إصابات تنتج عنها حروق شديدة في أنحاء الجسم وتهتك في الأنسجة الداخلية وبتر في الأطراف. يقول الدكتور قنديل إن هذا يخلّف تبعات نفسية صعبة للغاية على الطواقم الطبية خصوصاً «حين ترى أطفالاً وقد أصبحوا أشلاء» ورغم ذلك تواصل الطواقم عملها، لكن «لا أتخيل أن أحداً في العالم يمكن أن يتخيل ما يجري أو يتحمله».

ناجون مجهولون

التعرف على هوية الناجين من الغارات العنيفة التي تودي بحياة عائلات بأكملها، يمثّل تحدياً إضافياً للطواقم الطبية. وفي هذا الإطار، تقول فرق صحية إن غالبية الحالات التي تصل تكون مجهولة في البداية؛ إذ إن «جميع أفراد العائلة هم غالباً من بين المصابين». ويشير أفراد في طواقم طبية إلى أن بعض الإصابات تظل في العناية المركزة مجهولة الهوية «أياماً» في انتظار أن يأتي أحد الأقرباء من الدرجة الثانية للتعرف عليهم بعد أن قضت عائلاتهم بالكامل جرّاء القصف.

حقائق

24 ساعة فقط

يمضيها المصاب في غرفة العناية المكثفة

الضغط الهائل على النظام الصحي بالمستشفى إلى جانب النقص الحاد بالإمكانات حتّم على المسؤولين فيها تبني آليات جديدة و«قاسية» لا سيما في ظل الإصابات البليغة التي تستدعي البقاء في غرف العناية المكثفة؛ إذ يجري حالياً إبقاء الحالات الخطرة 24 ساعة فقط تحت العناية قبل تحويلها للأقسام العادية وذلك لإفساح المجال أمام الحالات الأخرى.

يقول الدكتور قنديل إن سياسة التعاطي مع الإصابات الحرجة للغاية ونقلها سريعاً للأقسام العالية «ليست سهلة مطلقاً، ولها تبعات من الناحية النفسية، ولها كذلك أبعاد من النواحي الأخلاقية والقانونية والاجتماعية»، مشيراً إلى أن ذلك يمثل «قراراً صعباً» على الطاقم الطبي ويلحق أذى بالمرضى لكن «نقص الإمكانات يدفعنا لذلك».

ورغم صعوبة هذه السياسات غير المسبوقة، فإن الفريق الطبي في المستشفى يسعى إلى أن تكون هذه السياسة مغطاة بقرار جماعي من الطاقم وكذلك بقرار من وزارة الصحة. ويوضح الدكتور قنديل أن الطاقم «مكره بالتأكيد على هذا الخيار».

وكان المستشفى قبل الحرب يحوي 12 سريراً مجهزاً في غرف العناية المركزة جرى توسيعها إلى 34 سريراً عبر تفعيل خطط الطوارئ. يوضح الدكتور قنديل أن هذه الأسرّة لا تتوافر جميعها على أجهزة تنفس اصطناعي، ولذلك جرت الاستعانة بأجهزة تنفس قديمة أو أجهزة كانت بالمخازن في مسعى لسد النقص.

خيارات «صعبة ومؤلمة»

وتحت وطأة الضغط الهائل على قسم العناية المكثفة وأمام التدفق غير المنقطع للمصابين، يجد الأطباء أنفسهم أمام خيارات صعبة تدفعهم في بعض الأحيان إلى «المفاضلة» بين الحالات. يقول الطبيب المشرف بغرفة العناية المكثفة إن فريقه يتابع باستمرار الحالات لديه ويعمل فريق طبي مختص على تقييم أي منها «يمتلك فرص النجاة الكاملة». ويشرح أن الحالات الخطرة، لا سيما تلك التي تعاني إصابات بالدماغ قد تدخلها غيوبة طويلة، يُترك صاحبها «لمواجهة مصيره». يقول الطبيب إن الأمر «مؤلم نفسياً وتشعر الطواقم الطبية بعده بالإحباط وبالعجز»، مضيفاً أن الطبيب مهمته الأساسية أن ينقذ الأرواح بغض النظر عن النتائج، لكن «لو توافرت الأجهزة لكنا قادرين على ذلك».

الفريق الطبي في غرفة العناية المركزة بمستشفى «ناصر» بمدينة خان يونس (الشرق الأوسط)

مستشفيات توقفت عن العمل وأخرى تنتظر...

وكان عدد من المستشفيات في غزة قد طالها القصف الإسرائيلي؛ أبرزها المستشفى «المعمداني» وسط مدينة غزة حيث خلّف القصف مئات الضحايا، فيما قالت «وكالة الأنباء الفلسطينية» إن الطيران الإسرائيلي استهدف بضرباته محيط عدد من المشافي الأخرى؛ منها «المستشفى الإندونيسي» شمال القطاع، وكذلك محيط مستشفى «القدس» غرب مدينة غزة، وكذلك محيط مستشفى «الصداقة» التركي الوحيد لعلاج السرطان في غزة والذي توقف عن العمل بعد نفاد الوقود فيه.

تقول الطواقم الطبية لـ«الشرق الأوسط» إن التهديد الذي يطال المستشفيات و القصف الذي يستهدف محيطها يحدث إرباكاً كبيراً سواء لدى طواقمها وما يخلفه من قلق وتعطيل لعملها، ولدى آلاف المدنيين الذين لجأوا للاحتماء بها.

الأطباء... آباء وأمهات أيضاً

تلقي الحرب المستمرة بظلال ثقيلة أيضاً على الأطباء وعائلاتهم يتفاقم معها القلق والتوتر النفسي. فكل طبيب وممرض ترك وراءه أيضاً عائلة «في مكان غير آمن» منذ أصبح كل القطاع غير آمن. يقول الدكتور قنديل إن الطواقم تقدم العناية للمرضى في الوقت الذي تنشغل فيه على سلامة أهلها وأطفالها، مضيفاً أن الجميع «يظل قلقاً ويحاول التواصل بعد كل استهداف للاطمئنان على أهله». بيد أن بعض الأطباء لم يسعفهم الوقت للاتصال والاطمئنان على عائلاتهم؛ إذ وجدوا أهلهم وأبناءهم وأحبتهم ممدين أمامهم في غرف الطوارئ وقد غطتهم الدماء وأصبحوا أشلاء.


مقالات ذات صلة

شؤون إقليمية المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي بهولندا (الموقع الرسمي للمحكمة) play-circle 02:06

ما حيثيات اتهامات «الجنائية الدولية» لنتنياهو وغالانت والضيف؟

مع إصدار الجنائية الدولية مذكرات اعتقال لرئيس وزراء إسرائيل نتنياهو ووزير دفاعه السابق غالانت والقيادي في «حماس» محمد الضيف، إليكم أبرز ما جاء في نص المذكرات.

«الشرق الأوسط» (لاهاي)
شؤون إقليمية عناصر من حركتي «حماس» و«الجهاد» يسلمون رهائن إسرائيليين للصليب الأحمر في نوفمبر 2023 (د.ب.أ)

انتقادات من الجيش لنتنياهو: عرقلة الاتفاق مع «حماس» سيقويها

حذر عسكريون إسرائيليون، في تسريبات لوسائل إعلام عبرية، من أن عرقلة نتنياهو لصفقة تبادل أسرى، تؤدي إلى تقوية حركة «حماس»، وتمنع الجيش من إتمام مهماته القتالية.

نظير مجلي (تل أبيب)
المشرق العربي «كتائب القسام» تعلن أن مقاتليها تمكنوا من قتل 15 جندياً إسرائيلياً في اشتباك ببلدة بيت لاهيا (رويترز)

«كتائب القسام» تقول إنها قتلت 15 جندياً إسرائيلياً في اشتباك بشمال قطاع غزة

أعلنت «كتائب القسام»، الجناح العسكري لحركة «حماس»، الخميس، أن مقاتليها تمكّنوا من قتل 15 جندياً إسرائيلياً في اشتباك ببلدة بيت لاهيا شمال قطاع غزة.

«الشرق الأوسط» (غزة)
العالم العربي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت (أرشيفية - رويترز)

«حماس» تُرحّب بمذكرتي توقيف نتنياهو وغالانت وتصفهما بخطوة «تاريخية»

رحّبت حركة «حماس»، اليوم (الخميس)، بإصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرتي اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت.

«الشرق الأوسط» (غزة)

جدل «الإخوان» في الأردن يعود من بوابة البرلمان

الجلسة الافتتاحية لأعمال الدورة الجديدة للبرلمان الأردني (رويترز)
الجلسة الافتتاحية لأعمال الدورة الجديدة للبرلمان الأردني (رويترز)
TT

جدل «الإخوان» في الأردن يعود من بوابة البرلمان

الجلسة الافتتاحية لأعمال الدورة الجديدة للبرلمان الأردني (رويترز)
الجلسة الافتتاحية لأعمال الدورة الجديدة للبرلمان الأردني (رويترز)

يتعامل الأردن مع تحديات أمنية وسياسية خطِرة على حدوده الشمالية مع سوريا، والشرقية مع العراق، والغربية مع دولة الاحتلال الإسرائيلي. ومع التحدّي الأخير يتعامل الأردن بحذر شديد مع مخطّطات الحكومة اليمينية المتطرفة في تل أبيب، ودعوات تهجير الفلسطينيين التي عدّتها عمّان «إعلان حرب عليها»، لتتعاظم هواجس داخلية تفرض نفسها على صنّاع القرار بقوة.

ومع بدء الدورة الأولى من عمر مجلس النواب العشرين الذي انتخب في العاشر من سبتمبر (أيلول) الماضي، بدأ الشحن الداخلي في معادلة الصراع بين السلطتين التنفيذية والتشريعية في ظل وجود كتلة معارضة «حرجة» تملك 31 مقعداً قابلة للزيادة تمثلها كتلة «جبهة العمل الإسلامي»، الذراع الحزبية لجماعة الإخوان المسلمين غير المرخّصة في البلاد.

الملك عبد الله الثاني يستعرض حرس الشرف قبل افتتاح أعمال البرلمان الأردني (أ.ف.ب)

قياس شرعية الانتخابات

بدأت القصة الجديدة بين السلطة الأردنية والحركة الإسلامية من قياس «شرعية» الانتخابات الأخيرة، بعد مشاركة نواب الحركة حصولهم على قرابة نصف مليون صوت على مستوى البلاد كافة، من أصل نحو مليون و600 ألف مقترع شاركوا في الانتخابات، إلى جانب حصدهم أيضاً مقاعد مُخصّصة للمرأة والشركس والشيشان في عدد من الدوائر المحلية، على مستوى المحافظات.

وباعتراف الحزب المعارض بنزاهة الانتخابات، تكون المعايير التي سعى الإسلاميون إلى تكريسها مرتبطة فقط بعدد المقاعد التي يحصلون عليها، مستندين إلى سيطرتهم على وعي الرأي العام، من خلال امتلاكهم منابر دينية وإعلامية غير متوافرة لخصومهم.

كانت ثمة تحذيرات جاءت على ألسنة شخصيات سياسية وازنة وخبرات قانونية، من أن قانون الانتخاب الذي توافقت عليه لجنة ملكية، ومنح صوتين للناخب أحدهما لدائرته المحلية والآخر للدائرة العامة المخصصة مقاعدها الـ41 للأحزاب، أبرزها أن الصوت الثاني سيكون «صوتاً مجانياً» مُعطىً لمرشحي الحركة الإسلامية، لكن هذه التحذيرات قوبلت بالسخرية.

كان «عرّابو» القانون يسخرون من التحذيرات، وسط ثقة مُفرطة بأنفسهم، بينما سعى «طباخو» القانون إلى تشكيل أحزاب سياسية قيل إنها ستنافس الحركة الإسلامية، بل ستقلّص عدد مقاعدهم. لكن الحقيقة جاءت بعكس توقعات استطلاعات الرأي السرّية، بل إن تلك التوقعات جاءت بمبالغات لا صلة لها بالواقع.

استناداً إلى ما سبق، ونتيجة لمراجعات مراكز قرار و«جرد الحسابات»، أُقيل ضباط كبار في جهاز الاستخبارات العامة، وسياسياً أعيد تموضُع شخصيات في مواقع متقدمة في الديوان الملكي، وتحييد آخرين، مع إلزام الحكومة الجديدة بتدوير الزوايا الاقتصادية الحادة في موازنة العام المقبل، واختصار تصريحاتها بالشأن السياسي. ومن المتوقع أن تطال التغييرات مواقع متقدِّمة، أمنية وسياسية قبل نهاية العام.

وحسب مخضرمين سياسيين، كان من السهل الطعن بدستورية قانون الانتخاب النافذ، خصوصاً في ظل التعارض الواضح في نصوص احتساب درجة الحسم (العتبة) التي جاءت نتيجتها بمضاعفة عدد مقاعد الحركة الإسلامية على الأقل.

وقد استند هؤلاء إلى نصّين متعارضين في حسابات الفوز والخسارة في الانتخابات، ثم إنه رغم التحذيرات أدّى الإصرار على الخطأ لنتائج غير متوقعة، وسقوط استطلاعات الرأي المسكوت عنها، والتي «أُجريت بطرق غير علمية»، كما وصفها مطّلعون تحدثت معهم «الشرق الأوسط».

العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني خلال افتتاح أعمال دورة جديدة للبرلمان (رويترز)

خطاب العرش... بين السطور

في الثامن عشر من نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي انطلقت أعمال الدورة العادية من عُمر مجلس النواب العشرين، بعد إلقاء العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني خطاب العرش. وحمل الخطاب بين سطوره «مفاتيح» لسياسة الأردن، في ظل تحوّلات كبيرة، لعل أهمها إدارة العلاقات الأردنية مع الحليف الأميركي بعد فوز دونالد ترمب بفترة رئاسية جديدة، والمفاجآت التي قد تحملها سياساته، عطفاً على سياساته وقراراته في دورته السابقة، ومدى الحرج الذي قد يتسبّب به الرجل في لقاءاته الرسمية وتصرفاته الشخصية.

لم يأخذ الكلام الملكي المساحة اللازمة من التحليل وقراءة ما بين السطور، واكتفى المحللون بإبراز فقرات من الخطاب تتعلق بالشأن الداخلي، إثر قول الملك إن مستقبل بلاده «لن يكون خاضعاً لسياسات لا تلبّي مصالحه أو تخرج عن مبادئه»، واصفاً الأردن بـ«الدولة الراسخة الهوية، التي لا تغامر في مستقبلها».

ولم يتطرّق المحلّلون إلى سقوط عبارة «حل الدولتين» من الخطاب والاكتفاء بالإشارة إلى «السلام العادل والمشرّف هو السبيل لرفع الظلم التاريخي عن الأشقاء الفلسطينيين»، مع تمسّك الأردن بأولوية إعادة «كامل الحقوق لأصحابها ومنح الأمن للجميع، رغم كل العقبات وتطرّف الذين لا يؤمنون بالسلام».

قراءة في سلوك «الإسلاميين»

بعد الرسائل الملكية تلك، دخل النواب في منافسة محمومة على مقاعد الرئاسة وانتخاب أعضاء المكتب الدائم للمجلس. وجاءت النتيجة حاسمة لصالح الرئيس الأسبق أحمد الصفدي الذي نافسه النائب صالح العرموطي (الإسلامي)، الآتي محمولاً على أكتاف أعلى الأصوات على مستوى الدوائر المحلية.

أراد «الإسلاميون» في المجلس إيصال «مظلوميتهم» إلى الشارع، فبعد إعلان خمس كتل حزبية تحالفها في انتخابات الرئاسة والمكتب الدائم، كانت منافسة كتلة حزب «جبهة العمل الإسلامي» غير مُجدية؛ نظراً لقرارهم بعزل أنفسهم عن أي تحالفات حتى مع المستقلين من أعضاء المجلس، ولم ينجحوا إلا في استقطاب 6 نواب من خارج كتلتهم (الـ31 نائباً)، على الرغم من وجود 23 نائباً مستقلاً، مع توزّع 115 من النواب على 12 حزباً فازوا بمقاعد بعد تجاوز درجة الحسم في الانتخابات النيابية الأخيرة.

هؤلاء، بالإضافة إلى حزب «جبهة العمل الإسلامي»، جاؤوا على التوالي: حزب «الميثاق»، و«إرادة»، و«الوطني الإسلامي»، و«تقدّم»، و«الاتحاد»، و«الأرض المباركة»، وحزب «عزم»، وحزب «العمل»، وحزب «العمال»، و«المدني الديمقراطي»، وحزب «نماء».

ويُدرك الإسلاميون صعوبة التحالف، وكانوا قد ضيّعوا فرصة قدّمها قبل انتخابات الرئاسة وقتها المرشح الصفدي؛ إذ ضمن لهم مقعدين في المكتب الدائم هما مقعد النائب الثاني للرئيس، وأحد مقعدي المساعدين للرئيس، ورئاسة بعض اللجان. غير أنهم آثروا الانعزال ورفض التفاوض، فكانت فكرتهم المركزية - كما وصفها مقربون منهم في حوارات مع «الشرق الأوسط» - أنهم يريدون «إيصال رسائل» تُفيد بتعرّضهم لحصار ومحاربة من قبل الأحزاب الرسمية، وبذلك يحصدون المزيد من الشعبية أمام الشارع الأردني، وهذا ما حصل فعلاً.

وبالفعل، تابع الإسلاميون خطتهم في انتخابات الرئاسة والمكتب الدائم، وسعوا للترشح عن مقعدي النائب الأول والثاني للرئيس. وبعد استعراضات تحت القبة، انسحب مرشحو الحركة في رسالة أرادوا منها التذكير بقدرتهم على المشاغبة في مواجهة توزيع المواقع القيادية في المجلس.

إلا أن ما استقرت عليه خطة المواجهة معهم تحت القبة سيحرمهم أيضاً فرص الفوز برئاسة اللجان النيابية الدائمة، وعلى رأس هذه اللجان: المالية، فلسطين، التوجيه الوطني، الاقتصاد والاستثمار، الشؤون الخارجية، والحريات العامة، وفق مصادر تحدثت إلى «الشرق الأوسط».

إقرار الموازنة المالية أبرز تحدٍّ يواجه الحكومة الأردنية مع بدء مناقشة القانون في البرلمان (بترا)

مواجهة مرتقبة

يُدرك صنّاع القرار في الأردن اليوم مدى خطورة وجود كتلة «حرجة» بحجم كتلة «جبهة العمل الإسلامي» تحت قبة المجلس، لا سيما أنه عُرف عنهم التزامهم في حضور الجلسات التشريعية، وبراعتهم في اختيار مداخلاتهم في الجلسات الرقابية، في ظل احتكارهم لعبة النصاب في التصويت على قرارات المجلس.

ثم إن للإسلاميين صدقيتهم في الإعلام المحلي، وهم الذين استخدموا التواصل الاجتماعي بفاعلية في إيصال صوتهم. ولذا فهم يستخدمون لعبة شحن الشارع بمظلوميتهم وكشفهم عن خفايا التصويت على القرارات في المجلس.

وبرأي متابعين، فإن الحصيلة الشعبية لحزب «جبهة العمل الإسلامي» قابلة للارتفاع في ظل ضعف حجة من يواجههم في العمل العام.

لكن ما غاب عن حسابات المطبخ السياسي لـ«جبهة العمل الإسلامي» (وحاضنته الأم جماعة الإخوان المسلمين غير المرخصة)، أنهم قد يكونون الأداة الأهم في التحذير من مخاطر أمن واستقرار المملكة في ظل استمرار نشاطهم السياسي الذي يعرف استخدام الشارع وعاطفته في الاشتباك مع مؤسسات الدولة؛ إذ بمجرد وجود الإسلاميين في المجالس المنتخبة سيوزّع رسائل إلى عدة جهات، أهمّها تحكم اليمين الإسلامي في دولة عُرفت بالاعتدال... وهذا قد يقلب الطاولة على أحلام الحركة في السيطرة والسلطة.

بداية مُقلقة لعلاقة متوترة

أمام السلطتين التشريعية والتنفيذية حزمة استحقاقات صعبة. وستكون البداية بـ«حفلة» البيان الوزاري وبدء «ماراثون» مناقشة النواب لمضامينه، وهنا سيستغل نواب الحركة الإسلامية المنبر البرلماني لشن هجمات على الحكومة، وتشويه صورتها، منتصرين بذلك أمام الشارع بعد حجبهم الثقة.

وبعد طيّ صفحة الثقة المضمونة للحكومة، سيدخل استحقاق مشروع قانون الموازنة والوحدات المستقلة لسنة 2025. وتكراراً سيصعد نواب الحركة إلى المنبر ليضاعفوا حصّتهم في الشارع، ولن تنتهي الدورة البرلمانية العادية قبل أن يكون لـ«جبهة العمل الإسلامي» الحصّة الأكبر من معركة الرأي العام.

في المقابل، ما يمكن أن تشهده الدورة الحالية في ملف ساخن قد يعيد المشهد لما قبل عام 2011، هو القرار المُرتقب في حل نقابة المعلمين مطلع ربيع العام المقبل. هذا الملف قد يعيد «تسخين» المشهد المحلي على «صفيح» قضية المعلمين وعودتهم إلى الحراك. وللعلم، كان آخر نقيب للمعلمين قبل قرار قضائي جمّد أعمال النقابة وأغلق أبوابها، نائب جاء عن قائمة الحزب الإخواني التي ترشحت على مقاعد الدائرة الحزبية العامة.

رئيس الوزراء الأردني جعفر حسان (أ.ف.ب)

نقاط ضعف الحكومة وقوتها

مرتكز القوة لحكومة جعفر حسّان التي أقسمت اليمين مطلع أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، هو شخصية رئيسها. فحسّان يتمتع بصفات الاستقامة والنزاهة، ورفض الاستجابة للضغوط من مختلف القوى والجهات، وقدرته على العمل تحت الضغط بعيداً عن الأضواء. لكن إذا كانت هذه الصفات تصلح لمهمة من نوع إدارة مكتب الملك الخاص، فإنها قد لا تكون مطلوبة تماماً في شخصية رئيس الحكومة.

وحسّان أدار مكتب الملك في حقبتين مختلفتين، وفي عودته للمرة الثانية خلال السنوات الخمس الماضية استطاع الرجل الانفتاح على الآراء، مستفيداً من تنوع ناصحيه ومحبيه، إلا أن مزايا الرئيس نفسه لا تنسحب بالضرورة على بقية فريقه الحكومي؛ إذ بين اختياراته الوزارية مَن قد يدخل الحكومة كاملة في أزمات متعددة.

وأيضاً، بين وزراء حسّان أشخاص لم يسبق لهم تجربة العمل العام، ناهيك بأن ضمن فريقه طامحين في موقع حسّان نفسه، وبينهم من سبق له العمل البرلماني، بل عُرف عن هؤلاء قدرتهم على استفزاز مجالس النواب ومحاولة التذاكي على التشريعات، قبل كشف الأخطاء التي ارتكبت، ومنها أخطاء قانوني الانتخاب والأحزاب.

في هذا السياق، يحقّ عُرفاً لرئيس الوزراء إجراء أول تعديل وزاري على فريقه الحكومي مباشرةً بعد نيل الحكومة الثقة من مجلس النواب، مع توفير مظلة مشاورات «شكلية» لصالح فرص توزير شخصيات من أحزاب لها أذرع نيابية في المجلس الذي بدأت أعماله رسمياً منذ 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي.