أقرّ الأعضاء الجمهوريون في مجلس الشيوخ الأميركي «الخيار النووي» القاضي بتغيير قواعد التصويت من أجل تثبيت مرشح الرئيس دونالد ترمب، القاضي المحافظ نيل غورستش، في المحكمة العليا. وفي حين يلقى غورستش قبولاً واسعاً بين الجمهوريين وتحظى مسيرته المهنية باحترام الحزبين على حد السواء، فإن غالبية الليبراليين الأميركيين يرون فيه تهديداً لقيمهم وللإنجازات التي حققوها خلال عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما. وفي حال فوز غورستش بالمقعد الشاغر نتيجة وفاة القاضي المحافظ أنطونين سكاليا، فإنه سيحتفظ بمنصبه مدى الحياة - ككل أعضاء المحكمة العليا - وسيعيد الغالبية للتيار المحافظ في المحكمة التي تعد رأس «السلطة القضائية» في البلاد، ذلك أن تثبيت تعيينه سيجعل المعادلة بين قضاة المحكمة العليا 5 قضاة للمحافظين مقابل 4 لليبراليين.
وللعلم، تعد «السلطة القضائية» إحدى السلطات الثلاث التي «تحكم» الولايات المتحدة، بجانب «السلطة التنفيذية» التي تمثلها رئاسة الجمهورية (البيت الأبيض)، و«السلطة التشريعية» الممثلة بمجلسي الكونغرس (مجلس الشيوخ ومجلس النواب، ومقرهما مبنى الكابيتول).
لعل أبرز النقاط الخلافية بين الساسة الجمهوريين والديمقراطيين حول تثبيت تعيين القاضي غورستش، تتعلق بقضايا الإجهاض، ومفهوم «القتل الرحيم» للمعانين من أمراض قاتلة، وحق المواطن الأميركي بحيازة السلاح، إلى جانب مخاوف من تأثير انحياز هذا القاضي المحافظ إلى الرئيس الأميركي اليميني الجديد دونالد ترمب على مواقفه في المحكمة العليا.
ولقد ظهر هذا الخلاف الحزبي الحاد، الذي يعتبره بعض المراقبين من الأشد في تاريخ تعيينات المحكمة العليا، منذ إعلان ترمب عن ترشيحه غورستش، ووصفه إياه بأنه يتمتع بـ«ذكاء فريد وخبرة قانونية لا تضاهى». إذ قوبل الترحيب الجمهوري بقلق وتشكيك ديمقراطيين. وأثنت كاري سيفيرنو، كبيرة المستشارين في شبكة «الأزمة القضائية» المحافظة، على غورستش بوصفه «دستورياً يؤمن بالمبادئ ورجلاً ذا عقلية قانونية متميزة». كذلك رأت سيفيرنو في غورستش «قاضياً سينظر في أي مسألة طبقاً لما ينص عليه الدستور، وينحي جانباً آراءه السياسية الخاصة أياً كانت».
مع ذلك عاد غورستش، المعروف بإيمانه بأن دستور الولايات المتحدة «ينبغي أن يتبع بالطريقة التي أرادها الآباء المؤسسون»، للتأكيد على «استقلاليته» وحياده خلال جلسات الاستماع التي استغرقت 4 أيام متواصلة أمام مجلس الشيوخ. ولم يتوانَ عن التشديد على أنه لن يتردد في محاكمة الرئيس ترمب نفسه إذا اقتضى الأمر ذلك، مشدداً على أن «لا أحد فوق القانون».
في المقابل، حرص غورستش على الاحتفاظ بآرائه الشخصية لنفسه متفادياً عدداً من أسئلة الشيوخ الديمقراطيين، خصوصاً تلك المتعلقة بزواج المثليين ووسائل منع الحمل. وكان أبرز اختبار له في هذا الصدد سؤال حول رأيه في مرسوم الهجرة الأول الذي أصدره الرئيس ترمب وعلق تطبيقه قاضٍ فيدرالي. إلا أن القاضي اكتفى بالقول: «لا يمكنني التدخل في مواضيع سياسية». ورداً على سؤال عن الهجمات الكثيرة التي شنها ترمب على المؤسسة القضائية، لجأ غورستش إلى العموميات من دون أن يذكر الرئيس بالاسم. وقال: «عندما ينتقد أي شخص مصداقية أو نزاهة أو دوافع قاضٍ فيدرالي، فأنا أجد ذلك محبطاً للعزيمة». ثم عند سؤاله عن رأيه بحق حيازة الأسلحة، الذي يسعى الديمقراطيون إلى تضييقه، والانتخابات الرئاسية في عام 2000 عندما حكمت المحكمة العليا لصالح المرشح (الرئيس) جورج بوش الابن وليس منافسه الديمقراطي آل غور (الذي حصل على أصوات أكثر واتخذت سياسية جمهورية في ولاية فلوريدا قراراً سياسياً باحتساب أصوات الولاية المختلف على صحتها لصالح بوش)، اختار غورستش التزام الصمت. وأيضاً رفض التعليق على أقوال أحد أساتذته السابقين في جامعة أكسفورد الذي شبّه المثليين بالقردة.
قاضٍ محافظ اجتماعياً
يعتبر نيل غورستش، المؤيد لعقوبة الإعدام، مدافعاً شرساً عن القضايا المهمة بالنسبة لأنصار التيار المحافظ في أميركا فيما يتعلق بالأسرة والدين. ويرى البعض أنه إذا بدأ «بإعطاء مؤشرات حول الطريقة التي سيصدر بها أحكامه، فستكون بداية النهاية».
وحقاً، يرى الديمقراطيون أن تعهد غورستش بالاستقلالية والحياد ليس كافياً. ذلك أنهم يرون أن آراءه السياسية التي عبر عنها في كتاباته عبر السنين ستطغى على أحكامه في المحكمة العليا. وفي مقال، استحضرته أخيراً صحيفة «الغارديان» البريطانية (يسار ليبرالي)، ونشر عام 2005 بعنوان «دعاوى الليبراليين القضائية»، أوضح نيل غورستش - الذي كان يومذاك محامياً في واشنطن أن الأميركيين «الليبراليين» أصبحوا يعتمدون كثيراً على الأحكام القضائية في دعم «أجندتهم الاجتماعية باختلافها، سواءً تعلقت بزواج المثليين أو بالمساعدة في الانتحار أو غيرها». وكتب غورستش في مقاله أنه إذا كان الليبراليون يريدون حقاً تنفيذ أجندتهم، فينبغي عليهم التركيز على «محاولة الفوز بالانتخابات، بدلاً من الدعاوى القضائية».
وبعد 12 سنة من كتابة ذلك المقال، خسر الليبراليون الأميركيون، وبعض المنتمين إلى تيار الوسط أيضاً، انتخابات أخرى، ووجّه كثيرون مرة أخرى أنظارهم نحو المحاكم، أملاً في الحصول على حماية مما يعتبرونه «هجوماً» من قبل السلطة التنفيذية على الحقوق الأساسية والحريات. وفي حال نجح الجمهوريون في تثبيت غورستش، فسيكون هذه المرة في موضع يتيح له القيام بما هو أكبر من مجرد كتابة مقال.
إلى ذلك، تتيح مقالات أخرى لغورستش أمثلة ملموسة عن تأثير آرائه السياسية على مواقفه وأحكامه القضائية. إذ كتب غورستش حول «القتل الرحيم» وعن الإجهاض في كتاب ألفه، وكان موضوع البحث في رسالة الدكتوراه التي أعدها في جامعة أكسفورد، ما يلي: «التصرف عمداً ضد حق الحياة يشير إلى أن قيمتها تقوم فقط على فائدتها النفعية المؤقتة بالنسبة إلى أهداف أخرى». وترى نانسي نورثاب، رئيسة مركز الحقوق الإنجابية، أن المرشح يجب أن يكون مسؤولاً عن تفسير وتوضيح موقفه تجاه هذه القضية. وتضيف: «بالنظر إلى وعود ترمب بتعيين قاضٍ في المحكمة العليا يسعى لإلغاء حكم (رو ضد وايد) التاريخي (الصادر عن المحكمة العليا الذي شرع الإجهاض في كل الولايات المتحدة في عام 1973)، فنحن بحاجة إلى معرفة ما إذا كان القاضي غورستش سيقوم بذلك أم لا. إن دستورنا يضمن حق المرأة بإجراء عملية إجهاض آمنة وقانونية. وأي محاولة للقضاء على تلك الحماية سوف تضرّ بحقوق وصحة المرأة لأجيال قادمة».
الحريات الدينية
على صعيد متصل، يبدو أن القاضي غورستش راغب في إرضاء «المحافظين الاجتماعيين»، لا سيما أنه كرر غير مرة دعمه لمطالبات بإعفاء ديني حين يلزم القانون أي فرد بمخالفة معتقده الشخصي. وفي حين رفضت المحكمة العليا النظر في قضية «الحرية الدينية» عام 2016، عندما اعترضت صيدلية عائلية على قانون إحدى الولايات يلزمها ببيع أقراص منع الحمل، فإن تثبيت غورستش قد يؤدي إلى تغيير موقف المحكمة العليا من قضايا مماثلة.
وفي الإطار نفسه، كان غورستش، بعدما صار قاضياً، حكماً في إحدى القضايا اعتبر فيها أن أصحاب متاجر التجزئة غير مضطرين للالتزام ببند وارد في قانون الرعاية الصحية الذي دعمه الرئيس السابق باراك أوباما، والذي يلزم أرباب العمل بتقديم تأمين صحي يغطي أقراص منع الحمل. ويرى غورستش أن ذلك سيعطي دفعة قوية لقانون استعادة الحرية الدينية، الذي يؤكد الحرية الدينية التي اعتبرها غورستش «قانوناً شاملاً».
أما فيما يتعلق بأسلوبه القضائي، فإن التزام غورستش بمبدأ القيود القضائية وتمتعه بالفصاحة والبلاغة في التعبير عن آرائه، غالباً ما أدت إلى تشبيهه بالقاضي المحافظ الذي سيحلّ محله، وهو أنطونين سكاليا، الذي توفي في فبراير (شباط) 2016.
وبالفعل، كان غورستش قد تحدث عن وفاة سكاليا في خطاب ألقاه خلال أبريل (نيسان) 2016 قال فيه: «لقد كنت أتزلج عندما رنّ هاتفي وأتاني ذلك النبأ (وفاة سكاليا). لم أتمكن من التقاط أنفاسي فور سماعي الخبر، وشعرت بالإحراج من الاعتراف بأنني لم أتمكن من رؤية الطريق بسبب دموعي. لقد كان حقاً طيباً في حياته الشخصية وأسداً في القانون ومقاتلاً شرساً في عمله».
أما الاختلاف الأكبر بين سكاليا وغورستش فيكمن في مجال القانون الإداري، الذي يحدد نطاق الصلاحيات الحكومية. إذ كان مرشح ترمب من منتقدي قانون يمنح الهيئات الإدارية صلاحية كبيرة في تأويل القوانين الفيدرالية. ومن شأن موقفه هذا، الذي يشاركه فيه عدد من باحثي القانون المحافظين، أن يضعف الحكومة الفيدرالية، وأن يسمح للمحاكم بإلغاء وإبطال الإجراءات التي تتخذها الهيئات والمؤسسات بشأن قضايا مختلفة بداية بالهجرة، ووصولاً إلى الرعاية الصحية، والبيئة.
مع ذلك دعا كثير من زملاء غورستش السابقين بمختلف توجهاتهم الآيديولوجية إلى المصادقة على تعيينه، مشيرين إلى أن طبعه ومزاجه يختلفان كثيراً عن طبع سكاليا ومزاجه. وقالت ميليسا هارت، الأستاذة في كلية الحقوق بجامعة كولورادو، التي سبق لها العمل مع غورستش: «بدت كتابات سكاليا رافضة للمطالبات بحقوق المثليين. كل ما أعرفه عن نيل غورستش كإنسان يدفعني إلى الاعتقاد أنه لن يرفض مطالب أي جهة مهما كانت مواقفه الشخصية. لا أقول إنني أعتقد أنه سيصدر حكماً لصالح حقوق المثليين، لكنني لا أعتقد أنه سيكون رافضاً الإصغاء لمطالب أي شخص». وأضافت أنها تعتقد أن غورستش «مؤهل جداً لأن يكون في المحكمة العليا»، متفقة في ذلك مع مقال رأي كتبه نيل كاتيال، المحامي العام السابق خلال فترة حكم أوباما، في صحيفة «نيويورك تايمز» ودعا فيه الليبراليين إلى دعم غورستش. كذلك قالت هارت إنها تتفهم الأسباب السياسية التي تقف وراء الرغبة في عرقلة ترشيح هذا القاضي، قبل أن تستدرك: «لكنني لا أعتقد أن هناك سبباً قوياً وموضوعياً يدعو إلى رفض نيل غورستش كقاضٍ في المحكمة».
بطاقة هوية
ولد نيل غورستش يوم 29 أغسطس (آب) من عام 1967، ونشأ في مدينة دنفر عاصمة ولاية كولورادو، وانتقلت أسرته إلى واشنطن العاصمة بعد ترشيح رونالد ريغان والدته آن بورفورد لرئاسة وكالة حماية البيئة. والتحق بعد ذلك بكلية الحقوق بجامعة هارفارد ثم سافر إلى بريطانيا، حيث تابع تحصيله في جامعة أكسفورد. وبعد تخرجه عمل لمدة 10 سنوات محامياً في شركة «كيلوغ هوبر هانسين تود إيفانس أند فيغيل» للمحاماة في واشنطن..
وعودة إلى «الخيار النووي» (خفض عدد الأصوات المطلوب للحصول على الغالبية المطلوبة)، لقد حذر الديمقراطيون في مجلس الشيوخ من تداعيات هذا القرار على الديمقراطية ونزاهة عملية التصويت.
وخلال تصويت إجرائي الخميس الماضي، صادق أعضاء المجلس الجمهوريون الـ52 على خفض عدد الأصوات المطلوب للحصول على الغالبية من 60 إلى 51 صوتاً. وقال زعيم الكتلة الديمقراطية تشاك شومر إن «قاعدة 60 صوتاً تشكل ضمانة ديمقراطيتنا (...) وضمانة ضد التطرف القضائي».
ويذكر أن الديمقراطيين كانوا مهّدوا الطريق أمام هذا التغيير في نوفمبر (تشرين الثاني) 2013، عندما كانوا يشكلون الغالبية إبان رئاسة أوباما. إذ لكسر الجمود المتعلق بالتعيينات، خفضوا السقف إلى 51 صوتاً (من أصل 100 تشكل مجموع أصوات أعضاء مجلس الشيوخ) لتعيين القضاة الاتحاديين ووظائف أخرى، باستثناء المحكمة العليا. لكن الجمهوريين ألغوا حتى هذا الاستثناء، مع الإشارة إلى أن نسبة الثلاثة أخماس تبقى سارية المفعول لجميع القوانين.