نيل غورستش رهان محافظي أميركا

الإجهاض وحيازة السلاح و«القتل الرحيم» تتصدر القضايا الخلافية مع الليبراليين

نيل غورستش رهان محافظي أميركا
TT

نيل غورستش رهان محافظي أميركا

نيل غورستش رهان محافظي أميركا

أقرّ الأعضاء الجمهوريون في مجلس الشيوخ الأميركي «الخيار النووي» القاضي بتغيير قواعد التصويت من أجل تثبيت مرشح الرئيس دونالد ترمب، القاضي المحافظ نيل غورستش، في المحكمة العليا. وفي حين يلقى غورستش قبولاً واسعاً بين الجمهوريين وتحظى مسيرته المهنية باحترام الحزبين على حد السواء، فإن غالبية الليبراليين الأميركيين يرون فيه تهديداً لقيمهم وللإنجازات التي حققوها خلال عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما. وفي حال فوز غورستش بالمقعد الشاغر نتيجة وفاة القاضي المحافظ أنطونين سكاليا، فإنه سيحتفظ بمنصبه مدى الحياة - ككل أعضاء المحكمة العليا - وسيعيد الغالبية للتيار المحافظ في المحكمة التي تعد رأس «السلطة القضائية» في البلاد، ذلك أن تثبيت تعيينه سيجعل المعادلة بين قضاة المحكمة العليا 5 قضاة للمحافظين مقابل 4 لليبراليين.
وللعلم، تعد «السلطة القضائية» إحدى السلطات الثلاث التي «تحكم» الولايات المتحدة، بجانب «السلطة التنفيذية» التي تمثلها رئاسة الجمهورية (البيت الأبيض)، و«السلطة التشريعية» الممثلة بمجلسي الكونغرس (مجلس الشيوخ ومجلس النواب، ومقرهما مبنى الكابيتول).
لعل أبرز النقاط الخلافية بين الساسة الجمهوريين والديمقراطيين حول تثبيت تعيين القاضي غورستش، تتعلق بقضايا الإجهاض، ومفهوم «القتل الرحيم» للمعانين من أمراض قاتلة، وحق المواطن الأميركي بحيازة السلاح، إلى جانب مخاوف من تأثير انحياز هذا القاضي المحافظ إلى الرئيس الأميركي اليميني الجديد دونالد ترمب على مواقفه في المحكمة العليا.
ولقد ظهر هذا الخلاف الحزبي الحاد، الذي يعتبره بعض المراقبين من الأشد في تاريخ تعيينات المحكمة العليا، منذ إعلان ترمب عن ترشيحه غورستش، ووصفه إياه بأنه يتمتع بـ«ذكاء فريد وخبرة قانونية لا تضاهى». إذ قوبل الترحيب الجمهوري بقلق وتشكيك ديمقراطيين. وأثنت كاري سيفيرنو، كبيرة المستشارين في شبكة «الأزمة القضائية» المحافظة، على غورستش بوصفه «دستورياً يؤمن بالمبادئ ورجلاً ذا عقلية قانونية متميزة». كذلك رأت سيفيرنو في غورستش «قاضياً سينظر في أي مسألة طبقاً لما ينص عليه الدستور، وينحي جانباً آراءه السياسية الخاصة أياً كانت».
مع ذلك عاد غورستش، المعروف بإيمانه بأن دستور الولايات المتحدة «ينبغي أن يتبع بالطريقة التي أرادها الآباء المؤسسون»، للتأكيد على «استقلاليته» وحياده خلال جلسات الاستماع التي استغرقت 4 أيام متواصلة أمام مجلس الشيوخ. ولم يتوانَ عن التشديد على أنه لن يتردد في محاكمة الرئيس ترمب نفسه إذا اقتضى الأمر ذلك، مشدداً على أن «لا أحد فوق القانون».
في المقابل، حرص غورستش على الاحتفاظ بآرائه الشخصية لنفسه متفادياً عدداً من أسئلة الشيوخ الديمقراطيين، خصوصاً تلك المتعلقة بزواج المثليين ووسائل منع الحمل. وكان أبرز اختبار له في هذا الصدد سؤال حول رأيه في مرسوم الهجرة الأول الذي أصدره الرئيس ترمب وعلق تطبيقه قاضٍ فيدرالي. إلا أن القاضي اكتفى بالقول: «لا يمكنني التدخل في مواضيع سياسية». ورداً على سؤال عن الهجمات الكثيرة التي شنها ترمب على المؤسسة القضائية، لجأ غورستش إلى العموميات من دون أن يذكر الرئيس بالاسم. وقال: «عندما ينتقد أي شخص مصداقية أو نزاهة أو دوافع قاضٍ فيدرالي، فأنا أجد ذلك محبطاً للعزيمة». ثم عند سؤاله عن رأيه بحق حيازة الأسلحة، الذي يسعى الديمقراطيون إلى تضييقه، والانتخابات الرئاسية في عام 2000 عندما حكمت المحكمة العليا لصالح المرشح (الرئيس) جورج بوش الابن وليس منافسه الديمقراطي آل غور (الذي حصل على أصوات أكثر واتخذت سياسية جمهورية في ولاية فلوريدا قراراً سياسياً باحتساب أصوات الولاية المختلف على صحتها لصالح بوش)، اختار غورستش التزام الصمت. وأيضاً رفض التعليق على أقوال أحد أساتذته السابقين في جامعة أكسفورد الذي شبّه المثليين بالقردة.

قاضٍ محافظ اجتماعياً
يعتبر نيل غورستش، المؤيد لعقوبة الإعدام، مدافعاً شرساً عن القضايا المهمة بالنسبة لأنصار التيار المحافظ في أميركا فيما يتعلق بالأسرة والدين. ويرى البعض أنه إذا بدأ «بإعطاء مؤشرات حول الطريقة التي سيصدر بها أحكامه، فستكون بداية النهاية».
وحقاً، يرى الديمقراطيون أن تعهد غورستش بالاستقلالية والحياد ليس كافياً. ذلك أنهم يرون أن آراءه السياسية التي عبر عنها في كتاباته عبر السنين ستطغى على أحكامه في المحكمة العليا. وفي مقال، استحضرته أخيراً صحيفة «الغارديان» البريطانية (يسار ليبرالي)، ونشر عام 2005 بعنوان «دعاوى الليبراليين القضائية»، أوضح نيل غورستش - الذي كان يومذاك محامياً في واشنطن أن الأميركيين «الليبراليين» أصبحوا يعتمدون كثيراً على الأحكام القضائية في دعم «أجندتهم الاجتماعية باختلافها، سواءً تعلقت بزواج المثليين أو بالمساعدة في الانتحار أو غيرها». وكتب غورستش في مقاله أنه إذا كان الليبراليون يريدون حقاً تنفيذ أجندتهم، فينبغي عليهم التركيز على «محاولة الفوز بالانتخابات، بدلاً من الدعاوى القضائية».
وبعد 12 سنة من كتابة ذلك المقال، خسر الليبراليون الأميركيون، وبعض المنتمين إلى تيار الوسط أيضاً، انتخابات أخرى، ووجّه كثيرون مرة أخرى أنظارهم نحو المحاكم، أملاً في الحصول على حماية مما يعتبرونه «هجوماً» من قبل السلطة التنفيذية على الحقوق الأساسية والحريات. وفي حال نجح الجمهوريون في تثبيت غورستش، فسيكون هذه المرة في موضع يتيح له القيام بما هو أكبر من مجرد كتابة مقال.
إلى ذلك، تتيح مقالات أخرى لغورستش أمثلة ملموسة عن تأثير آرائه السياسية على مواقفه وأحكامه القضائية. إذ كتب غورستش حول «القتل الرحيم» وعن الإجهاض في كتاب ألفه، وكان موضوع البحث في رسالة الدكتوراه التي أعدها في جامعة أكسفورد، ما يلي: «التصرف عمداً ضد حق الحياة يشير إلى أن قيمتها تقوم فقط على فائدتها النفعية المؤقتة بالنسبة إلى أهداف أخرى». وترى نانسي نورثاب، رئيسة مركز الحقوق الإنجابية، أن المرشح يجب أن يكون مسؤولاً عن تفسير وتوضيح موقفه تجاه هذه القضية. وتضيف: «بالنظر إلى وعود ترمب بتعيين قاضٍ في المحكمة العليا يسعى لإلغاء حكم (رو ضد وايد) التاريخي (الصادر عن المحكمة العليا الذي شرع الإجهاض في كل الولايات المتحدة في عام 1973)، فنحن بحاجة إلى معرفة ما إذا كان القاضي غورستش سيقوم بذلك أم لا. إن دستورنا يضمن حق المرأة بإجراء عملية إجهاض آمنة وقانونية. وأي محاولة للقضاء على تلك الحماية سوف تضرّ بحقوق وصحة المرأة لأجيال قادمة».

الحريات الدينية
على صعيد متصل، يبدو أن القاضي غورستش راغب في إرضاء «المحافظين الاجتماعيين»، لا سيما أنه كرر غير مرة دعمه لمطالبات بإعفاء ديني حين يلزم القانون أي فرد بمخالفة معتقده الشخصي. وفي حين رفضت المحكمة العليا النظر في قضية «الحرية الدينية» عام 2016، عندما اعترضت صيدلية عائلية على قانون إحدى الولايات يلزمها ببيع أقراص منع الحمل، فإن تثبيت غورستش قد يؤدي إلى تغيير موقف المحكمة العليا من قضايا مماثلة.
وفي الإطار نفسه، كان غورستش، بعدما صار قاضياً، حكماً في إحدى القضايا اعتبر فيها أن أصحاب متاجر التجزئة غير مضطرين للالتزام ببند وارد في قانون الرعاية الصحية الذي دعمه الرئيس السابق باراك أوباما، والذي يلزم أرباب العمل بتقديم تأمين صحي يغطي أقراص منع الحمل. ويرى غورستش أن ذلك سيعطي دفعة قوية لقانون استعادة الحرية الدينية، الذي يؤكد الحرية الدينية التي اعتبرها غورستش «قانوناً شاملاً».
أما فيما يتعلق بأسلوبه القضائي، فإن التزام غورستش بمبدأ القيود القضائية وتمتعه بالفصاحة والبلاغة في التعبير عن آرائه، غالباً ما أدت إلى تشبيهه بالقاضي المحافظ الذي سيحلّ محله، وهو أنطونين سكاليا، الذي توفي في فبراير (شباط) 2016.
وبالفعل، كان غورستش قد تحدث عن وفاة سكاليا في خطاب ألقاه خلال أبريل (نيسان) 2016 قال فيه: «لقد كنت أتزلج عندما رنّ هاتفي وأتاني ذلك النبأ (وفاة سكاليا). لم أتمكن من التقاط أنفاسي فور سماعي الخبر، وشعرت بالإحراج من الاعتراف بأنني لم أتمكن من رؤية الطريق بسبب دموعي. لقد كان حقاً طيباً في حياته الشخصية وأسداً في القانون ومقاتلاً شرساً في عمله».
أما الاختلاف الأكبر بين سكاليا وغورستش فيكمن في مجال القانون الإداري، الذي يحدد نطاق الصلاحيات الحكومية. إذ كان مرشح ترمب من منتقدي قانون يمنح الهيئات الإدارية صلاحية كبيرة في تأويل القوانين الفيدرالية. ومن شأن موقفه هذا، الذي يشاركه فيه عدد من باحثي القانون المحافظين، أن يضعف الحكومة الفيدرالية، وأن يسمح للمحاكم بإلغاء وإبطال الإجراءات التي تتخذها الهيئات والمؤسسات بشأن قضايا مختلفة بداية بالهجرة، ووصولاً إلى الرعاية الصحية، والبيئة.
مع ذلك دعا كثير من زملاء غورستش السابقين بمختلف توجهاتهم الآيديولوجية إلى المصادقة على تعيينه، مشيرين إلى أن طبعه ومزاجه يختلفان كثيراً عن طبع سكاليا ومزاجه. وقالت ميليسا هارت، الأستاذة في كلية الحقوق بجامعة كولورادو، التي سبق لها العمل مع غورستش: «بدت كتابات سكاليا رافضة للمطالبات بحقوق المثليين. كل ما أعرفه عن نيل غورستش كإنسان يدفعني إلى الاعتقاد أنه لن يرفض مطالب أي جهة مهما كانت مواقفه الشخصية. لا أقول إنني أعتقد أنه سيصدر حكماً لصالح حقوق المثليين، لكنني لا أعتقد أنه سيكون رافضاً الإصغاء لمطالب أي شخص». وأضافت أنها تعتقد أن غورستش «مؤهل جداً لأن يكون في المحكمة العليا»، متفقة في ذلك مع مقال رأي كتبه نيل كاتيال، المحامي العام السابق خلال فترة حكم أوباما، في صحيفة «نيويورك تايمز» ودعا فيه الليبراليين إلى دعم غورستش. كذلك قالت هارت إنها تتفهم الأسباب السياسية التي تقف وراء الرغبة في عرقلة ترشيح هذا القاضي، قبل أن تستدرك: «لكنني لا أعتقد أن هناك سبباً قوياً وموضوعياً يدعو إلى رفض نيل غورستش كقاضٍ في المحكمة».

بطاقة هوية
ولد نيل غورستش يوم 29 أغسطس (آب) من عام 1967، ونشأ في مدينة دنفر عاصمة ولاية كولورادو، وانتقلت أسرته إلى واشنطن العاصمة بعد ترشيح رونالد ريغان والدته آن بورفورد لرئاسة وكالة حماية البيئة. والتحق بعد ذلك بكلية الحقوق بجامعة هارفارد ثم سافر إلى بريطانيا، حيث تابع تحصيله في جامعة أكسفورد. وبعد تخرجه عمل لمدة 10 سنوات محامياً في شركة «كيلوغ هوبر هانسين تود إيفانس أند فيغيل» للمحاماة في واشنطن..
وعودة إلى «الخيار النووي» (خفض عدد الأصوات المطلوب للحصول على الغالبية المطلوبة)، لقد حذر الديمقراطيون في مجلس الشيوخ من تداعيات هذا القرار على الديمقراطية ونزاهة عملية التصويت.
وخلال تصويت إجرائي الخميس الماضي، صادق أعضاء المجلس الجمهوريون الـ52 على خفض عدد الأصوات المطلوب للحصول على الغالبية من 60 إلى 51 صوتاً. وقال زعيم الكتلة الديمقراطية تشاك شومر إن «قاعدة 60 صوتاً تشكل ضمانة ديمقراطيتنا (...) وضمانة ضد التطرف القضائي».
ويذكر أن الديمقراطيين كانوا مهّدوا الطريق أمام هذا التغيير في نوفمبر (تشرين الثاني) 2013، عندما كانوا يشكلون الغالبية إبان رئاسة أوباما. إذ لكسر الجمود المتعلق بالتعيينات، خفضوا السقف إلى 51 صوتاً (من أصل 100 تشكل مجموع أصوات أعضاء مجلس الشيوخ) لتعيين القضاة الاتحاديين ووظائف أخرى، باستثناء المحكمة العليا. لكن الجمهوريين ألغوا حتى هذا الاستثناء، مع الإشارة إلى أن نسبة الثلاثة أخماس تبقى سارية المفعول لجميع القوانين.



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».