نوستالجيا إنديانا جونز الجديد ليست في مكانها الصحيح

الجزء الخامس ينطلق للعروض هذا الشهر

فورد ووولر- بريدج في لقطة من «إنديانا جونز وقرص القدر» (ديزني)
فورد ووولر- بريدج في لقطة من «إنديانا جونز وقرص القدر» (ديزني)
TT

نوستالجيا إنديانا جونز الجديد ليست في مكانها الصحيح

فورد ووولر- بريدج في لقطة من «إنديانا جونز وقرص القدر» (ديزني)
فورد ووولر- بريدج في لقطة من «إنديانا جونز وقرص القدر» (ديزني)

عندما قرر المدير العام لمهرجان «كان» تييري فريمو عرض الجزء الجديد والخامس من سلسلة «إنديانا جونز»، سرت بين «النوستالجيين» همسات الإعجاب بهذا القرار. فبمنأى عن قيمة الفيلم الفنية وبصرف النظر عن هاريسون فورد (81 سنة) الذي كان في التاسعة والثلاثين عندما قام ببطولة الفيلم الأول سنة 1981، طغت الحماسة لمشاهدة مغامرة أخرى من تلك المنتمية إلى صاحب السوط والمعادي العنيد للنازية الألمانية (ومن وقف معها) على حسابات العمر وتعداد السنوات، وتوجه لفيف كبير من الصحافيين والنقاد إلى العرض الوحيد الذي أقيم للفيلم في الدورة المنصرمة في الشهر الماضي.

المفاجأة هي أن الحماس لم ينجب إعجاباً بالضرورة حتى مع الأخذ بعين الاعتبار ذلك التصفيق العفوي الذي تبع عرض الفيلم وقبله الاستقبال الحافل لممثله الأول هاريسون فورد. شيء ما نال من ذلك الحماس وانجلى عن مقارنة غير موفقة بين مغامرات إنديانا جونز في تلك الأعوام السابقة وبين مغامراته اليوم.

هكذا وُلد «إنديانا جونز»

الفيلم الخامس من السلسلة يحمل عنواناً يدل على بعض حبكته: «إنديانا جونز وقرص القدر» (Indiana Jones and the Dial of Destiny) وهو عنوان يماثل عناوين الأفلام الأربعة السابقة في إيحاءاته بأنه إنما ينتمي إلى تلك الحقبة الزمنية من الأفلام التي كانت تسودها عناوين مشبعة بالبطولة والتشويق مثل «زورو يعود» و«المبارزة الأخيرة» و«طرزن الكبرى» أو «غزاة ناهشو الجسد»... إلخ.

فكرة مسلسل «إنديانا جونز» لم تكن بالمرّة بعيدة عن أفلام الثلاثينات والأربعينات ومن بينها تلك المسلسلات الأسبوعية التي كانت تعرض في عشرات آلاف الصالات الأميركية حينها. مسلسلات مثل «قانون الغابة» و«الجبل الغامض» و«عودة فو مانشو» و«مغامرات وايلد هيكوك» والمئات غيرها (بداية هذه المسلسلات تعود إلى عام 1910 بفيلم فرنسي عنوانه «أرسين لوبين ضد شرلوك هولمز»).

لم تكن فكرة العودة إلى إطار تلك المسلسلات (كل حلقة من نحو 12 دقيقة يتم تكملتها في حلقة جديدة تعرض في الأسبوع المقبل وصولاً إلى الخامسة عشرة والأخيرة) من بنات أفكار المخرج ستيفن سبيلبرغ، الذي قام بإخراج الأجزاء الأربعة من «إنديانا جونز» جميعاً، بل خطرت على بال المنتج والمخرج جورج لوكاس أولاً. صاحب «ستار وورز» تحدّث مع المخرج والكاتب فيليب كوفمان ومعاً وضعا لبنة مشروع فيلم واحد بعنوان «مغامرات إنديانا سميث» وذلك في سنة 1973.

عمل الاثنان معاً لفترة من الوقت قبل أن يهجر كوفمان المشروع. في عام 1977 التقى لوكاس بسبيلبرغ والأخير أعرب عن رغبته في أن يكون الاختيار المقبل لإخراج فيلم من سلسلة جيمس بوند. آنذاك لم يكن في بال منتج أفلام بوند (ألبرت بروكولي) الاستعانة بمخرج «لقاء قريب من النوع الثالث» لتحقيق أحد أفلامه.

الجزء الأول من «إنديانا جونز» (باراماونت)

اقترح لوكاس على سبيلبرغ إخراج سلسلة «إنديانا سميث» بعد تغيير الاسم إلى «إنديانا جونز». سنة 1981 تحت عنوانه الكامل «إنديانا جونز وغزاة الفلك المفقود» (ّIndiana Jones and the Raiders of the Lost Ark).

الفيلم حمل اسم جورج لوكاس منتجاً وكأحد كاتبي القصة (لجانب فيليب كوفمن) واسم لورنس كاسدان ككاتب سيناريو. جيء بهاريسون فورد الذي كان بدأ يضع قدميه على أرض الشهرة بعد أن ظهر في «ستار وورز» كأحد أبطال الفيلم الثلاثة (لجانب كاري فيشر ومارك هاميل الذي بدوره صُنع للتماثل مع تلك المسلسلات القصيرة).

* فارس عربي

مثل تلك المسلسلات كان لابد من البحث عن أشرار الفيلم الذي على عالم الآثار إنديانا جونز مجابهتهم. في الثلاثينات كانت النازية الألمانية في ارتقاء وكانت هوليوود في الأربعينات وجدت أن أفضل شرير ممكن تضعه في أفلام الجاسوسية والمغامرات والأكشن هو ذلك المرتبط بجهة خارجية. في البداية كانت تلك الجهة صينية، لاحقاً أمست ألمانية وعندما انتهى الوئام بين الولايات المتحدة وروسيا انتقل الشر إلى الروس الذين يريدون هدم الديمقراطية الأميركية.

حقيقة أن الحلقة الأولى من «إنديانا جونز» دارت في رحى منتصف الثلاثينات وضع النازيين في بؤرة الشر لجانب المصريين الذين تعاونوا مع النازيين على استخراج تلك الأيقونة التي ستكون محط صراع جونز والنازيين.

المشهد الذي نرى فيه إنديانا جونز يواجه فارساً بلباس عربي كلاسيكي يتحداه بسلاح أبيض لخّص النية في وضع العرب كأعداء. هاريسون فورد يتطلع إلى السماء بضجر ثم يسحب مسدسه ويطلق النار على الفارس قبل أن يتحرك ذاك من مكانه، بذلك توجهت الرصاصة إلى النموذج الكلاسيكي للفارس العربي.

لا يهم كثيراً الآن. لاحقاً ما حطّم سبيلبرغ مدينة عربية بكاملها في فيلم «مغامرات ران تان تان» (1981) وهو الفيلم الكرتوني الذي كان من المفترض أن يكون الجزء الأول من جزأين على أساس قيام صاحب سلسلة «ذَ لورد أوف ذَ رينغ» بيتر جاكسون بإخراج الجزء الثاني وهو الأمر الذي لم يتم إما لانصراف جاكسون عن الفكرة أو لأن الجزء الأول لم ينجز أطناناً من المال أو للسببين معاً.

بناء على نجاح إنديانا الأول الذي أثمر عن 390 مليون دولار (يساوي نحو مليار و300 مليون دولار حالياً) تم إطلاق «إنديانا جونز ومعبد الهلاك» (Indiana Jones and the Temple of Doom) سنة 1984، ثم «إنديانا جونز والحملة الأخيرة» (Indiana Jones and the Last Crusade في عام 1989 ثم «إنديانا جونز ومملكة الجمجمة الكريستال» (Indiana Jones and the Kingdom of the Crystal Skull). أحداث هذا الأخير تقع في الخمسينات (على خلفية الحرب الباردة آنذاك) في حين أن الأجزاء الثلاثة السابقة تعاطت مع أحداث تقع في الثلاثينات وحدها.

* استيحاءات

أحداث الجزء الحالي، «إنديانا جونز وقرص القدر» (Indiana Jones and the Dial of Destiny) هو الوحيد الذي لم يخرجه سبيلبرغ بل تم إسناد المهمة إلى جيمس مانغولد. أحداث الفيلم الجديد تجد جذورها في عام 1944 عندما عثر جونز على قرص من شأنه إعادة الزمن إلى الوراء. بعد أكثر من 20 سنة ها هو جونز يحاول إقناع المسؤولين الأميركيين بأن تعاونهم مع نازي سابق (ماس ميكلسن) يريد استحواذ ذلك القرص هو خطر على أميركا والعالم. ثم نتعرّف على إنديانا في الزمن الحالي وحيداً بعدما كان خسر زوجته (طلّقته) وابنه (مات في الحرب الفيتنامية). تنتهي وحدته عندما تلتقي به حفيدته (فوبي وولر- بردج) وتستدرجه لمغامرة جديدة محورها امتلاك ذلك القرص من جديد.

* اعتبارات تجارية

تحقيق هذا الفيلم على النحو الذي جاء عليه ليس أكثر من جشع تجاري ربما له نتائج إيجابية لأسبوع أو أسبوعين في شباك التذاكر حين إطلاق الفيلم قبل نهاية هذا الشهر. هاريسون لا يستطيع خداع أحد عبر الظهور في بطولة فيلم يسعى فيه (ويسعى الفيلم عبره) إلى استعادة صلاحيّته كبطل أكشن. شخصية إنديانا جونز تتبدى كما لو كانت ثقلاً أكثر منها استعادة لبطولة.

الأفلام الثلاثة الأولى من إنديانا جونز دارت في رحى استيحاءات من الشخصيات والأحداث المسيحية واليهودية. الفيلم الرابع كسر هذا الالتزام أما هذا الفيلم فيبدو كما لو وضع قدماً في الماضي وآخر في الحاضر وبقي خارج القدرة على إيجاد مربّعه الخاص.

فكرة القرص الذي يستطيع الانتقال بصاحبه إلى الماضي لتغيير معالم الحاضر وردت في عشرات الأفلام من بينها «العودة إلى المستقبل» (Back to the Future) سنة 1985. على الأقل كان فيلم روبرت زيميكس كوميدياً خلط المغامرة بالخيال العلمي ونجح، وهذا بالتحديد ما يفتقر إليه إنديانا الجديد.


مقالات ذات صلة

«الست» يفجر زخماً واسعاً بمصر حول حياة أم كلثوم

يوميات الشرق منى زكي وكريم عبد العزيز وعدد من صناع الفيلم في كواليس التصوير - حساب مراد على «فيسبوك»

«الست» يفجر زخماً واسعاً بمصر حول حياة أم كلثوم

فجر فيلم «الست» زخما واسعاً في مصر حول كواليس حياة أم كلثوم، بمراحلها المختلفة وعلاقاتها الشخصية بمن حولها من عائلتها وزملائها، بالإضافة إلى قصص حبها.

أحمد عدلي (القاهرة)
يوميات الشرق الفنان محمد بكري في لقطة مع أسرته من فيلم «اللي باقي منك» (الشركة المنتجة)

كيف تمكنت 4 أفلام عربية من الوصول لقائمة الأوسكار المختصرة؟

لعلها المرة الأولى التي تنجح فيها 4 أفلام عربية في الوصول لـ«القائمة المختصرة» بترشيحات الأوسكار لأفضل فيلم دولي، وهو ما اعتبره سينمائيون عرب إنجازاً كبيراً.

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق  نيفين مندور (صفحتها الرسمية في «فيسبوك»)

وفاة الفنانة المصرية نيفين مندور إثر حريق شبّ في منزلها

تُوفيت الفنانة المصرية نيفين مندور صباح اليوم (الأربعاء)، عن عمر يناهز 53 عاماً، وذلك إثر حريق مفاجئ شبّ في منزلها.

يسرا سلامة (القاهرة)
سينما الممثل معتز ملحيس وأمامه صورة الطفلة هند رجب في مشهد من الفيلم (أ.م.د.ب)

«صوت هند رجب»... من المهرجانات العالمية إلى السينما السعودية

منذ عرضه الأول في مهرجان البندقية السينمائي، وصولاً إلى عرضه الخاص في مهرجان البحر الأحمر السينمائي بجدة الأسبوع الماضي، أثار فيلم «صوت هند رجب» نقاشاً واسعاً.

إيمان الخطاف (الدمام)
لمسات الموضة المجوهرات كانت ضمن الحبكة السردية والبصرة للفيلم ونجحت أمينة غالي في تحقيق رؤية مروان حامد (عزة فهمي)

كيف صنعت مجوهرات عزة فهمي لغة فيلم أم كلثوم «الست»

دخول عزة فهمي عالم السينما ينسجم أولاً مع تاريخها في صناعة التراث وثانياً مع حركة عالمية لم تعد تكتفي برعاية المهرجانات أو الظهور على السجادة الحمراء.

جميلة حلفيشي (القاهرة)

«صوت هند رجب»... من المهرجانات العالمية إلى السينما السعودية

الممثل معتز ملحيس وأمامه صورة الطفلة هند رجب في مشهد من الفيلم (أ.م.د.ب)
الممثل معتز ملحيس وأمامه صورة الطفلة هند رجب في مشهد من الفيلم (أ.م.د.ب)
TT

«صوت هند رجب»... من المهرجانات العالمية إلى السينما السعودية

الممثل معتز ملحيس وأمامه صورة الطفلة هند رجب في مشهد من الفيلم (أ.م.د.ب)
الممثل معتز ملحيس وأمامه صورة الطفلة هند رجب في مشهد من الفيلم (أ.م.د.ب)

منذ عرضه الأول في مهرجان البندقية السينمائي، وصولاً إلى عرضه الخاص في مهرجان البحر الأحمر السينمائي بجدة الأسبوع الماضي، أثار فيلم «صوت هند رجب» نقاشاً واسعاً؛ لاعتماده على الصوت بوصفه مركز التجربة السينمائية، وهو عمل توقفت عنده منصات سينمائية عالمية لكونه فيلماً يختبر قدرة مكالمة هاتفية على حمل مأساة كاملة، عبر السرد السمعي وحده.

وفي هذا الأسبوع، يصل الفيلم إلى صالات السينما السعودية ومجموعة من الدول العربية، حاملاً معه ذلك الصدى العالمي، ومطروحاً أمام جمهور جديد يترقّب عرضه يوم الخميس 18 ديسمبر (كانون الأول). الفيلم من كتابة وإخراج كوثر بن هنية، المرشحة مرتين لجوائز الأوسكار، وقد فاز بـ«جائزة الأسد الفضي» وهي الجائزة الكبرى للجنة التحكيم في مهرجان البندقية السينمائي. كما نال تكريمات في مهرجان سان سيباستيان، محققاً أعلى تقييم في تاريخ المهرجان، إلى جانب مشاركته في مهرجان شيكاغو السينمائي، مما أسهم في ترسيخ حضور الفيلم بوصفه أحد أكثر الأفلام غير الإنجليزية تداولاً خلال العام.

المكالمة الهاتفية... نقطة البداية

ينطلق «صوت هند رجب» من واقعة حقيقية شهدها قطاع غزة في يناير (كانون الثاني) 2024، حين حوصرت الطفلة الفلسطينية هند رجب، ذات الأعوام الستة، داخل سيارة تعرّضت لإطلاق نار في أثناء محاولتها الخروج من المدينة برفقة أفراد من عائلتها. ومع تعقّد المشهد الميداني، تتواصل الطفلة عبر الهاتف مع متطوعي الهلال الأحمر، فيما تتتابع محاولات التنسيق للوصول إليها. من هذه اللحظة، يتشكّل البناء السردي للفيلم، حيث يصبح الصوت مساحة الحكاية الوحيدة، ويتحوّل الانتظار إلى عنصر درامي قائم بذاته.

تختار المخرجة التونسية، كوثر بن هنية، أن تضع الهاتف في قلب التجربة السينمائية، وأن تمنح الصوت وظيفة تتجاوز كونه وسيطاً تقنياً إلى كونه حاملاً للزمن والقلق والمعنى. الكاميرا تتابع محيط الحدث، وحركة المسعفين، ومسارات التنسيق المتشابكة، فيما يبقى مركز الثقل معلقاً عند الطرف الآخر من الخط. هذا البناء يفرض على المشاهد حالة إصغاء مستمرة، ويضعه في موقع المشاركة الشعورية، حيث تتقدّم الدقائق بثقلها وتتراكم الأسئلة مع كل محاولة وصول مؤجلة.

يركز الفيلم على عجز المسعفين على إنقاذ الطفلة التي تستنجد بهم (أ.م.د.ب)

اختبار العجز الإنساني

في مقاربته الحدث، يختار «صوت هند رجب» مساراً إنسانياً يركّز على الفعل ذاته: الاستغاثة، والمحاولة، والسعي للوصول. هذا التركيز يمنح الفيلم بعداً إنسانياً، ويجعله مفتوحاً على تلقي جمهور واسع يرى في القصة اختباراً أخلاقياً لمعنى الإنقاذ حين تتشابك الظروف وتتأخر الاستجابة. هنا، تتحول السينما إلى مساحة تأمل في حدود الفعل الإنساني، وفي المسافة بين النداء والاستجابة.

كوثر بن هنية، التي راكمت حضوراً بارزاً في المشهد السينمائي الدولي خلال السنوات الماضية، تواصل في هذا العمل مشروعها الفني القائم على مساءلة العلاقة بين الواقع والتمثيل، وذلك بعد أفلام لاقت اهتماماً عالمياً مثل «الرجل الذي باع ظهره» و«بنات ألفة»، حيث تأتي هذه التجربة لتؤكد انشغالها بتحويل الوقائع المعاصرة إلى بناء سينمائي متزن، يعتمد على الشكل بوصفه مدخلاً للفكرة. ففي هذا العمل يظهر هذا الوعي في الاختزال السردي، وفي الثقة بقدرة الصوت على حمل الثقل الدرامي.

يشارك في بطولة الفيلم مجموعة من الممثلين، من بينهم سجا كيلاني، ومعتز ملحيس، وكلارا خوري، وعامر حليحل، في أدوار تتوزع بين محيط الحدث ومسارات التواصل ومحاولات التنسيق، وكل ذلك يحدث في مكان واحد، على مدى ساعة ونصف هي مدة الفيلم، حيث تتحرك الشخصيات ضمن سياق جماعي، تتكشف ملامحه عبر الأصوات وردود الفعل أكثر من الأداء القائم على الصورة.

الصوت في الصدارة

يبرز الصوت في الفيلم بوصفه الشخصية الأهم: صوت الطفلة، وأصوات المسعفين، وأصوات المتطوعين، جميعها تتحول إلى مكوّنات درامية تحمل الخوف والارتباك والأمل المؤجل... ومع امتداد التجربة من دون ذروة تقليدية، يبقى المشاهد داخل حالة توتر مستمرة تعكس طبيعة الحدث، وتمنح العمل ثقله الأخلاقي.

وخلال عرضه الخاص ضمن الدورة الخامسة من مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي، حظي الفيلم بتفاعل لافت داخل القاعة الرئيسية. فالعرض، الذي اقتصر على مناسبة واحدة فقط، نفدت تذاكره سريعاً، واختُتم بوصلة تصفيق امتدت لنحو 4 دقائق، في مشهد عبّر عن حجم الأثر الذي تركته التجربة لدى الجمهور، وسط تفاعل عاطفي عكس ثقل الموضوع وطبيعة المعالجة التي يفرضها الفيلم على مشاهديه.

في سباق الأوسكار

يمثّل الفيلم الترشيح الرسمي لتونس في فئة أفضل فيلم دولي ضمن سباق جوائز الأوسكار لعام 2026، في منافسة تضم أعمالاً من 86 دولة، وهذا السياق يضع العمل ضمن مسار شديد التنافس، تتقاطع فيه القيمة الفنية مع طبيعة الموضوع ونمط التلقي، مدعوماً بخبرة مخرجته والأصداء التي رافقت عروضه الأولى.

في المحصلة، يقدّم «صوت هند رجب» تجربة سينمائية تنتمي إلى سينما الذاكرة والتوثيق الإنساني، حيث يتحول الصوت إلى أداة لحفظ الأثر، وتصبح المكالمة الهاتفية سجلاً زمنياً للحظة كاملة. ومع وصوله إلى صالات السينما السعودية، يفتح الفيلم مساحة جديدة للنقاش حول دور السينما في مقاربة المآسي المعاصرة، عبر الإصغاء، والتأمل، وتثبيت الذاكرة بوصفها فعلاً ثقافياً وإنسانياً.


السينما في 2025... عام مفصلي لتطور تقنيات الإبهار

«سريع وغاضب» واللامعقول (يوينڤرسال)
«سريع وغاضب» واللامعقول (يوينڤرسال)
TT

السينما في 2025... عام مفصلي لتطور تقنيات الإبهار

«سريع وغاضب» واللامعقول (يوينڤرسال)
«سريع وغاضب» واللامعقول (يوينڤرسال)

في مجمله، كان عام 2025 نقطةً مفصلية في مسار السينما على أكثر من صعيد. بدقّة عالية يمكن تحديد العام الحالي على أساس نقطة تفصل بين ما قبله وما بعده، تماماً كما حدث عندما داهم وباء «كورونا» العالم قبل 5 سنوات، فوجدت السينما، كغيرها من القطاعات، نفسها في موقع التحدي والمواجهة.

لكنّ ما يحدث هذه المرّة يختلف؛ فالسينما تدخل عصراً جديداً تبلورت ملامحه في الأعوام السابقة، ثم تجسّد عام 2025 بوصفه واقعاً ثابتاً وقوة مؤثرة في مختلف عناصر الصناعة. الإحاطة بهذه التطورات تكشف حجم تأثير دخول التقنيات إلى عمق البنية الصناعية للسينما.

«بوليت» المطاردة تبدو واقعية لليوم (وورنر)

استبدال شامل

حتى سنوات قليلة مضت، ظلّ إنتاج الأفلام يجري بالطريقة التقليدية: الموافقة على المشروع، ومن ثَم تطويع كل الإمكانات الفنية والتقنية لخدمته وفق موضوعه ونوعه. وكان من المعتاد اللجوء إلى تقنيات الكمبيوتر غرافيكس لإتمام ما يصعب تحقيقه واقعياً، مثل مشاهد مطاردات السيارات في أفلام مثل «بولِت» (Bullitt) 1968، و«ذَ فرنش كونكشن» (The French Connection) 1971، و«رونَن» (Ronin) 1998، التي كانت تُنجز بجهود بشرية شاقة وبمخاطر حقيقية.

اليوم تغيّر القاموس التنفيذي بالكامل. بات في الإمكان تصوير ممثل يركض في «شوارع باريس»، وهو في الحقيقة واقف داخل ستوديوهات «يونيڤرسال»، أمام شاشة خضراء. ويكفي عقد مقارنة بين تلك الأفلام الكلاسيكية وأي فيلم من سلسلة «Fast and Furious» للتأكد من حجم التحوّل.

لكن المدّ لا يتوقف هنا. فالاعتماد على الذكاء الاصطناعي شهد هذا العام قفزة جديدة. صار من الممكن، تنفيذ الفيلم من السيناريو إلى الشاشة عبر منظومة غير بشرية بالكامل: كتابة، إخراج، تصوير، مونتاج، بل وحتى أداء الممثلين.

دافع رئيس

قبل أسبوعين، اعتلى المخرج غييرمو دل تورو منصّة «أميركان فيلم إنستتيوت» لتسلُّم جائزته عن فيلمه الجديد «فرانكنستين»، ونال تصفيقاً حاراً حين أعلن: «فيلمي فني في كل لقطة. خالٍ بنسبة 100 في المائة من الذكاء الاصطناعي».

وعلى الرغم من هذه المواقف، يبقى الدافع الأساسي لاعتماد التقنية واضحاً: تقليص الميزانيات الضخمة للأفلام التجارية. فالذكاء الاصطناعي قادر على خفض التكاليف إلى النصف تقريباً، بحيث تبقى الرواتب هي العبء الأكبر وحدها.

وهذا يتقاطع مع استعداد جمهور واسع لقبول كل ما يقدّم له ما دام يحتوي على جرعات عالية من الأكشن والخيال، دون الاكتراث بما إذا كان الفيلم «بشرياً» أم مُنتجاً آلياً.

«فرانكنستين» 100 في المائة سينما (نتفليكس)

تفكير بالنيابة

يرى المدافعون عن الذكاء الاصطناعي (AI) أنّه يطوّر بصريات الفيلم ويجوّد مؤثراته، لكن هذا صحيح بقدر محدود. فالسينما بلغت قممها على أيدي فنانين أكفّاء صنعوا روائع مثل «ووترلو»، أو «بوني وكلايد»، أو «لورنس العرب»، أو «صنست بوليڤارد»، أو «القيامة الآن».

ما يطلبه الذكاء الاصطناعي ببساطة هو: «لا تفكّر... سأفكّر نيابةً عنك».

وهو ما يشبه ما حدث مع الهواتف الذكية وخرائط «غوغل»: استبدال الجهد الذهني بالاعتماد التام على التقنية.

ولا يعمل الذكاء الاصطناعي وحده في هذا المسار. فعام 2025 هو الامتداد الأكثر شراسة لما بدأ قبل سنوات مع المنصّات المنزلية، التي توفّر عليك مهمّة الانتقال إلى صالات السينما. غايتها ليست راحتك ولا حتى مساعدتك على الحد من النفقات (لم ترتفع أسعار التذاكر إلى المستوى الحالي إلا كرد فعل على انخفاض الإقبال) بل مد أصابعها إلى محفظتك كل شهر. أنت بالتالي، وعلى عكس روعة الحضور الفعلي لصالة السينما، لست أكثر من رقم محفوظ ومصمم لكي تُفيد جهة لن تقوم مطلقاً بتوفير أفلام فنية أو تعالج موضوعات جادّة بفاعلية طالما إنها ليست مطلب الجمهور.

وفي هذا السياق جاء هجوم «نتفليكس» الأخير لشراء «وورنر»، في خطوة توسّع رقعة هيمنة المنصّات. بينما جاء دخول «باراماونت» على خط الاستحواذ لعرقلة هذا التفرّد وإعادة بعض التوازن إلى المنافسة.

لكن السينما المناوئة لم تُهزم بعد وتجد في المهرجانات الفنية مساحة كبيرة للمقاومة كما في مواقف مخرجين يدركون جيّداً أن عليهم الصمود في وجه هذه التيارات.


شاشة الناقد: ثلاثة أفلام من مهرجان «البحر الأحمر» تكسر المعتاد

«العميل السري» (مهرجان البحر الأحمر)
«العميل السري» (مهرجان البحر الأحمر)
TT

شاشة الناقد: ثلاثة أفلام من مهرجان «البحر الأحمر» تكسر المعتاد

«العميل السري» (مهرجان البحر الأحمر)
«العميل السري» (مهرجان البحر الأحمر)

THE SECRET AGENT ★★★★

إخراج: ‪ كلايبر مندوزا فيلو‬

البرازيل | تشويق سياسي

عروض 2025: مهرجان «البحر الأحمر»

يتألّف هذا الفيلم الذي شهد عرضه الأول في مهرجان «ڤينيسيا» هذا العام واستُقبل جيداً في مهرجان البحر الأحمر قبل أيام من 3 أقسام، كل منها بعنوان مختلف، لكن ليس بغرض سرد 3 حكايات مختلفة، بل لربط أحداث كل فصل وشخصياته بخيط واحد يتناول، بالإيحاء غالباً، الجريمة السياسية في البرازيل سنة 1977. وسواء تحدّث القسم الأول عن جرائم قتل ارتكبها نظام تلك الفترة ضد المواطنين، أو رغبة بطل الفيلم مارسيلو (واغنر مورا) في البحث في أرشيف الدولة عن تاريخ عائلته (القسم الثاني)، أو لجوئه للتخفي بعيداً عن أعين مطارديه في محاولته لإعادة فهم وتقييم الواقع المُعاش (عموم الأقسام الثلاثة)، فإنه يوفّر من خلال شخصية بطله نظرة جامعة لأثر الاضطهاد السياسي على حياته فرداً وحياة الآخرين مجموعةً. وهو يفعل ذلك بدراية كاملة وبحرية فنية تجعل الفيلم أكثر إشباعاً لمحبي السينما وتمنح المُشاهد معالجة تبدو كما لو كانت مستقاة من خطوط أحداث لا نراها، بل نعايشها كما نعايش الماثل أمامنا. هذا كان شغل فيلو منذ فيلمه الأول «أصوات مجاورة» (Neighboring Sounds) وما زال شغله الآن، حيث ما نراه وما لا نراه يتساويان في الإيحاء والأهمية.

يستخدم فيلو السينما مرآة تعكس ذاكرة تقض المضاجع. مارسيلو يعيش في ماضيه كما في واقعه الحالي. يلجأ إلى بلدة تعيش طقوساً احتفالية لا يأبه لها كثيراً، إذ إن غايته إعادة الوصل بينه وبين ابنه الذي يعيش في الخيال. كل هذا والشعور بأن السلطة والعاملين فيها أو متعاملين معها موجودون عن قرب، حتى وإن لم نرَ لهم حضوراً فعلياً.

يتحرك الفيلم بحرية بين موضوعاته وأقسامه، غير مرتبط بمنهج سرد معيّن، ولكثرة مشاغله وما يود البحث فيه هناك تطويل يطغى، لكنه يبقى قادراً على جذب الاهتمام طوال الوقت. ما يتبلور على الشاشة هو عمل يجمع بين سيرة شبه شخصية لرجل يرفض نسيان الأمس وبين حب السينما كلغة تعبير، وثقة المخرج بالكيفية التي ينجز فيها مفرداته هذه.

BLACK RABBIT‪,‬ WHITE RABBIT ★★★

إخراج: شهرام مقري

طاجيكستان/ الإمارات العربية

المتحدة | دراما

عروض 2025: مهرجان «البحر الأحمر»

هذا فيلم غريب يُقدّر لحريّة المخرج في معالجته المبنية، بوضوح، على الخروج من شروط السرد المعتمد عادةً إلى آخر يتطلّب من المُشاهد التحرك بالاتجاه نفسه، متجاوزاً بدوره ما اعتاد عليه.

«أرنب أسود، أرنب أبيض» (مهرجان البحر الأحمر)

يدور في أرض تعود إلى استوديو حيث يُصوَّر فيلمان معاً في رقعة واحدة. رغبة المخرج مقري تعتمد على الإكثار من استخدام حريّته في رصف الفيلم الذي يريد كما يريده. هذا يخلق وضعاً تتكرر فيه المشاهد والحوارات، كما الحال عادةً خلال صنع الأفلام. نرى المشهد نفسه مع تغيير طفيف أكثر من مرة، تبعاً لرؤية مخرج يهوى التجريب ويراه مدخلاً مناسباً لسينماه. امرأتان ورجل ومسدس قديم هم محور ما يدور، لكن في وسط ما يبدو تكراراً، حضور لطبقات جديدة تتوالى الظهور.

من حسنات الفيلم التصوير (لمرتضى غايدي)، الذي يؤسس لنظام عمل متكامل يتواكب مع رغبة المخرج في تشغيل مخيلة المُشاهد وتعزيز أسلوبه. في أحيان كثيرة، يؤدي ذلك، ولو بالقصد، إلى الخلط بين الحدث الذي يقع في الفيلم الذي نراه، وذلك الحدث الآخر الذي ينطوي عليه الفيلم داخل الفيلم.

LOST LAND ★★★

إخراج: أكيو فوجيموتو

اليابان/ ماليزيا/ فرنسا

دراما عن الهجرة

عروض 2025: مهرجان «البحر الأحمر»

لا بد أن الشعور الإنساني في صميمه هو ما يدفع مخرجاً يابانياً للانتقال إلى بنغلاديش لتصوير موضوع محلي الحدث مع شخصيات محلية بدورها.

«أرض مفقودة» (مهرجان البحر الأحمر)

في «أرض مفقودة» متابعة لمصير صبي في الرابعة من العمر وشقيقته ابنة التاسعة، وقد قررا الاشتراك في رحلة تبدأ في حافلة تقل عشرات الأشخاص وتنتهي بهما بعد أيام من المشاق، وقد أصبحا وحيدين. مما يتبدى أن غاية المخرج فوجيموتو هي الحديث عن الهجرة غير الشرعية عموماً، مع تمهيد للشخصيتين قبل التحوّل عنهما لتصوير آخرين يؤمّون الهدف نفسه ويعيشون مصاعبه. سيعود المخرج للصبي شافي وأخته سميرة لاحقاً بعد أن يؤسس صورة عامة.

رغبة هذين الولدين هي ترك بنغلاديش في محاولة للقاء والديهما اللذين كانا قد هاجرا إلى ماليزيا. ليس هناك كثيراً لتداوله حول ظروف ما قبل قرارهما بالهجرة، لكن الحكاية تنتهي بهما وقد وجدا نفسيهما في تايلاند. على ذلك، يلتقي هذا المنهج مع حقيقة أن الشخصيات المحيطة تهاجر من دون القدرة على اتخاذ قرارات صائبة. في عموم الفيلم، هم آملون بمستقبل أفضل في عالم لا أمل فيه بالنسبة إليهم على الأقل.

★ ضعيف | ★★: وسط| ★★★: جيد | ★★★★ جيد جداً | ★★★★★: ممتاز