بطبيعة الحال يبدو العنوان شديد الغرابة، إذ إنه لا توجد أي علاقة منطقية ومباشرة بين الغبار الموجود في المنزل (house dust) والإصابة بالسمنة. ولكن قد يبدو الأمر منطقياً إذا عرفنا أن الغبار الموجود في داخل كل منزل يحتوي على كثير من المركبات الكيميائية المختلفة الناتجة من الاستخدامات المتعددة للعلب والأوراق والأكياس التي تكون مغلفة للمشتريات المختلفة بما فيها الطعام والمنظفات الصناعية وأدوات المكياج والمبيدات الحشرية وغيرها.
والحقيقة أن هذه المغلفات تدخل في تركيبها مواد قد تكون شديدة الخطورة على الصحة وتسبب أمراضاً مميتة مثل بعض الأورام السرطانية وأيضاً تسبب أمراضاً في الجهاز العصبي. ومن أهم هذه المواد مادة «ثنائي الفينول إيه» (bisphenol A). وهذه المواد قد تقوم بعمل خلل هرموني في الغدد الصماء بالجسم ينتج عنه تغير في التمثيل الغذائي وتراكم الدهون، وبالتالي يسبب البدانة خصوصاً في الأطفال.
خلل هرموني
هذه المعلومة كانت نتيجة دراسة جديدة خلصت إلى هذه النتائج التي تم نشرها في النسخة الإلكترونية من مجلة علوم البيئة والتكنولوجيا (journal Environmental Science & Technology)، وقام بها باحثون من جامعة ديوك في ولاية نورث كارولينا الأميركية، وأشاروا إلى أن الخلايا المسؤولة عن تكوين الخلايا الدهنية في الفئران صارت أكبر وقادرة على استيعاب دهون أكثر في ظل وجود ذرات الغبار في المنازل، وذلك لضررها «المسبب للخلل في الغدد الصماء» (endocrine - disrupting chemicals). وأطلقوا عليه اختصاراً «EDCs»، وقد أوضحوا أن هذه المواد الكيميائية التي نستخدمها جميعاً كل يوم قد تعطل إفراز هرمون معين أو تسبب خللاً في وظيفته، سواء بزيادة تأثيره أو العكس بانعدام ذلك التأثير، ما يتسبب في حدوث مشكلات صحية في العضو أو الخلايا التي تقوم بهذه الوظائف.
وعلى الرغم من التحذيرات المتعددة التي أصدرتها منظمة الصحة العالمية من خطورة استخدام هذه المنتجات، فإن اعتماد معظم المنازل والأفراد على هذه المنتجات يحول بينها وبين الاستغناء عنها بشكل كامل أو حتى محاولة الترشيد في استخدامها. ولتلافي هذه الأخطار، هناك مواصفات معينة لأغلفة المواد الغذائية تلتزم بها الشركات المصنعة للغذاء أو المطاعم التي تقدم الوجبات الجاهزة، سواء المصنوعة من البلاستيك أو الورق المقوى والمعادن المختلفة، نظراً لأن خطر استخدام هذه الأشياء يمتد ليشمل الأجنة في أرحام الأمهات ويزيد من خطورة البدانة في الطفولة، كما يمكن أن يسبب بعض العيوب الخلقية أيضاً، خصوصاً التي تتعلق بالجهاز العصبي.
وقد قام أفراد الفريق بعمل زيارات إلى 11 منزلاً في ولاية نورث كارولينا وقاموا بتجميع عينات من تراب المنازل الموجود بكل منزل لفحصه لمعرفة أثره على الخلايا الدهنية. وقاموا بقياس مستوى المواد الكيميائية المختلفة الموجودة فيه «EDCs»، وتبين أنها 44 مادة مختلفة مختلطة مع ذرات الغبار، وبعد ذلك قاموا بعمل اختبار لكل مادة من ذرات الغبار على حدة، وأثرها على الخلية الأم المصنعة للخلايا الدهنية الموجودة في الفئران. وهذه الخلايا التي تستخدم في قياس مدى تأثير مادة معينة على إنتاج الدهون الثلاثية وهي الدهون التي يمكن في حالة زيادتها أن تتسبب في حدوث البدانة، فضلاً عن أخطارها على المدى الطويل في حدوث تصلب للشرايين وارتفاع في ضغط الدم.
الغبار وزيادة الدهون
وكانت نتيجة التحليل هي أن 7 عينات من أصل الـ44 مادة التي تم أخذها من ذرات الغبار المنزلية سببت نمواً للخلية الدهنية الآم، وبالتالي قامت بتخزين كمية أكبر من الدهون الثلاثية، وهو الأمر الذي سوف يؤدي لاحقاً إلى الإصابة بالبدانة، وأيضاً شملت نتيجة التحليل وجود 9 من المواد الأخرى يمكن أن تزيد من حجم الخلية الدهنية وأيضاً زيادة عددها، وفي المقابل كانت هناك 11 عينة من المواد الكيميائية غير مؤثرة على الخلايا الدهنية في ظل وجود الغبار. وهذه النتائج تؤكد الدور الفعال الذي تلعبه تلك المواد الكيميائية في زيادة ونمو الخلايا الدهنية حتى بعد التخلص من تلك المنتجات من خلال اختلاطها بذرات الغبار الموجودة داخل المنزل.
وأوضح الفريق البحثي أن أي كمية من الغبار المنزلي مهما قل حجمها يمكنها أن تؤدي إلى حدوث الزيادة في احتمالية الإصابة بالبدانة، وأن نسبة صغيرة لا تتعدى 3 ميكروغرامات قادرة على إنتاج الخلايا الدهنية حتى بمعدلات الأمان التي تسمح بها الولايات المتحدة لاستخدام هذه المواد في البيوت، خصوصاً أن الأطفال أكثر عرضة للتعرض لها طوال فترة وجودهم بالمنزل، سواء عن طريق الاستنشاق أو الملامسة أو حتى عن طريق الفم، وهو ما يعني أن الأمر قد يكون أخطر من كل التوقعات في زيادة نسب السمنة التي تعاني منها الولايات المتحدة بالفعل بين الأطفال.
وبطبيعة الحال، يحتاج الأمر إلى مزيد من الدراسات لتأكيد هذه النتائج بشكل نهائي، وأن هذه الدراسة تدق ناقوس خطر جديداً من استخدام المواد المغلفة والحاوية للطعام وغيرها من أدوات الاستعمال اليومي، خصوصاً أن كمية قليلة جداً من الغبار (تحت المستوى المسموح به للأطفال) تسببت في البدانة. وقد تكون تلك التوصيات في حاجة إلى تغيير، وأيضاً قد يجب على الحكومات والهيئات المعنية بالصحة حث الشركات المختلفة على إنتاج بدائل أقل ضرراً صحياً، وبتكلفة أقل، وتتم التوعية الصحية للأفراد والهيئات على حد سواء، خصوصاً المدارس والنوادي والأماكن التي يتردد عليها الأطفال باستمرار.
* استشاري طب الأطفال