قد يكون مبكراً للغاية، الغوص في معايير الأداء في الموقع والمسؤوليات وفي صناعة القرار النقدي المركزي، بعد انقضاء 30 يوماً فقط على تسلم وسيم منصوري موقع حاكم مصرف لبنان (بالإنابة)، ومقارنة الاستنتاجات مع «محفظة» مليئة بالنجاحات والخيبات حملها سلفه الحاكم السابق رياض سلامة والذي ختم ولايته بنهاية الشهر الماضي، والتي امتدت لـ30 سنة متواصلة على رأس السلطة النقدية.
لكن، يصح بنهاية الشهر الأول من ولاية منصوري، والمفتوحة زمنياً إلى حين انتخاب رئيس جديد للجمهورية ومبادرة حكومة مكتملة الصلاحيات إلى تعيين الحاكم «الأصيل» وفق المقتضيات القانونية والطائفية، تسليط الضوء على بعض إشارات التلاقي والافتراق أو التمايز في إدارة «ضرورات» السياسات النقدية والتدابير «الطارئة»، ولا سيما ما يتعلق بإدارة الاحتياطات شبه الناضبة بالعملات الصعبة، وما تقتضيه من تقنيات خاصة ومستحدثة.
لا بيانات مالية
ربما يعتقد البعض أن منصوري الذي تسلم مهام الحاكم السابق رياض سلامة باعتباره كان نائبه الأول، ولتعذر تعيين حاكم جديد في ظل شغور سدة رئاسة الجمهورية، يقوم بنوع من الانقلاب على السياسات النقدية السابقة لسلفه، إلا أن التدقيق بالأمر يؤكد أن بعض السياسات التي اعتمدت في مرحلة «الانهيارات» المالية والنقدية المستمرة، لا تزال سارية المفعول في «مصرف لبنان»، وأن التغيير طال الشكل وكل ما من شأنه التصدي لتحميل منصوري شخصياً مسؤوليات ارتضى سلامة تحميلها للموقع وشاغله.
وبالتوازي، يتعذّر، حتى الساعة، استنباط المتغيرات في قوائم المركز المالي للبنك المركزي، وبوصفها المرآة العاكسة لأي تحولات مهمّة ونوعية في صوغ السياسات الأساسية وما تقتضيه من تعديلات أو حتى إلغاء إجراءات ذات صلة. وذلك جراء التأخير المستمر بنشر البيانات المالية الدورية في موعدها المحدّد يوم 16 أغسطس (آب) الحالي، وبالتالي، استمرار التكهنات المتباينة لدى المراقبين حول المدى الذي ستبلغه في مطابقتها لموجبات الوضوح والشفافية، توطئة لإعادة هيكلة بنود ميزانية المؤسسة وتعديل السياسة المحاسبية للمصرف لكي تتلاءم مع المعايير والأعراف الدولية المعتمدة في المصارف المركزية، ووصولاً إلى صياغة البيانات المالية حسب الأصول. وهي المهمة المنوطة بمديريات المحاسبة والتدقيق، وفق تأكيدات منصوري.
أيضا، شكّل إشهار أرصدة الحسابات الخارجية للبنك المركزي، والتي أكدت أرقام سلامة بتوفر احتياطات سائلة بالعملات بنحو 8.57 مليار دولار، وما يقابلها من التزامات مستحقة وآجلة، تصل بمجموعها إلى 1.27 مليار دولار، دفعا قويا للحاكم بالإنابة لإرساء معادلات جديدة لإدارة السيولة والاحتياطيات بالليرة والدولار، بعدما جزم في مؤتمر صحافي عقده أخيراً، أن «المركزي» لن يقوم بتغطية العجز عبر إقراض الحكومة، سواء كان ذلك بالليرة اللبنانية أو بالعملات الأجنبية.
لا إجابات شافية حول المودعين
في صدارة «التوافق» الظاهر بين «الحاكمين»، وفقاً لخبراء تواصلت معهم «الشرق الأوسط»، يسطع التماهي في سياسة حجب الإجابات الشافية عن الهاجس الأكبر الذي يسيطر على مخاوف مئات الآلاف من أصحاب الحسابات المصرفية، جراء إقحامهم في لغز التداخل غير البنّاء بين حقوقهم المحتجزة في قيود دفترية، وبين إجمالي المبالغ المدرجة تحت بند توظيفات المصارف لدى البنك المركزي. في حين، يتواصل العمل، ومن دون أي تعديل، بصرف حصص شهرية تخضع للاقتطاع بصرف الدولار على سعر 15 ألف ليرة، أو بمبالغ دولارية محدودة وفقا للتعميمين 151 و158.
وواقع الحال أن السر المستمر باستعصائه في هذه الأحجية، يكمن في «انكفاء» صانع القرار طوعاً، أو ستر العجز قسرا، عن التقدم بوضوح وشفافية أيضا، صوب تحديد معالم خطة الطريق الإنقاذية نقدياً ومالياً، وبما يفضي إلى تكوين الإطار المؤسسي أو المرجعي والإجراءات «الواعدة» لتمكين المودعين، من مقيمين وغير مقيمين، من استرداد حقوق تناهز 95 مليار دولار، ولو بالتدرج، أو بحصص وافية مصروفة بسعر عادل بالليرة ينقذهم من واقع الاقتطاعات الجسيمة التي تناهز نسبتها 84 في المائة حاليا.
ويؤكد الباحث الاقتصادي والمالي الدكتور محمود جباعي أن «لا فرق بالسياسة النقدية بين منصوري وسلامة، وأن الجديد بالموضوع أن الحاكم بالإنابة، ونظراً للتبعات التي تحملها (المركزي) والحاكم السابق الذي كان يحاول أن يؤمن للدولة مصاريفها اللازمة من أجل إنقاذها، اتخذ قرارا قانونياً بحتاً بألا يقوم بتمويلها بغياب الإصلاحات»، متحدثاً عن «إجراءات جديدة وليست سياسات جديدة تم اتخاذها لحماية أموال المودعين والاحتياطي الإلزامي وتخفيف عبء كبير على خزينة مصرف لبنان التي هي مفصولة عن خزينة الدولة، ما يؤمن علاقة سليمة بينه وبين القطاع المصرفي، فلا يتحمل منصوري كما كان يتحمل سلفه وزر الاقتصاد والمال في الوقت عينه».
امتداد لنهج سلامة
بالمثل، يعد البروفيسور مارون خاطر، الكاتب والباحث في الشؤون الماليَّة والاقتصاديَّة، أن «ما يقوم به منصوري ليس سوى امتداد لنهج سلفه سلامة مع بعض التعديلات التي طالت الشكل أكثر من المضمون. فبعد الترنُّح على عتبة تسلم المهام، أعطت السياسة الحاكم الجديد الضوء الأخضر بالتزامن مع (كلمة سر) سياسية جمَّدَت بموجَبِها المُضاربة والمُضاربين، اعتمد منصوري شعار الشفافية واستعمله سبباً للتلويح بالاستقالة، ثم مرتكزاً لتعليق العمل بمنصة (صيرفة) بعد تسلمه مهامه».
ويرى خاطر في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «نَشَرَ الحاكم الجديد أرقام الاحتياطي خطوة لا يُمكن وَصفُها إلا بالجيدة على الرغم من وجوب عِلمِهِ بهذه الأرقام قبل تسلمه الحاكميَّة»، لافتا إلى أنه «في خطوة لاحقة تعهَّدَ عَدَم المساس بالاحتياطي وهي خطوة لا طائل منها بوجود قانون نافذ وبعد أن كان المجلس المركزي يعبث بهذا الاحتياطي صرفاً يوم كان هو نفسه عضواً فيه لا بل أكبر أعضائه رتبةً بعد الحاكم»، مضيفا «توقَّفَت (صَيرفة) في العَلَن، إلا أن مصرف لبنان بقي يتدخل في سوق القطع شارياً للدولار بهدوء أبعده عن المضاربة التي تميَّزَت بها أشهر سلامة الأخيرة في الحاكميَّة. أما عند استحقاق الرواتب الأخير، أعاد منصوري تشغيل محركات صيرفة جزئياً دون أن يذكر اسمها في مؤتمره الصحافي الأخير، حاصراً نشاطها بالقطاع العام أجوراً ومستلزمات. ما يعني أن منصوري لم ينقض ما كان رياض سلامة يقوم به لا بل إنه لم يتمايز عنه لناحية التدخل في سوق القطع ولا لناحية منصة (صيرفة) على الرغم من تحديد دورها وتقليصه».
الحل في الحكومة والبرلمان
وعما إذا كانت الإجراءات الجديدة المتخذة اليوم في «المركزي» تؤسس لوضع قطار حل الأزمة على السكة الصحيحة، يجزم جباعي بأن «ما يقوم به منصوري ليس الحل للأزمة. فالحل لدى الحكومة ومجلس النواب، من خلال وضع سياسات مالية تختلف عن السابقة وفرض ضرائب جديدة والقيام بالإصلاح الضريبي اللازم وصولا لتعديل الموازنات التي تعرف عجزاً سنوياً يتراوح بين 40 و50 في المائة. كما أن المطلوب تغيير السياسة الاقتصادية من خلال دعم الإنتاج المحلي الزراعي والصناعي والقيام بإصلاح استراتيجي لقطاع الكهرباء من خلال خصخصته كونه كلف 25 مليار دولار في السنوات الـ10 الماضية».
أما خاطر فيعد أن «منصوري استفاد من عَرض الدولار على السوق بسبب الموسم السياحي المُزدهر ومن الدولرة النقديَّة، ليؤمن رواتب القطاع العام حاجباً التمويل عن كثير من القطاعات»، منبهاً من أنه «في غياب التدفقات النقدية ومع قرب انتهاء الموسم السياحي ومعاودة الشركات نشاطها وفتح المدارس أبوابها، قد يصبح شراء الدولار من السوق الموازية حتى لتأمين الرواتب مهمةً صعبة أو مسبباً لارتفاع سعر الصرف إن لم تتحرك السياسة باتجاه الحل»، وختم: «أما الكلام عن التوقّف عن إقراض الدولة بالليرة والدولار وربط تأمين الأموال بضبط الحدود وتحسين الجباية فيُنذر، على الرغم من صوابيته، بتفاقم مُحتمل للأزمة. إذ يشكل عدم ضبط الحدود واحترام القوانين وتكريس نموذج المزرعة أبرز أسباب الانهيار التي باتت عصيَّة على الحلّ».