محمد المخزنجي
كاتب مصري

المجد للعواجيز والفخار

عالم «الجغرافيا البيولوجية» وأستاذها جارد دياموند في كتابه المُزلزِل «جراثيم، أسلحة، وفولاذ» الصادر عام 1997 والحائز جائزة «بوليتزر»، والذي ظل على رأس قائمة الكتب الأكثر مبيعاً لسنوات، ولا تزال تتجدد طبعاته، وسَّع في طبعته الأخيرة وعمّق باباً عنوانه «من هم اليابانيون؟». ويمكن إجمال الرد على هذا السؤال مما أورده ذلك الفصل بأنهم «الجماعة البشرية التي نهضت على أكتاف أواني الفخار وحكمة العواجيز». لكن سيناريو هذا النهوض الياباني الأبكر يفاجئنا بأن ما نعرفه مما يُسمَّى التاريخ، لا يعدو أن يكون شذرات من بشرة - قشرة - مسيرة البشرية على الأرض.

وسائد للاحتضان

البساطة الشديدة التي تكنز تعقيداً شديداً هي أكثر ما يُدهش من يرى الصينيين في موطنهم. نقيضان يتآزران لإبداع جديد استثنائي غالبا. وأظن أن حالة التوازن هذه مرجعها امتلاء تاريخي بالحضارة والإبداع، إضافة للاستعداد الفطري لعدم الاستسلام للاكتئاب. ولعل الأخير هو الأهم.

هل يحمي المفترسُ فريسةً؟

في شهر مايو (أيار) عندما يحل الدفء وتتوهج رغبات التزاوج عند كائنات سهول التوندرا على حافة المنطقة القطبية الشمالية في ألاسكا، يجد «الأوز العظيم أبيض الصدر» نفسه في مواجهة اتخاذ قرار خطير: أين يضع عشه في تلك السهول اللانهائية المكشوفة، حيث لا أشجار أو حتى أعشاب طويلة تخبئ بيضه وأفراخه عن عيون مفترسيه من ثعالب قطبية ماكرة ونوارس فتاكة، ثم إنه مضطر للتعشيش على الأرض. يختار الزوجان من الأوز موقعاً متحدراً لعله يقلل من اكتشاف المفترسين لعش الزوجية المنشود، ويتناوبان في حراسة العش التي تلعب فيها شراسة الذكر دوراً كبيراً لكنه ليس حاسما.

عيون العقل

في 20 مارس (آذار) سنة 2000 انطلق مايك ماي رجل الأعمال الأميركي وبطل العالم في التزلج على الجليد لفاقدي البصر في أول رحلة طيران داخلية يقوم بها عقب تعافيه من عملية رائدة طيرت أخبار نجاحها وكالات الأنباء؛ إذ استخدمت فيها الخلايا الجذعية لتكوين قرنية جديدة أعادت النور إلى عينيه اللتين دمرت قرنيتيهما إصابة بمادة كيميائية وهو في الثالثة من عمره.

رائحة الثوم المحروق

القصة وردت في الكتاب الرائع الضخم عن مرض السرطان «إمبراطور المآسي»، وتحكي أنه في 2 ديسمبر (كانون الأول) 1943 أغار سرب من الطائرات الألمانية على مجموعة سفن أميركية راسية قرب مدينة باري جنوب إيطاليا، وكانت إحدى هذه السفن، وتدعى «جون هارفي»، محمّلةً بسبعين طنّاً من غاز الخردل دون معرفة طاقمها بذلك، ومع اشتعال السفينة اشتعلت حمولتها من الغاز السام، وبدأ الصيادون والقاطنون حول الميناء يعانون من رائحة الثوم المحروق التي تشبَّع بها الهواء، وتم انتشال البحارة الأميركيين من المياه وهم يعانون من رعب الألم وعيونهم مغلقة ومنتفخة.

جنون

هل يمكن أن يكره الكائن من ينظفه، من يخلصه من طفيليات تزعجه وتمص دمه، وهل تصل الكراهية في هذه الحالة إلى درجة قتل المُنظِّف، بل قتله بطريقة بالغة الحقد والقسوة؟ نعم يمكن، وهو ما يجسده مصير طائر «نقار الثور أحمر المنقار» الذي يسحقه أحد الحيوانات التي ينظفها، وهو ليس وقفا على الثيران التي اقترن اسم هذا الطائر بها، فهو ينقر لينظف طائفة واسعة من الثدييات الكبيرة، التي تنتشر بسهول السافانا جنوب الصحراء الكبرى الأفريقية، ومنها الأفيال، والزراف، والخراتيت، وجاموس الكاب، وحُمُر الزرد. لقد اعتبر علماء سلوك الحيوان عمل هذه الطيور جميلا ونبيلا، حتى إنهم كرَّموه بمصطلح يعكس معنى تقدير الرقي في تكامل الكائن

كُمَّثراة وردية مقلوبة

الطبيب الذي رأى الرحم لأول مرة عبر شق ولادة قيصرية كان يحضرها وهو طالب ضمن دورة طب النساء والتوليد قبل التخرج، ظل ينمو في داخله اليقين وهو يرى أعضاء أخرى تكشف عنها الجراحات المفتوحة التي يحضرها، أن الرحم هو أجمل أعضاء الجسم على الإطلاق. جمالات تشكيلية ومجازية يشع بها جميعاً هذا العضو الذي يوحي ظاهره بهيئة ثمرة كمَّثرى مقلوبة وردية اللون عظيمة الحجم مع اكتمال الجنين داخلها. أما جوهره فيومئ إلى أرض لهفى مشحونة بشوق عارم لبذرة تحتضنها، حضناً يمد الغرسة بكل ما تحتاجه لتتغذى وتتنفس وتكبر ويكبر الحضن معها.

كاميكاز العسل

مُفزع منظر الدبور الياباني الذي يبلغ طول جسمه خمسة سنتيمترات، ويفوق باع جناحيه الغشائيين المُدخَّنين عشرة سنتيمترات، فيبدو في طيرانه وكأنه عصفور من نارٍ غبراء، لهذا سمَّاه اليابانيون «أوسو زومو باتشي»، وتعني «عصفور النحل العملاق»، إذ يبدو نوعاً خارقاً من النحل بحجم العصافير، وهو أبعد ما يكون عن رقة العصافير وعن عطاء النحل. دبور برأس أصفر ضخم وعينين مركبتين كبيرتين تعلوهما ثلاث عيون صغيرة، فكأنها منظومة استكشاف ورصد متكاملة لآلية قتل حيَّة، بفكين كُلابيين مُسننين، لا يكتفيان بمجرد القبض على الفرائس لالتهامها، بل لتمزيقها بطريقة وحشية وبشعة، أكثر ما تكون مروِّعة في خلايا نحل العسل الأوروبي الذي