أحدث اللقاء المنشور في عدد يوم أول من أمس الذي أعلنت فيه رئيسة مهرجان القاهرة السينمائي استقالتها من منصبها، ضجة كبيرة في القاهرة عندما تناقلت المواقع المختلفة خبر الاستقالة الوارد، عنوة عن باقي الحديث المهم الذي صاحب المقابلة، وحاكت منه مواد تعتبرها مثيرة وجذابة.
والواقع أن الاستقالة لم تكن ابنة الساعة بل قدمتها رئيسة المهرجان ماجدة واصف، قبل شهر كامل، لوزارة الثقافة التي تشرف على مهرجان القاهرة والداعم الأول له. ولم يكن قراراً مفاجئاً ومتسرعاً في أي شكل من الأشكال، بل تم تقديمه بعد دراستها الوافية لوضعه الخاص وتبعاً لما رأته مناسباً ولشعورها بأنها استكملت الدور الذي لعبته لثلاث سنوات ولا تستطيع الاستمرار فيه من دون تطوير فعلي. وكما ورد في الحديث الذي دار بين ماجدة واصف وهذا الناقد، فإن رئيسة المهرجان حريصة على تسليم المهرجان على أفضل وجه لمن سيديره في المستقبل.
الحال أن المواقع والصحف اشتغلت على عنوان الحديث وأهملت كل ما تلاه بما فيه كل الأسباب الموجبة وكل الآراء الإيجابية التي أبدتها وما ذكرته عن الصعوبات التي كان عليها أن تواجهها منذ بداية عملها. بالتالي، بدا، للمراقب، بأن الاستقالة كانت فورية وسريعة كذلك الموافقة عليها (إذا ما تمت هذه الموافقة فعلاً).
بالنسبة للمراقب، فإن التقدم الذي أحرزته ماجدة واصف والمدير الفني والمبرمج الأول للمهرجان يوسف شريف رزق الله، خلال هذه الفترة من الحياة في قلب المهرجان وجسده، واضح. صحيح أن الفترة التي تسلمت فيها ماجدة واصف المهرجان ليست طويلة، وأن المصاعب المادية والإدارية التي خاضتها الرئيسة لازمت العمل المضني الذي قامت به، إلا أن الصحيح أيضاً هو أنه، وفي ظل كل تلك الظروف، واصلت تقديم مهرجان طموح يلبي حاجة الجمهور المتنوع على أفضل حال.
أفلام عن المرأة
تكشف أفلام المسابقة وتلك التي تعرض خارجها ذلك بكل وضوح. ففي المسابقة بضعة أفلام تهم الهاوي الذي يبحث عن لغة جديدة في سرد الحكايات، أو قدر من التجديد في أسلوب سردها ودرجة الاقتراب منها.
في «إنسرياتد» للبلجيكي فيليب فان ليو، على سبيل المثال، حكاية عائلة مؤلفة من أم (هيام عباس) ووالد زوجها وثلاثة أولاد تنضم إليهم الجارة حليمة (ديامند أبو عبود) التي لجأت للعائلة، مع طفلها، باحثة عن الحماية. ذلك لأن العمارة تقع على خط النار في مكان ما في ضواحي مدينة دمشق. وهم جميعاً محكومون بالبقاء داخل المنزل الكبير بدءا من ذلك الصباح الباكر عندما يخاطر زوج الجارة بالخروج من العمارة فيصاب بطلقة قنّـاص. تشاهد الخادمة ما حدث وتخبر ربة البيت أم يزن (هيام عبّـاس) بما حدث. غاية أم يزن أن تحافظ على أمن البيت بأي ثمن. لكن الأمر ليس سهلاً في وضع غير مستتب ومحاط بالاحتمالات وهذا يتأكد عندما يقتحم رجلان وينفردان بالجارة، حيث يعتدي أحدهما عليها جنسياً. يفصح هذا الوضع عن نفسه بنفسه: لقد حمت الجارة الشابة باقي الأسرة من القتل أو الاغتصاب أو السرقة (أو كل هذه الأفعال معا) بجسدها وهي بعد لا تعرف أن زوجها ملقى على بعد أمتار قليلة من البناية. عندما تعلم تتطوّر هذه الدراما إلى وضع آخر وتهرع وابني الجارة (شاب وفتاة) إلى تعريض أنفسهم للخطر بغية معرفة ما مصيره ويكتشفون أنه ما زال حياً.
ينتهي الفيلم بتأكيد الحالة الصعبة لحياة هذه النماذج من المواطنين لكن مع أمل معلّـق بأن حليمة وطفلها سوف يفران بصحبة بعض شباب المنطقة الذين لا هم من رجال النظام على ما يبدو ولا هم من رجال المعارضة ولا الفيلم يريد أن يصيب برصاصه أي من فرقاء القتال مكتفياً بالحالة الإنسانية الماثلة.
وضمن أفلام المسابقة نجد «فورتوناتا» للمخرج الإيطالي سيرجيو كاستيليتو الذي حازت بطلته جاسمين ترينكا على جائزة أفضل تمثيل نسائي في مسابقة «نظرة ما» خلال مهرجان «كان» الماضي.
تؤدي ترينكا دور امرأة شابة مطلقة اسمها فورتوناتا ولديها ابنة صغيرة (نيكول سنتاني) وتسعى لكي يكون لديها صالونها الخاص بها. طموح كبير ومصاعب أكبر في انتظارها، لكن فورتوناتا تأتي هنا كما لو أنها في آخر صف اللامحظوظين.
يجيد المخرج الآتي من درب التمثيل العناية ببطلة الفيلم لكنه يفسد كل شيء آخر بإصراره على إظهار تعاسة وضعها ووضع من حولها في الوقت ذاته وطوال الوقت تقريباً. أحد معارفها رسام وشم ويريد مشاركتها افتتاح الصالون الذي تتمناه، لكنه مدمن مخدرات. زوجها السابق ما زال يلاحقها بهدف السيطرة على حياتها، ثم هناك والدتها المريضة. وإذا كان هذا لا يكفي فإن ابنتها تسمم المناخ من خلال ميول عدائية مبكرة. «يعني ألاقيها منين ولا منين» حسب الأفلام الميلودرامية المصرية في الستينات الذي يبدو هذا الفيلم أقرب إليها من أي فيلم إيطالي شوهد في العامين الماضيين.
أفضل منه «قتل عيسى» للأرجنتينية لورا مورا. دراما جيدة التنفيذ حول فتاة شابة تبحث عن قاتل أبيها بعدما فشل رجال البوليس تحقيق هذه المهمّـة. بعد قليل من بداية الفيلم تقع الحادثة وتشاهد وجه القاتل الذي كان يمتطي دراجة نارية. وتتبعه وتتعرّف عليه من دون أن تنسى أنه قاتل أبيها وأنها تريد قتله.
إلى جانب ديناميكية الحركة وقوة الأداء من بطلة الفيلم ناتاشا ياراميلو، يمتاز الفيلم الأول لمخرجته بأنها استوحته مما حدث في حياتها الخاصة. فوالدها قتل قبل عام ونصف العام من قيامها بتحقيق هذا الفيلم. تركت الأرجنتين وهاجرت إلى أستراليا، حيث لم تستطع ممارسة الكتابة والعمل لعدة أشهر قبل أن تكسر هذه الحالة بقرار مفاده أن تضع الحادثة المؤلمة في سيناريو تقوم بإخراجه. بعض نتائج ذلك يتجاوز المحنة التي تعرضها المخرجة مورا، فالفيلم - لجانب ديناميكيته وربما بسببها - متوتر ويثير قدراً من القلق خلال عرضه منسوجاً من السؤال حول ما إذا كانت تستطيع تنفيذ ما تريد أو أن عاطفتها وجدت في الشاب حباً غير متوقع.
في «الكلاب» لمارسيلا سعيد (تشيلي) هناك امرأة بين ثلاثة رجال: هناك والدها الذي تشاركه إدارة إحدى الشركات الناجحة والذي لا يعترف لها بقدرتها على إدارة العمل فيطلب منها توقيع عقود من دون أن تقرأها لأن مواد هذه العقود أعلى مستوى، كما يري، من قدرتها على الفهم.
وهناك زوجها حيث العلاقة بينهما لا تعدو أكثر من واجبات الحياة المشتركة. متعال ولا تراه الآن، إلا للاقتران به. خيط رفيع يربط بينهما هو بدوره ليس أكثر من عقد آخر.
الرجل الثالث هو ضابط سابق اسمه جوان تدور التحقيقات حوله كونه متهماً بالاشتراك في تنفيذ الاعتقالات والمذابح البشعة التي جرت في سنوات الأمس وقد يتم تقديمه للمحكمة. وفي حين أن العلاقتين الأولى والثانية ثابتتان فإن علاقتها بجوان، الذي يدربها على ركوب الفرس، تتطوّر. تقع في حبه لتكتشف أنه في النهاية ديكتاتوري النزعة. بذلك تكتشف أيضاً الوجوه الثلاثة للمجتمع الذكوري الذي يحيط بها.
في سراييفو
جزء من «الكلاب» يتعامل مع التيارات السياسية والماضي المتنازع عليه، كذلك الحال مع فيلمين خارج المسابقة هما «الرجال لا يبكون» و«في الذبول».
«في الذبول» لفاتح أكين قضية قضائية متعثرة تدلف كاتيا (دايان كروغر) إليها بعدما قُـتل زوجها على أيدي اثنين من المنتمين إلى النازية الجديدة. النتيجة دراما محاكم يديرها المخرج أكين جيداً لا تبتعد كثيراً عن طرح العنصرية كآيديولوجيا تمارسها الجماعات المتطرفة (الزوج القتيل مهاجر تركي). والمرء لا يبحث هنا عن إجابات لسد ثغرات السيناريو وترقيع ضعف النص أحياناً، بل للحالة السياسية من ناحية والأزمة العاطفية من ناحية أخرى. وبمقارنة هذا الفيلم مع «قتل عيسى» هناك استكمال طرح بينهما من حيث إن المرأة في كل الفيلمين هي التي تطلب العدالة وأن القتل تم لبواعث سياسية.
«الرجال لا يبكون» بدوره له شبيه سابق. ففي فيلم «موت في سراييفو» (2016) لدنيس تانوفيتش تمحور أحداث تلخص حال البوسنة وتاريخ الحروب الأهلية هناك داخل فندق. في الفيلم الجديد «الرجال لا يبكون» للبوسني الآخر ألن درلييفتش تمحور آخر داخل فندق ومراجعة مهمّـة ولا تخلو من الشوائب للصراع بين فرقاء الوطن اليوغوسلافي السابق تعبر عنه شخصيات تلتقي في ذلك الفندق الذي سيرمز إلى وطن لم يستقر بعد.
عربياً، وفي مسابقة «آفاق السينما العربية الجديدة» التي تحتوي على ثمانية أفلام، يبرز «اصطياد أشباح» للفلسطيني رائد أنضوني الذي يستجمع أيضا ذاكرة أحداث وقعت للمخرج عندما ألقى الإسرائيليون القبض عليه، حين كان فتى صغيراً وقادوه إلى مركز تحقيق.
المخرج نفسه يظهر في الفيلم وهو يطلب في إعلان منشور فلسطينيين من رام الله سبق لهم وأن تعرضوا للاستجواب في معتقل موسكوبيا في القدس المحتلة. عبر هؤلاء يقدم للمشاهدين الطريقة التي يقوم بها المحققون باستجواب المتهمين الفلسطينيين والتي تشمل الضرب والعنف والإذلال. رائد أنضوني طالما اشتغل على أفلامه من موقع من عليه إتقانها أولاً لكي يصبح إيصال الرسالة إلى المشاهدين مقنعاً وناجحاً وهذا ينجزه هنا أكثر مما فعل سابقاً.
«مطر حمص» لجود سعيد، الذي تحدثنا عنه سابقاً، مشترك في هذا القسم يمثل سوريا وهو الأفضل بين فيلمين سوريين. الثاني «طريق النحل» للمخرج عبد اللطيف عبد الحميد. الأول أكثر ثراء في الصورة والشخصيات. الثاني أكثر تقليدية في هذين الشأنين وأضعف فيلم من بين أعمال المخرج المعروف.
خارج المسابقات، وفي عروض موازية نجد «جسد غريب» لرجاء عماري. دراما اجتماعية حول تونسية مهاجرة إلى فرنسا بطريقة غير مشروعة. ولأنها تجيد الفرنسية، كما أن الصدفة قادتها إلى المطارح المناسبة للمكوث، أولاً لدى شقة شاب مهاجر يعمل في مقهى، ثم إلى منزل الأرملة التي اسمها أيضاً سامية، والتي يدفعها فضول ما لمساعدة الفتاة بتشغيلها في منزلها بينما تغرف من ذكرياتها مع الزوج الذي أحبته ورحل.
بالنسبة لسامية اللاجئة، فإن إيجاد المأوى والعمل أسهل قليلاً مما يجب لكن لدى المخرجة رجا عماري مشاغل أخرى تعتبرها أهم. تسد المخرجة بعض ثغرات السيناريو بحسن معالجتها. حكاية مثيرة للاهتمام تتناول جانبا من موضوع المهاجرين غير الشرعيين ولو أن دور سامية كما تؤديها سارة هناشي مكتوب بنبرة لا تتغير كثيراً من وضع لآخر طوال النصف الأول من الفيلم على الأقل. الشغل الخلفي (تصميم مناظر، صوت، توليف وثلاثة مؤلفين موسيقيين) عادي وليس من النوع الذي يترك أثراً خاصًاً.
أفلام مصرية
وهناك ثمانية أفلام مصرية في قسم «السينما المصرية الجديدة» أفضلها بلا نزاع فيلم محمد حمّاد «أخضر يابس». يقدم المخرج، عبر معالجة ناضجة تنضح بلغة فنية ثابتة حكاية امرأة تقود الفيلم من دون أن تكون الممثلة التي تؤديها ذات خبرة أو باع طويل. هبة علي، التي تقوم بدور البطولة ظهرت في دور عابر في فيلم بعنوان «النبطشي» سنة 2014. وأسماء فوزي، التي تقوم بدور شقيقتها نهى لم تظهر في السينما مطلقاً من قبل. محمد حمّـاد ينجح في إدارة كلا الممثلتين وتهيئة المشاهد لقبولهما كنسيج من الحياة الاجتماعية خال من الوهج أو الزينة. فيلم يشبه حياتهما التي نراها بلا رتوش. حياة عارية كجدران منزلهما ومتعثرة كالسلحفاة في أحد المشاهد الأخيرة وقد انقلبت على ظهرها غير قادرة على النهوض.
القصّـة متقشفة الأحداث: إيمان (علي) وشقيقتها نهى (فوزي) تعيشان معاً في بيت من دون والديهما اللذين توفيا قبل حين. إيمان، التي يتبنّـى الفيلم حضورها الدائم في كل مشهد تقريباً، تغادر البيت صباحاً لتعمل في محل حلويات. تقطع جسر مشاة تمر من تحته حياة الآخرين معبأة في قطارات وسيارات.
بقدر ما هو عن حياة امرأة وحيدة ومثقلة بهمومها، هو أيضاً عن المدينة التي ما عادت تنبض الحياة كما كانت والتي باتت تخيب الرجاء. إلى حد، كان الراحل عاطف الطيّب، خاض هذا الغمار في فيلمه «سواق الأتوبيس» حيث كان على نور الشريف العمل والبحث عن مصدر مالي بين أقاربه بينما تصوّر الكاميرا المدينة الباردة. هنا، نجد الشخصيات المحيطة بإيمان غالباً ما تريد الاكتفاء بأقل قدر من المسؤوليات والهموم. هي وحيدة وسينتهي الفيلم بها على ذلك الوضع. لا نراها في أي وضع يعكس صورة مخالفة. لن ترتسم على وجهها أي ابتسامة، وليس لديها ما تقوله لسواها سوى أقل قدر من الكلمات. حياتها منهكة وتضحيتها كبيرة. قطار الزواج يمضي عنها وهي تعد العدّة لزواج شقيقتها الأصغر منها. وإذ يكثر المخرج من صورها وهي في قطارات القاهرة يعكس وضعها برمزية واقعية وشفافة. هي من البيت للدكان ومن الدكان للبيت كما القطار بين محطتين: يزاول الانتقال بينهما ولا يتقدم في أي اتجاه.
الفيلم التسجيلي «جان دارك مصرية» لإيمان كامل يفقد بوصلته باكراً. يدور حول فنانة اسمها جيهان سعت لنيل حريتها في اختيار مستقبلها الفني. الفيلم بالتالي رحلة بحث تقود المخرجة لإجراء مقابلات مع فنانات أخريات كما تعود إلى ذكرياتها المنشورة. البحث يحرك الفيلم بثبات لتحقيق دوره في تناول وضع المرأة (خصوصاً الفنانة) في مصر اليوم، وكيف أن الوضع الاجتماعي تأخر بها عن مواكبة طموحاتها المشروعة. للأسف نوايا الفيلم تغطي خانة إبداعه. سينمائياً محدود الأفكار وفيه الكثير من شخص المخرجة ما يحول دونها وتحقيق عمل يتمحور فعلاً حول كفاح المرأة لكسب معركتها ضد التقاليد والمتوارث من المفاهيم.
الفيلم الذي نال أكثر مما يستحق من مدح في هذه المجموعة المتوفرة للعرض هنا هو «على معزة وإبراهيم» لشريف البنداري الذي يدور حول حب شاب اسمه علي (على صبحي) لمعزة سماها ندى ومن أجلها ينطلق مع صديق له في رحلة بصحبتها. لكل منهما مشاكله لكن «ندى» تبقى المشكلة الأكبر.
إذ تنبع الفكرة من وضع مثير بحد ذاته (علي ومعزته) هناك قلة حيلة عندما يصل الأمر إلى التنفيذ: كم من مرة على علي تنبيه إبراهيم أن المعزة اسمها «ندى» ولا يمكن مناداتها بغير ذلك الاسم ولا معاملتها كحيوان؟ كم من مرّة ستستمع مناوشاتهما حول هذا الموضوع؟ كل شيء لدى علي يشي بأنه إنسان طبيعي، كيف لنا تفسير ذلك الهيام بمعزة؟ خلل نفسي؟ عاطفي؟ جنون؟ بالنسبة لإبراهيم فإن لا شيء يدور في سماء حياته سوى ذلك الصوت الذي يزور رأسه ورؤوسنا (من خلال سماع أزيزه العالي) على حين غرّة. استخدام صوت مفروض علينا لكي نعرف أنه هو الصوت الذي يسمعه إبراهيم الآن من بين الحلول الركيكة سينمائياً. حل تستخدمه بعض أفلام الرعب، لكنه استخدام مفتعل في أفضل حالاته.