سعد البازعي
في إجابته الشهيرة عن ماهية التنوير، حين طرحت عليه السؤال صحيفة ألمانية عام 1784 قال الفيلسوف إيمانويل كانط ما معناه أن التنوير هو تحمُّل الإنسان مسؤولية نفسه، وهو بلوغه مرحلة النضج. لكن هل هذا المعنى أول ما يخطر ببال من يتحدثون عن التنوير اليوم، حين يشيرون إلى تلك الحركة التي تحولت إلى التيار الضخم المعروف في أوروبا إبان القرن الثامن عشر، وامتد حتى مطلع القرن التاسع عشر ولا تزال آثاره باقية إلى اليوم؟ المؤرخ الفرنسي بول هازار في كتاب بعنوان «أزمة العقل الأوروبي» يعيد التنوير إلى الربع الأخير من القرن السابع عشر وبداية الثامن عشر، أي إلى عصر ديكارت وسبينوزا ولايبنتز.
مفردات كثيرة وبالغة التأثير يتداولها كثير منا دون أن يتوقفوا عند مدلولاتها، تلامس سطح الوعي ثم تنزلق هكذا دون أن يعيقها سؤال أو يكدر مسيرتها تحفظ. من تلك المفردات «التقدم». معظم مستعملي تلك المفردة التي تحولت إلى مفهوم ضخم وشائع يقصدون بها «الانتقال إلى الأفضل».
في رواية آمنة أحمد الأولى والمذهلة «عودة فراز علي»، يُطلب من رجل بوليس أن يغطي على مقتل فتاة صغيرة في حي الدعارة في لاهور، باكستان. في مطلع الثمانينات، بعد فترة قصيرة من اغتيال الرئيس أنور السادات، كان أبي يسير ماشياً من عمله أثناء الليل باتجاه المنزل حين استوقفه جنديان. كانا صغيري السن ويشعران بالملل. قررا أن يختلقا له مشكلة. «أوراقك»، قال له أحد الجنديين. كان أبي حينذاك يعمل محاسباً في أحد الفنادق وسط القاهرة، ما يعني أنه كان يعمل في قطاع السياحة، ولذا كانت لديه بعض الحرية ليتمشى في الليل، ليتحرك، ليعيش.
في كل مرة تسمع شركات التقنية تدعي الاهتمام بـ«الأخلاقيات» عليك أن تشك في الأمر كثيراً ما يقال إن من حق الناس أن تكون لهم آراؤهم المستقلة. لكن هل هم كذلك حقاً؟ هل منحك الله حقّاً بأن تعتقد أن التعذيب أمر طيب، أو أن الهبوط على سطح القمر كان خدعة؟ بالقدر الذي تتجاوز فيه الآراء حدود أن تكون مجرد ممتلكات سرية، وإنما تصبح ميولاً لفعلٍ ما في المجتمع، فإنها تقع ضمن الاهتمام الجماعي. لذا فإنك لا تملك حقاً أصيلاً بالاحتفاظ بآرائك السرية. لسوء الحظ، ذلك أيضاً كان موقف محاكم التفتيش الإسبانية ومطاردي الساحرات، الذين بحثوا عن كل الطرق الممكنة للكشف عن الكُفر المختبئ.
لسنوات عديدة، كنت ضمن مجموعة لا بأس بها من السعوديين الأكاديميين والكتاب ومنتجي الثقافة والمشتغلين في مختلف حقولها، نتردد على عواصم عربية مثل القاهرة وبيروت وتونس والدار البيضاء إلى جوانب عواصم خليجية مختلفة لحضور مؤتمر أو ندوة أو للمشاركة في مهرجان. وكنا في ذلك كله، نقارن ما لدينا في المملكة بما لدى أشقائنا العرب، يدور الحديث عن غياب وزارة للثقافة أو هيئة تماثلها أو تملأ فراغها. وحين صدر قرار إنشاء وزارة للثقافة تكون مضمومة إلى وزارة الإعلام ابتسمنا لكنها كانت نصف ابتسامة، لأن ما تحقق وصل إلى نصف ما كنا نتطلع إليه، لأن ما تحقق كان نصف أحلامنا.
توفي روبرت بلاي، شاعر ولاية مينيسوتا، المؤلف والمترجم الذي منح العزلة والمشاهد الطبيعية لغة، حشد الاحتجاجات ضد حرب فيتنام وبدأ حركة رجالية مثيرة للجدل بكتاب شديد الرواج دعا إلى استعادة القوة الذكورية الأولى. توفي بلاي في بيته بمينيابوليس وهو في الرابعة والتسعين. قد يظن المرء بتأمل حجم أعماله - أكثر من 50 مجموعة شعرية وترجمات لكتاب أوروبيين وأميركيين لاتينيين، وتعليقات نثرية على الأدب، والأدوار الجنوسية والأمراض الاجتماعية، بالإضافة إلى مجلات الشعر التي حررها على مدى عقود - أنه إزاء رجل منعزل في كوخ بأحراش شمالية.
«قس بروكستون هذا أفضل قليلاً من وثني!»، أسمع أحد قرائي يتعجب، مضيفاً: «كم كان ذلك سيكون مثرياً لو أنك طلبت منه أن يعطي آرثر نصيحة روحانية حقيقية. كان يمكنك تلقينه أجمل الأشياء - ما ليس بأقل جمالاً من قراءة موعظة». من المؤكد أن ذلك كان بإمكاني، لو أنني التزمت بأكثر مهام الروائي رفعة في تمثيل الأشياء كما لم تحدث ولن تحدث. في تلك الحالة كنت بالطبع سأعيد تشكيل الحياة والشخصية بأكملهما على ذائقتي؛ كنت سأختار أكثر أنواع الكهنة استثنائية، وأجعل أفكاري تشع في فمه بكل المناسبات.
في يونيو (حزيران) 2020، مرت الذكرى الأربعون لوفاة والدي. في الأشهر التي سبقت ذلك كنت قد خططت لأساليب طقوسية تبرز فقداً كهذا. ولكن حين جاءت ذكرى الوفاة كان 380 ألفاً قد ماتوا بسبب كوفيد. حزني الذي كان فردياً انضوى تحت النحيب الجماعي. كان ذلك حتى جاء استكشاف تشيماماندا نغوزي أديشي المثقل بالألم لوفاة والدها ذلك الشهر. في 30 قسماً يرسم كتاب «ملاحظات حول الحزن» درباً يمكننا عبره أن نرثي صدماتنا الفردية وسط الألم المتراكم في هذا الزمن المروع. أديشي، دليلنا، مكشوفة، مملوءة بـ«جئير الغضب المعذب»، تعلمنا ضمن فضاء هذا العمل كيف نلملم ذواتنا المتناثرة ونبحر عبر الجائحة التي لا تزال تزأر.
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة