في ظل التحديات الاقتصادية المتزايدة التي تواجهها الصين منذ أزمة «كوفيد - 19»، بدأ الاقتصاد الصيني يُظهِر أخيراً علامات على التعافي بعد فترة طويلة من التباطؤ.
ورغم المخاوف التي أُثيرت حول قدرة الصين على تحقيق هدف النمو السنوي البالغ 5 في المائة، تشير البيانات الأخيرة إلى أن الحكومة الصينية قد اتخذت خطوات فعّالة لتحفيز الاقتصاد، من خلال تدابير مالية ونقدية جديدة. ومع ذلك، يظل أمام الصين العديد من التحديات الكبيرة التي تتطلب حلولاً مبتكرة وفعّالة، في ظل تباطؤ قطاع العقارات، وزيادة الضغوط على الحكومات المحلية، بالإضافة إلى التأثيرات المحتملة من العوامل الخارجية، وعلى رأسها التهديدات الاقتصادية من الإدارة الأميركية الجديدة.
تراجع النمو
شهد نمو الناتج المحلي الإجمالي في الصين تراجعاً خلال الأرباع الثلاثة الأولى من عام 2024؛ حيث انخفض من 5.3 في المائة إلى 4.7 في المائة ثم إلى 4.6 في المائة، مما أثار القلق بشأن قدرة الصين على تحقيق هدفها السنوي للنمو البالغ نحو 5 في المائة. ومع ذلك، تشير البيانات الحديثة إلى أن الاقتصاد بدأ في التعافي تدريجياً، بعد تدهور ملحوظ في الأنشطة الاقتصادية نتيجة أزمة «كوفيد - 19». وهو ما كان متوقَّعاً نظراً لتأثير 3 سنوات من الإغلاقات على الحسابات المالية للأسر والشركات والحكومات المحلية. كما ساهم تراجع ثقة الأعمال، نتيجة الضغوط التنظيمية على القطاع المالي وقطاع العقارات واقتصاد المنصات، في تفاقم الوضع الاقتصادي، وفقاً لصحيفة «اليابان تايمز».
وفي بداية عام 2021، عندما بدأ الاقتصاد الأميركي في التعافي بعد أسوأ فترات الإغلاق بسبب الجائحة، بدأت الأسر الأميركية في إنفاق الأموال التي جمعتها خلال الجائحة. في المقابل، استمرت الأسر الصينية في تراكم مدخراتها، حتى بعد انتهاء الإغلاقات. وبين يناير (كانون الثاني) 2020 وأغسطس (آب) 2024، زادت ودائع الأسر الصينية في البنوك بمقدار 65.4 تريليون يوان (نحو 9 تريليونات دولار)، مع مساهمة كبيرة من الأثرياء. ورغم السياسات الحكومية الداعمة خلال تلك الفترة، فإن المسؤولين امتنعوا عن تنفيذ تحفيزات اقتصادية قوية، بسبب القلق من الآثار الجانبية المحتمَلة؛ فقد أسهم برنامج التحفيز الضخم الذي قدمته الحكومة بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008 في تحفيز النمو، لكنه أيضاً ساعد في تكوين فقاعة عقارية وزيادة ديون الحكومات المحلية، مما أثر سلباً على كفاءة الاستثمار.
تدابير جديدة لتعزيز النمو
مع نهاية الربع الثالث من 2024، تغيَّرت حسابات الحكومة الصينية، وأصبح من الواضح أن الاقتصاد بحاجة إلى مزيد من الدعم لتحقيق مسار نمو مستدام. في أواخر سبتمبر (أيلول) 2024، كشف محافظ بنك الشعب الصيني، بان غونغ شينغ، عن 3 تدابير رئيسية لتحفيز الاقتصاد، وهي خفض نسبة الاحتياطي للبنوك، وتخفيض سعر الفائدة، وإنشاء أدوات سياسة نقدية لدعم سوق الأسهم. وفي 12 أكتوبر (تشرين الأول) 2024، أعلن وزير المالية الصيني، لان فوان، أن التدابير المالية الجديدة ستركز على معالجة مشاكل ديون الحكومات المحلية، واستقرار سوق العقارات، ودعم التوظيف. ثم تبعت هذه الخطوات خطة لتبادل الديون بقيمة 10 تريليونات يوان للحكومات المحلية، في بداية نوفمبر (تشرين الثاني).
وقد أشار كل من بان ولان إلى أن الحكومة الصينية ستستمر في تقديم مزيد من التدابير التحفيزية، مع التأكيد على أن الحكومة المركزية لا تزال تمتلك مجالاً كبيراً لزيادة ديونها وعجزها. وتشير البيانات الأخيرة للمؤشرات الاقتصادية عالية التردد، التي تتفاعل سريعاً مع التغيرات في السياسات، إلى أن الإجراءات الحكومية بدأت تؤتي ثمارها بسرعة؛ ففي أكتوبر، ارتفع «التمويل الاجتماعي» (إجمالي التمويل للاقتصاد الحقيقي) بنسبة 7.8 في المائة على أساس سنوي، وزادت القروض البنكية المستحَقَّة بنسبة 7.7 في المائة. كما ارتفعت مبيعات التجزئة بنسبة 4.8 في المائة على أساس سنوي، مقارنة بزيادة بنسبة 1.6 نقطة مئوية عن الشهر السابق. كذلك، ارتفع مؤشر مديري المشتريات الصناعي إلى 50.1، بعد 3 أشهر من القراءات دون 50. وزاد مجدداً إلى 50.3 في نوفمبر. وفي خبر إيجابي آخر، انخفض معدل البطالة في المدن المسجَّلة بنسبة 0.1 نقطة مئوية في أكتوبر، ليصل إلى 5 في المائة. حتى سوق العقارات شهدت تحسناً طفيفاً، على الرغم من أن مبيعات الأراضي والاستثمار العقاري لا يزالان ضعيفَيْن. وإذا استمرت هذه الاتجاهات الإيجابية؛ فمن المحتمل أن يعود نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى نحو 5 في المائة في الربع الرابع من 2024.
البنك الدولي يرفع توقعاته للنمو
ويوم الخميس، قال البنك الدولي إنه رفع توقعاته للنمو الاقتصادي في الصين لعامي 2024 و2025. لكنه حذَّر من أن ضعف ثقة المستهلكين والشركات، والتحديات في قطاع العقارات، ستواصل التأثير على النمو، العام المقبل. ويتوقع البنك نمو الناتج المحلي الإجمالي 4.9 في المائة هذا العام، مقابل 4.8 في المائة، في توقعات سابقة، وذلك بفضل تأثير التيسير النقدي في الآونة الأخيرة، وقوة الصادرات في المدى القريب.
وقالت مارا وارويك، المديرة المعنية بشؤون الصين في البنك الدولي: «التصدي للتحديات في قطاع العقارات وتعزيز شبكات الضمان الاجتماعي وتحسين ماليات الحكومة المحلية ستكون عناصر ضرورية لتحقيق التعافي المستدام». وأضافت في بيان أنه «من المهم الموازنة بين الدعم قصير الأجل للنمو والإصلاحات الهيكلية طويلة الأجل».
تحديات الاقتصاد الصيني في 2025
بالنسبة لتوقعات عام 2025، فإنها تظل أقل وضوحاً. وإذا كانت الصين ستتمكن من تحقيق نمو في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 5 في المائة في العام المقبل (على افتراض أن هذا هو الهدف الذي تسعى الحكومة لتحقيقه) فسيتعين على صانعي السياسات مواجهة 3 تحديات رئيسية.
أولاً، يتعين على الصين معالجة استقرار قطاع العقارات، الذي يسهم بنحو 20 في المائة من نمو الناتج المحلي الإجمالي، ويمثل 70 في المائة من ثروة الأسر. ووفقاً لصحيفة «تشاينا كونستراكشن نيوز»، نقلاً عن مؤتمر عمل عقدته هيئة تنظيم الإسكان، فستستمر الجهود الرامية إلى استقرار سوق العقارات في الصين في عام 2025، مع التركيز على منع المزيد من الانخفاضات في هذا القطاع الحيوي.
وأوضح التقرير أن الصين ستعمل على تعزيز إصلاحات نظام مبيعات المساكن التجارية بشكل قوي، وتوسيع نطاق تجديد القرى الحضرية بما يتجاوز إضافة مليون وحدة سكنية. كما ستفرض الحكومة رقابة صارمة على المعروض من المساكن التجارية، مع زيادة توفير المساكن بأسعار معقولة، بهدف معالجة المشاكل المعيشية لعدد كبير من المواطنين الجدد، بمن في ذلك الشباب والعمال المهاجرون.
ويتمثل التحدي الثاني في حسابات الحكومات المحلية؛ حيث دفع النقص في الأموال السلطات المحلية مؤخراً إلى تقليص الإنفاق، مثل خفض رواتب المسؤولين، والبحث عن الإيرادات، من خلال ملاحقة الشركات بسبب الضرائب المتأخرة أو حتى احتجاز رجال الأعمال من مناطق أخرى، مما يضر بالنمو. أما التحدي الثالث، فيتمثل في تأثير التهديدات الاقتصادية المقبلة من الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترمب، الذي تعهَّد بفرض رسوم جمركية بنسبة 60 في المائة على جميع الواردات من الصين في أول عام من ولايته. وبالنظر إلى أن صادرات الصين إلى الولايات المتحدة تشكل 3 في المائة فقط من الناتج المحلي الإجمالي، فإن هذه الرسوم - حتى وإن كانت أقل من ذلك - سيكون لها تأثير كبير على النمو في عام 2025. على سبيل المثال، توقعت مجموعة «يو بي إس» أن ينخفض نمو الناتج المحلي الإجمالي للصين إلى 4 في المائة في 2025.
دارت العديد من المناقشات في الصين حول ما إذا كان الاقتصاد بحاجة إلى إصلاحات هيكلية أم مزيد من التحفيزات الاقتصادية. والحقيقة أن الصين بحاجة إلى كليهما؛ يجب أن تبدأ الحكومة الصينية بحزمة تحفيزية حاسمة تشمل مكوناً قوياً من السياسات المالية؛ فهذا سيسهم في تحقيق أكبر تأثير فوري على الاقتصاد. ولكن بمجرد تنفيذ الحزمة، يجب على الحكومة توجيه اهتمامها إلى الإصلاحات الهيكلية التي تركز على تعزيز الثقة بين المستهلكين والمستثمرين ورجال الأعمال. وعلى مدار العام الماضي، نشرت الحكومة الصينية عدة وثائق سياسات تهدف إلى استعادة الثقة، لكن نظراً لأن المشاركين في السوق لم يقتنعوا تماماً، يجب على الحكومة اتخاذ تدابير أكثر جرأة ومرئية، مثل تعزيز حماية الشركات الخاصة وتقليص مراقبة المسؤولين المحليين للسجلات الضريبية القديمة بحثاً عن المدفوعات المفقودة، مما سيساعد في تعزيز ثقة الأعمال وتحفيز النمو.