قبل سنوات ليست بالبعيدة، فاجأ حدث سينمائي لبناني صغير الوسط المهرجاناتي العربي باستقباله مخرجاَ أميركياً كبيراً.
الحدث هو مهرجان بيروت الدولي (واحد من النوافذ الصغيرة حجماً والكبيرة فعلاً على ساحة الثقافة السينمائية في لبنان)، والمخرج لم يكن سوى فرنسيس فورد كوبولا. ومبعث المفاجأة هي أن صاحب سلسلة «العراب» وأفلام شاهقة مثل «سفر الرؤيا الآن»، لم يحط في مهرجان عربي أكبر وأعرق مثل القاهرة أو دبي أو أبوظبي (الذي كان لا يزال نشطاً كل سنة)، بل في بيروت. لاحقاً ما قبل كوبولا دعوة مهرجان مراكش كرئيس لجنة التحكيم.
مديرة مهرجان بيروت، كوليت خوري، لا تريد أن تكشف كيف فازت بكوبولا كضيف شرف. كان جوابها حين سألتها عن هذا الموضوع في «كان» ضحكة تنم عن الرضا... فقط.
اعتذارات
على ذات السياق، ها هو مهرجان «آسيا وورلد فيلم فستيفال» الذي أقيم حتى نهاية الأسبوع الماضي في مدينة لوس أنجليس ينتهي بحضور الممثلة أنجلينا جولي ذاتها (وليس واحدة شبيهة بها مثلاً). المهرجان الذي يشرف عليه (اللبناني أيضاً) جورج شمشوم صغير الحجم قياساً، لكنّه يزداد ترسخاً في قائمة المهرجانات المتخصصة في سنته الثالثة وذلك بعرضه أفلام أكثر من 50 دولة آسيوية.
هل ستحضر أنجلينا جولي مهرجاناً عربياً فيما تبقى من مهرجانات هذه السنة في الدول العربية؟ هل سيحضر ممثلون ومخرجون كبار آخرون؟
الجواب مبكر لبضعة أسباب إنما قبل الذهاب صوبها يجب القول إنّه في الوقت الذي لبت أنجلينا جولي دعوة مهرجان «آسيا وورلد فيلم فستيفال»، كان مهرجان القاهرة يعقد مؤتمراً صحافياً مهماً يعلن فيه عدة قضايا مطروحة من بينها ما يخص التمويل ومن بينها ما يخص الأفلام. لكنّ ردّاً على سؤال أحد الصحافيين، انبرت رئيسته ماجدة واصف لتقول بصراحتها المعروفة عنها إنّ المهرجان لا يستطيع الكشف عن أسماء الضيوف من «النجوم الكبار» الذين سيؤمونه قبل نيل موافقاتهم النهائية.
وعزت الموضوع، بذات الصراحة، إلى أنّ نجوم السينما يطلبون مبالغ عالية لا يستطيع المهرجان بمزانيته المتواضعة تأمينها.
في هذا النطاق، ليس معروفاً من بدأ، من بين المهرجانات العالمية ثم المحلية، دفع المال مقابل نيل موافقة مخرج أو ممثل لحضور مهرجانه. لكن المعروف أنّ الغاية هي أبعد من تقدير الفنان المنوي دعوته والاحتفاء به. الغاية الحقيقية تكمن ما بين التباهي بأن المهرجان الداعي يستطيع جذب الأسماء الكبيرة وبين استثمار حضور هذا «النجم» لإرضاء الإعلام والصحافة.
تخفي المهرجانات عادة ما تقوم به لأجل تأمين حضور ممثلين مشهورين لمهرجانات عربية. لكن المرات الفاشلة منها هي أكثر من النجاحات. وفي السنوات العشرين الأخيرة الكثير من الأمثلة هذه بعضها:
• جوليا روبرتس كانت مشغولة سنة 2003 بتصوير فيلم «ابتسامة موناليزا».
• وودي ألن اعتذر - عن طريق وكيله - عن الحضور بلا سبب معروف.
• ستيفن سبيلبرغ اعتذر لأحد المهرجانات من دون إبداء سبب معين.
• سلفستر ستالون طلب طائرة خاصّـة تقله من لوس أنجليس إلى عاصمة المهرجان الذي دعاه. وافق المهرجان على أن يرسل له طائرة خاصة إلى نيويورك، لكن الممثل أصر على أن يستأجر المهرجان العربي طائرة خاصة من لوس أنجليس إلى نيويورك وعندما لم تتم الاستجابة إلى طلبه (الذي تضمن أيضاً مبلغاً كبيراً من المال) تم إلغاء المشاورات.
• المنتج ايلي سماحة قال: «إذا لم يذهب ستالون لن أذهب أنا».
• المنتج ماريو قصّار (سلسلتي «رامبو» و«ترميناتور») كان اعتزل السينما عندما تم استدعاؤه. وقال: «أنا خارج اللعبة».
تأثير النجم المحدود
المسألة ليست سهلة حتى على مهرجان عربي دولي أول مثل دبي الذي يوفر رغم الصعوبات ممثلاً محترفاً واحداً (على الأقل) كل سنة. ربما من الصف الأول كتوم كروز أو من الصف الثاني مثل سامويل ل. جاكسون.
مهرجان مراكش في سنواته استفاد أكثر من سواه من وضعه لأربعة أسباب أهمها أنّ الدعوة تأتي موقعة من قِـبل القصر الملكي ذاته، والثاني أنّ ما يطلبه الممثل من تمويل حاضر، والثالث أنّ المغرب كان محطة هوليوودية مهمّـة في الثمانينات والتسعينات وجزءا من العقد الأول من القرن الحالي. وأخيراً، لأن الإدارة فرنسية.
روبرت دينيرو كان حط مرّة واحدة في الدوحة في الدورة الأولى من مهرجانها السينمائي لأن المهرجان الوليد آنذاك كان ارتبط بمهرجان ترايبيكا الذي يديره دينيرو في نيويورك.
أمّا القاهرة فمعظم ضيوفه كانوا من الخامة التي انحسرت عنها شهرة الإعلام واحتفظت فقط بشهرة النقاد والهواة: المخرج الراحل سيرجيو ليوني، الممثلان البريطانيان (الراحلان أيضاً) أوليفر ريد وكريستوفر لي، الممثلة البريطانية فانيسا ردغراف والممثلان الفرنسيان ألان ديلون وكاترين دينوف.
وكلهم في سنوات من الرخاء الاقتصادي وغالبهم لقاء تذاكر سفر درجة أولى وإقامة في فندق من خمس نجوم.
المشكلة التي تتراءى من بعيد لكل من ينظر إلى الصورة على نحو كامل تكمن في الدافعين المذكورين آنفاً حول السبب الذي من أجله يدعو المهرجان العربي (وغير العربي عموماً)، ضيوفاً من ذوي الأوزان الثقيلة. ذلك لأنّه إذا ما كان ذلك استثمارا إعلانيا عن قدرة المهرجان جذب «النجوم» فإنّ تأثيره الكلي محدود. نعم ستتناقل وكالات الأنباء وصفحات المواقع الإلكترونية أنّ ليوناردو ديكابريو أو جنيفر لورنس أو روبرت داوني جونيور يحضر هذا المهرجان أو ذاك، لكن الخبر سيضيع إزاء أي خبر آخر يضاهيه أو يتجاوزه خبر آخر مثل فضيحة جنسية لمنتج معروف أو بزواج انتهى فجأة بعد قصّـة حب بين نجميه إذا ما حدث ذلك خلال الزيارة التي يقوم بها الضيف إلى أحد هذه المهرجانات.
إلى ذلك، لن يكون بمقدور المهرجان العربي تأمين وجود «نجم» كبير في كل سنة. هذا يخلق حالة ثابتة من عدم التوازن وخطر قيام الإعلام المحلي بالمقارنة بين ضيف هذه الدورة وضيف الدورة الماضية، وعادة - لأسباب أخرى يطول شرحها - يبدو ضيف الدورة السابقة كما لو كان أكثر أهمية من ضيف الدورة الحالية.
في الحقيقة فقط الإعلام المحلي يكترث إذا ما حضر سامويل ل. جاكسون أو حتى جايك جيلنهال إلى مهرجان عربي ما. الأول لم يعد يشكل خبراً عالمياً والثاني سينتمي إلى عناوين الساعة قبل أن تمضي عنه صوب خبر آخر.
استثمار الزيارة محلياً أو إقليمياً مهم بلا ريب، لكنّه مكلف ويشبه اشتعال عود الكبريت في الكثير من الأحيان. من يذكر اليوم أن المخرج الألماني فولكر شلندروف حط ضيفاً على القاهرة قبل ثلاث سنوات؟ أو أن الممثل الكوميدي بل موراي حضر دورة مراكش قبل الماضية؟
إزاء ذلك ربما كان من الأجدى، ومن الأساس، بناء المهرجان على عواميد ثقافية وفنية وليس على احتفالات نجومية. تأسيس الجمهور الذي يتزوّد من السينما بجمالياتها وفنونها وتعويد الإعلام على أن يكون فاعلاً في الاحتفاء بالأفلام ومخرجيها وليس بنجومها الذابلين أو الآيلين للذبول.
ماذا لو أن مهرجان القاهرة هذه السنة لم ينجح في استقطاب ممثل «كبير»؟ ماذا لو لم يجد مهرجان دبي نجماً أو نجمين يزينين افتتاحه وأيامه؟ هل يعني ذلك أن المهرجانين تراجعا عما حققاه سابقاً؟
يعتمد الجواب على سائله: إذا كان من النقاد أو هواة السينما فإن الأهم لديه هو مستوى أفلام المسابقة والمظاهرات المقامة. إذا كان من الإعلاميين وأصحاب برامج المقابلات على الهواء التلفزيونية فإن المستوى الإبداعي لأفلام المهرجان يقبع في نهاية قائمة اهتماماته... يريد أن ينبري بالوقوف على السجادة الحمراء وطرح أسئلته (المتشابهة دائماً) على كل من يمر فوقها.
إذا ما استطاع المهرجان تأمين الحالتين معاً فإنه يسبح في النعيم. وإلّا فإن البديل الجاهز هو الإصرار على نوعية الأفلام مع إيجاده طريقة مثلى للدعاية أو الترويج لها. النشرة اليومية لا تكفي للغاية (الخيط رفيع بين الدعاية المباشرة وتلك المستترة ولا يقدر عليه سوى الممارس بأسلوب صحافي ذي خبرة)، وهناك طرق عديدة أخرى لمثل هذه المهمّـة.
كذلك هناك طرق أخرى لاستقبال ضيوف معروفين، فنياً، ليست جميعها خافية على المهرجانات العربية (وإن كان تفعيلها ما زال محصوراً وغالباً يتم لمسافة قرب عاطفية)، وهي اختيار سينمائيين موهوبين وجيدين فعلاً للجان التحكيم وكذلك متنوّعين. ما نشاهده دوماً هو حالة من استبعاد النقاد الفعليين. أحياناً لصالح صحافيين لا علاقة لهم بمهنة النقد وأحيانا لصالح جسم من المحكمين فيه المخرج والموزّع والممثل والمنتج وربما الكاتب أو الموسيقار، لكن من دون وجود لناقد.
الحال أن كون أي من هؤلاء من أبناء المهنة التي يعمل فيها لا يعني أنّه شريك مناسب في لجنة التحكيم. لا يعني أنّه ملم فعلياً بالنواحي المختلفة لماهية الفيلم السينمائي كما هو الناقد الجيد. ولا يهم التوافق الكيميائي بين المحلفين بل المعرفة الكافية وإن تباينت الآراء.
لكن يبقى أن ما يوفره مهرجان عربي لضيف آت من باريس أو لندن أو نيودلهي أو مصر أو هوليوود من تفعيل للطريقة التي سيتم الاحتفاء بها بهذا الضيف ذات أهمية قصوى. تنفيذ لمهام صعبة ودقيقة بحد ذاتها تبدأ من وقت وصول الطائرة إلى أرض المطار وتنتهي بالعودة إلى الطائرة عند انتهاء أيام الاستضافة. الحال هنا أنّ المهرجانات العربية لا تتساوى احترافاً والمهمّـة خطرة، لكنّها غير مستحيلة وتعتمد على القدرة المادية لتوفير كل ما يتطلبه الاحتفاء من حسن معاملة وحسن ضيافة ودقة في التنفيذ. وفي هذا الشأن أجاد مهرجانا دبي وأبوظبي هذه المهام كما لم يجدها أي مهرجان آخر.