الأنوار والتنوير... أنوار ماذا؟ وتنوير مَن؟

تودوروف
تودوروف
TT

الأنوار والتنوير... أنوار ماذا؟ وتنوير مَن؟

تودوروف
تودوروف

في إجابته الشهيرة عن ماهية التنوير، حين طرحت عليه السؤال صحيفة ألمانية عام 1784 قال الفيلسوف إيمانويل كانط ما معناه أن التنوير هو تحمُّل الإنسان مسؤولية نفسه، وهو بلوغه مرحلة النضج. لكن هل هذا المعنى أول ما يخطر ببال من يتحدثون عن التنوير اليوم، حين يشيرون إلى تلك الحركة التي تحولت إلى التيار الضخم المعروف في أوروبا إبان القرن الثامن عشر، وامتد حتى مطلع القرن التاسع عشر ولا تزال آثاره باقية إلى اليوم؟ المؤرخ الفرنسي بول هازار في كتاب بعنوان «أزمة العقل الأوروبي» يعيد التنوير إلى الربع الأخير من القرن السابع عشر وبداية الثامن عشر، أي إلى عصر ديكارت وسبينوزا ولايبنتز. لكن هذه التحديدات التاريخية ليست بحد ذاتها هي الأهم: الأهم هو ما يعنيه التنوير أو تعنيه الأنوار، وسأعتمد مفردة «تنوير» هنا. كثيرون لا يترددون في استعمال المفهوم أو المصطلح دون توقف كافٍ عند دلالاته وحدوده، عند ظروفه التاريخية أو امتداداته الجغرافية وآثاره. هذا رغم كثرة ما ألف غربياً وعربياً حوله سواء بالتحليل الأصيل أو الترجمة.
في هذه المقالة أتابع ما ابتدأته في مقالة سابقة حول مسألة المفاهيم، وكانت المقالة السابقة حول «التقدم» قد طرحت سؤالاً وهو: التقدم إلى ماذا؟ هنا أتابع استجواب تلك المفاهيم الكبرى في ثقافتنا المعاصرة فأطرح السؤال الذي طرحته على نفسي قبلاً في مسعى للبحث عن إجابة أو على الأقل لإرباك بعض الإجابات الجاهزة. السؤال هو عمن يُصدر النور، وعمن يقع عليه ذلك النور: من يرسل النور ومن يستقبله؟ والسؤال يتضمن لا محالة سؤالاً مضمراً عن ماهية ذلك النور.
لقد انطلق التنوير من طرح الأسئلة والمفترض ألا يُستثنى التنوير نفسه من طرح السؤال عليه هو ابتداءً. إجابة كانط عن ماهية التنوير لا تعني بطبيعة الحال التوقف عن طرح ذلك السؤال مرة أخرى، وقد طرح بالفعل مرات ومرات لأن من بدهيات العقلانية التي قام عليها التنوير هي أن يحتفظ العقل بقدرته على الاستمرار في طرح الأسئلة لكن بحثاً عن الحقيقة وليس ليكتفي بالطرح.
هذا السؤال ليس جديداً بطبيعة الحال، فقد تمحور حول طرحه إرث فكري ضخم تضمن أطروحات لمؤرخي ذلك التيار والعديد من مفكري القرن العشرين ومنهم مفكرو مدرسة فرانكفورت والفرنسي ميشيل فوكو وكثيرون آخرون. يرى فوكو في تعليقه على إجابة كانط أن سؤال «ما هو التنوير؟». سؤال لم تنفك الفلسفة تطرحه منذ ظهر ذلك التيار. كان كانط أحد المجيبين عن السؤال وتبعه في ذلك هيغل ونيتشه وفي عصرنا تودوروف ونقاد ما بعد الاستعمار وغيرهم. ومع أن لدى فوكو، كما لدى غيره، تصوراً حول ماهية التنوير، فإن طرح السؤال، بل عنونة مقالة المفكر الفرنسي بذلك السؤال، مؤشر كافٍ على أن طرح السؤال يظل مهماً لا سيما في بيئات ثقافية كانت بعيدة عن تلك التي تنامت فيها الظاهرة ابتداءً.
لو تأملنا بعض الإجابات التي طرحت حول السؤال لوجدنا شيئاً منها في عناوين بعض الكتب التي أرخت للتنوير، مثل تأريخ الأميركي الألماني بيتر غي Gay الذي صدر في جزأين في ستينات القرن العشرين: الأول «التنوير: قيام وثنية حديثة» والثاني «التنوير: عِلم الحرية». هذا إلى جانب كتاب إريك برونر «الانقسام العظيم: التنوير ونقاده» الذي صدر أواسط التسعينات من القرن الماضي، وغير ذلك كثير. العنوان الأخير بحد ذاته مهم لما أرمي إلى طرحه أو بالأحرى التذكير به، أي أن للتنوير نقاداً لا سيما في القرن العشرين وفي فكر ما بعد الحداثة بصفة خاصة. والنقد لا يعني رفض التنوير بقدر ما يعني تبيان وجوه القصور أو محدودية الأطروحات والطموحات لدى مفكري التنوير والمبشرين به سواء في فرنسا أو غيرها (لا سيما ألمانيا واسكوتلندا). في نهاية مقالته يصل فوكو إلى خلاصة تؤكد القصور عن النضج الذي رآه كانط في التنوير: «لا أدري ما إذا كنا سنصل يوماً إلى نضج البلوغ. الكثير في تجربتنا يقنعنا بأن التنوير، ذلك الحدث التاريخي، لم يوصلنا إلى البلوغ الناضج، كما أننا لم نصل تلك المرحلة بعد».
غير أن التعليق الأشهر على التنوير في العصر الحديث هو في ظني ذلك الذي صدر عن مدرسة فرانكفورت. النقد الذي تبنته تلك المدرسة، أو بالأحرى اثنان من أعلامها هما ماكس هوركهايمر وتيودور أدورنو، في كتابهما «جدل التنوير» (1944)، لم يكن لمبادئ التنوير بقدر ما كان لمآلاته، لما أفضى إليه من تبنٍ لعقلانية ميكانيكية ألغت الإنسان أو حولته إلى أرقام يمكن محوها، وكان الدمار الذي حاق بالغرب في حربين عالميتين من نتائج تلك العقلانية. والمفكران الألمانيان/اليهوديان معنيان بصفة خاصة بالهولوكوست، أي بما حل باليهود في ألمانيا وغيرها. كأن نقد المفكرين للتنوير جزء من النقد الشامل الذي وجه لمسيرة الحضارة الغربية في أعقاب الحربين العالميتين والخيبة العميقة التي انتشرت بين الأوروبيين بصفة خاصة حين رأوا العلم والعقل يوظفان للتدمير بدلاً مما وعد به التنوير من نور وسعادة.
وإذا كانت الجماعات اليهودية رأت التنوير من تلك الزاوية المظلمة، أو لم ترَ التنوير تنويراً، فحري بشعوب لم تعش في أوروبا وإنما في مناطق حلت عليها لعنة الاستعمار وما مثله من نهب منظم لثرواتها وإضاعة لمستقبلها واستعباد لشعوبها أن ترى أن ما صدر عن أوروبا القرنين الثامن عشر والتاسع عشر لم يكن تنويراً بقدر ما كان إظلاماً مدمراً، كان بتعبير الفيلسوف الفرنسي إدغار موران بربرية أوروبية شوهت كل منجزات التحضر بجعلها حكراً على منطقة واحدة من العالم هي الغرب.
المبادئ المعروفة للتنوير، الحرية والمساواة والأخوة، المبادئ التي صارت شعاراً للثورة الفرنسية، هي مبادئ لا جديد فيها لأن البشرية تبنتها منذ الأزل وحملتها أديان وفلسفات كثيرة، والكل رأى أنه مبعث للنور، لكن المفترق هو عن أي نور نتحدث؟ نور الإيمان أم نور العقل أم كليهما؟ في تيار التنوير الأوروبي ربط للنور بالعقل، العقل وليس الإيمان، وفي ذلك الربط العلامة الفارقة لحركة التنوير. ولربما لم ينتبه البعض إلى أن تبني العقل لم يلبث أن تحول إلى إيمان أيضاً، أي أنه تحول إلى آيديولوجيا لا تناقش صحة المبدأ. لقد تحول العقل إلى عقلانية (راشناليزم Rationalism)، بمعنى أنه اكتسب اللاحقة اللفظية (ism) التي أشار إليها مارتن هايدغر في «رسالة إلى الإنسانية» بوصفها علامة على تخلي الفكر عن حيويته وتحوله إلى مذهب له معلمون وتلاميذ، إلى مادة للتعليم وخاضعة لسيطرة الفضاء أو الفهم العام.
حين جاء نابليون إلى العالم الإسلامي عن طريق مصر نهاية القرن الثامن عشر حمل معه تنويراً كان يتحول أو تحول فعلاً إلى مذهب وعقلانية، تلك العقلانية التي لكي تسود كان عليها أن تستبد. وإذا كانت تلك العقلانية قد حملت فعلاً نقلة حضارية لعالم إسلامي غارق في الجهل بإدخال المطبعة وعلوم وأنظمة حديثة، فإن ما حدث تضمن أيضاً استبداداً سياسياً واقتصادياً استمر في عهد محمد علي ودفع ثمنه الملايين من المصريين الذين لم يفيدوا من ذلك التحضر بقدر ما ظلوا في غياهب الجهل والفقر بعد أن أكرهوا على العمل ضمن نظام إقطاعي ظل معهم لما يزيد على قرن ونصف. صحيح أن مبادئ التنوير ليست مسؤولة عن ذلك، فهي في نهاية المطاف مبادئ مثل أي مبادئ أخرى تعتمد على كيف تفهم وكيف تطبق ومن يطبقها، لكن ذلك ما حدث في أوروبا أيضاً حين أفضى التنوير إلى فضائع الثورة الفرنسية دون أن يخفف من الاستبداد السياسي أو يحقق الأخوة والمساواة. ومن هنا كان مهماً استذكار السياقات التاريخية لحركة كثيراً ما تحاط بهالات الإعجاب لكي تخف على الأقل حدة «النور» في تلك الهالات. مبادئ التنوير التي آمن بها فولتير لم تمنعه من أن يصف كاترينا، إمبراطورة روسيا، بالمستبدة المستنيرة، ولا كانط من أن ينصح إمبراطور ألمانيا فريدريك الثاني بتبني نوع من العقد، حسب تعبير فوكو، بين «الاستبداد العقلاني والعقل الحر: الاستعمال العام والحر للعقل المستقل خير ضامن للطاعة...». شريطة انسجام ذلك مع «العقل الكوني» حسب الفلسفة الكانطية.



«فصول نسوية»... مسرحيات مونودرامية من داريو فو وفرنكا راما

«فصول نسوية»... مسرحيات مونودرامية من داريو فو وفرنكا راما
TT

«فصول نسوية»... مسرحيات مونودرامية من داريو فو وفرنكا راما

«فصول نسوية»... مسرحيات مونودرامية من داريو فو وفرنكا راما

وصف الناقد المسرحي البريطاني جيليان هانا «نصوص نسوية»، بأنها «تأدية للأدوار في المرآة». فهي مشاهد يومية تتحدث عن نساء وحيدات، وحزينات، وبسيطات وبائسات، وتتناول حياة المرأة في المجتمع الأوربي «المتطور» بنقد تهكمي جارح.

شريك النساء على المسرح، ونديمهن، قد يكون التليفون، أو الراديو، أو التلفزيون، أو متحدث خارج المسرح، أو جارة وهمية في نافذة مقابلة، كما الحال في «امرأة وحيدة». لكنهن مرحات، شجاعات، وواعيات وتتراوح انفعالاتهن بين السخرية المرة من المجتمع الأوروبي الرجولي المتبجح بالانفتاح، واليأس حد الانتحار بحز شريان الرسغ.

عرضت هذه المسرحيات النسوية القصيرة على مسرح «بلازينا ليبرتي» في إيطاليا سنة 1979 لأول مرة. أدت فرنكا راما الأدوار فيها بمفردها، وساعد زوجها درايو فو في كتابة النصوص وإعداد سينوغراف المسرح. مسرحيات تعالج الاضطهاد المزدوج، الاجتماعي - الجنسي والطبقي، المسلط على المرأة وحياة النساء بين المطبخ والأطفال والكنيسة والمصنع.

كسبت العروض شعبية كبيرة بين النساء والرجال في إيطاليا، وقدمت آنذاك في معظم المدن الإيطالية الكبيرة. وجرى عرضها في المصانع والمراكز الاجتماعية والنسوية، وخُصصت مداخيلها لدعم نشاط دور النساء المضطهدات.

قدمت راما أحد هذه العروض على سطح أحد مراكز الدفاع عن حقوق المرأة في روما. وبعد كل هذه العروض التحريضية، التي ألهمت النساء الإيطاليات، انتقلت العروض إلى ألمانيا وبريطانيا والسويد، وخصصت مداخيل العرض في فرنكفورت لدعم السجناء الإيطاليين بالسجون الألمانية.

وبالرغم من أن هذه المسرحيات تحمل عنوان «فصول نسوية»، لكن الرجل حاضر بقوة فيها، مرات قليلة من خلال وجوده مباشرة على المسرح، ومرات أخرى من خلال صوته على الهاتف أو من خلال دمية تمثله على الخشبة، ومرات لا حصر لها من خلال سطوته الاجتماعية والجنسية وقيوده المرئية وغير المرئية المفروضة على النساء.

تقول فرنكا راما إن المرأة، على المستوى العالمي، حققت الكثير على طريق تحررها الاجتماعي والاقتصادي، لكن تحررها الجنسي لا يزال يراوح في مكانه تقريباً. وترى أن التحرر الجنسي للمرأة يبقى طوباوياً بالنسبة للنساء، لأن الفروق الجنسانية بين الرجل والمرأة ليست تشريحية فحسب، وإنما ذهنية أيضاً. فهناك كثير من الممنوعات والخطوط الحمراء، بل وكثير من العقوبات الاجتماعية المذلة، التي تحول دون هذا التحرر.

إن مسرحية «باركني أبي فقد أثمت!»، ومسرحية «امرأة وحيدة»، اللتين شاركت فرنكا راما زوجها «المهرج» داريو فو في كتابتهما، هما من أفضل المونودرامات النسوية التي جرى تمثيلها في إيطاليا بالسبعينات. وأسهمت فرنكا راما في تمثيل كثير من هذه المسرحيات، خصوصاً «امرأة وحيدة»، التي جمعها الزوجان في كتاب واحد يحمل اسم «فصول نسوية» (أكثر من 10 مسرحيات وقطع نثرية).

عرضت مسرحية «امرأة وحيدة» على مسارح مصر وسوريا ولبنان وفلسطين والسويد، بعد أن نشر المترجم ماجد الخطيب النص على الإنترنت. المرأة في النص وحيدة ويائسة محاصرة باضطهاد متعدد الأوجه، ولا أنيس لها غير جارتها في البلكون المقابل (على الطريقة الإيطالية) تدردش معها. إنها مضطهدة من قبل زوجها، الذي يقفل عليها باب الشقة خشية أن تخونه، وأخ زوجها المعاق الذي يتحرش بها جنسياً وتسكت عنه حفاظاً على عائلتها، وجار بعيد يتلصص عليها بالناظور، وآخر يعاكسها على الهاتف. هذا، فضلاً عن دائن يلاحق زوجها عند باب الشقة، ومراهق وقع في حبها ويحاول اقتحام البيت. ابنها لا يكف عن البكاء وزوجها لا يكف عن المهاتفة ليتأكد من وجودها في البيت وحموها يناديها بنفخات البوق. وهكذا مرة واحدة: ابنها يصرخ، وحموها يناديها بالبوق، والهاتف يرن، والدائن يطرق على الباب، والمتلصص يراقبها بالناظور، وزوجها يهدد بالعودة لتأديبها. لا يبقى أمامها غير التقاط بندقية زوجها المعلقة على الجدار.

ومسرحية «سامحني أبي فقد أثمت!» تتحدث عن أم يسارية معتدلة تضطر لخوض المظاهرات والمواجهات مع الشرطة بالشارع، في محاولة لإنقاذ ابنها المتطرف من خطر الموت والانجراف في تيار المخدرات والتطرف. يسوقها القدر، وهي ملاحقة من قبل رجل الأمن، إلى كنيسة ما تهرباً من المطاردة. وتضطر، خشية الوقوع بيد رجال الشرطة، إلى تقديم اعترافاتها أمام قس وهمي في كابينة الاعتراف، وتقسم أمامه «بماركس ولينين» ألا تقول غير الحقيقة.

صدر الكتاب عن دار «لارسه» في فرنسا بكتاب من القطع المتوسط في 98 صفحة، وهو ترجمة الكاتب العراقي المغترب ماجد الخطيب.


مجسّمات أنثوية جنائزية من مقابر البحرين الأثرية

5 مجسمات جنائزية أنثوية من محفوظات «متحف البحرين الوطني» في المنامة
5 مجسمات جنائزية أنثوية من محفوظات «متحف البحرين الوطني» في المنامة
TT

مجسّمات أنثوية جنائزية من مقابر البحرين الأثرية

5 مجسمات جنائزية أنثوية من محفوظات «متحف البحرين الوطني» في المنامة
5 مجسمات جنائزية أنثوية من محفوظات «متحف البحرين الوطني» في المنامة

يحتفظ «متحف البحرين الوطني» في المنامة بمجسّمين أنثويين صغيرين من الطين المحروق، مصدرهما مقبرة تُعرف باسم «مقبرة سار الأثرية»، كما يحتفظ بقطعة مشابهة لهذين المجسمين، مصدرها مقبرة أثرية أخرى تُعرف بـ«مقبرة الشاخورة». تتبع هذه القطع الثلاث تقليداً واحداً جامعاً شكّل بداية لطراز تكوّن لاحقاً، وبرز خلال مجموعة من التماثيل صُنعت بتقنية الجص المصبوب، عُرفت باسم مجموعة «تماثيل النائحات».

كما كشفت أعمال التنقيب المستمرة في مدافن البحرين الأثرية عن مجموعة من التماثيل الطينية تتبع تقاليد جنائزية فنية عدة، كما تشهد الدراسات الخاصة بهذا الميراث الأثري.

تمثّل هذه القطع الثلاث طرازاً من هذه التقاليد التي تنوّعت على مدى قرون من الزمن. تتماثل هذه المجسّمات في تكوينها، كما في ملامحها، إلى حد كبير، وتختلف في بعض التفاصيل الثانوية. يمثّل كل من مجسّمَي «مقبرة سار» امرأة تقف منتصبة على قاعدة مستطيلة، رافعة يدها اليمنى في اتجاه صدرها، غير أن إحداهما تبدو أطول من الأخرى. في المقابل، يمثل «مجسّم الشاخورة» امرأة تقف في وضعية مشابهة، إلّا إنها تحضر في كتلة غابت عنها القاعدة المستطيلة.

تقع منطقة سار في المحافظة الشمالية، على بعد نحو 10 كيلومترات غرب العاصمة المنامة، وتحدّها من جهة الشرق منطقة الشاخورة التي تقع شمال غربي القرية التي تحمل اسمها. يتألّف الموقع الأثري في سار من مستوطنة، ومعبد، والقليل من تلال المدافن. تقع المقبرة على بعد نحو 500 متر إلى الجنوب من المستوطنة، وفيها تنفصل كل غرفة دفن عن جاراتها على غرار أقراص خلية النحل. عثرت بعثة محلية على المجسّمَين في أثناء حملة التنقيب التي أجرتها خلال عام 1991. خرج أحدهما من القبر الذي حمل رقم «44»، وخرج الآخر من قبر مجاور حمل رقم «47».

تقف المرأة الأكبر حجماً على قاعدة تأخذ شكل مكعّب مجرد، ويبلغ طولها مع هذه القاعدة 14 سنتيمتراً. ترتدي هذه السيدة، كما يبدو، ثوباً طويلاً يحجب تفاصيل جسدها بشكل كامل، ومن خلف هذا الثوب، يبرز نتوء الساقين المنتصبتين على قدمين غابت ملامحهما. الذراعان ملتصقتان بالصدر. تنثني الذراع اليمنى، وترتفع يدها وتلتصق بالصدر. تنحني الذراع اليسرى انحناءة طفيفة، وتلتصق يدها بأعلى الفخذ. يرتفع الرأس فوق عنق ناتئة طويلة، وتكلّله «طَرْحَة» عريضة ينسدل طرفاها على الكتفين بشكل متواز. العينان دائريتان ضخمتان ناتئتان، يتوسط كل منهما بؤبؤ يحل على شكل نقطة غائرة. الأنف كتلة مثلثة تستقر بين العينين، والفم غائب وممحو بشكل كلّي. الأذنان كبيرتان، توازيان في ضخامتهما حجم العينين، وتتميزان بأقراط كبيرة تتدلى منهما. في هذه العلياء، تقف هذه السيدة في صمت مطبق، وتحدّق في المجهول.

تحضر نظيرة هذه المرأة في كتلة مشابهة، وتقف في وضعية مماثلة فوق قاعدة مستطيلة بسيطة. ساقاها قصيرتان للغاية قياساً بحجم النصف الأعلى من جسدها، وعناصر بدنها ممحوة. الذراع اليمنى مثنية نحو الأعلى، واليسرى متدلية، مع انحناءة بسيطة عند الكوع. العنق طويلة، وهي أشبه بوصلة تمتدّ بين الرأس والجسد، وتشكل قاعدة للوجه البيضاوي. تتكرر ملامح هذا الوجه وسماته الخاصة المتمثلة في العينين الدائريتين الشاسعتين والأذنين البيضاوين الضخمتين المزينتين بقرطين متدليين. يحيط بهذا الوجه وشاح يحجب الشعر، ويتدلى من خلف الكتفين.

خرج المجسم الثالث كما أشرنا من مقبرة أثرية تقع شمال غربي قرية الشاخورة، على بعد نحو 700 متر جنوب شارع «البديع»، شمال المنامة، ومصدره قبر حمل الرقم «12» في التل الذي حمل الرقم «1». يتكرّر المثال الجامع في هذه القطعة، ويظهر الاختلاف الثانوي في بنية العنق التي بدت هنا عريضة، والاتساع العجيب للعينين اللتين اتخذتا شكلاً بيضاوياً. تعود هذه القطع الأثرية الثلاث إلى الفترة الممتدة من القرن الأول قبل الميلاد إلى القرن الأول للميلاد، وتتبنّى تقليداً فنياً مستقلاً لم ينتشر انتشاراً واسعاً كما يبدو؛ إذ لا نجد ما يماثلها في الميراث الجنائزي الذي يعود إلى تلك الحقبة.

مهّد هذا التقليد لنشوء طراز متطوّر، تمثل في ظهور مجسمات جنائزية أكبر حجماً وأكثر إتقاناً، صُنعت بتقنية الجص المصبوب والمطلي بالألوان. يجسّد كلّ من هذه التماثيل امرأة تثني ذراعيها، وتمسك بيديها خصلات شعرها المتدلية على كتفيها، في حركة تعبّر عن النحيب. وصلت إلينا مجسّمات عدة تختزل هذا المثال، ودخلت «متحف البحرين الوطني» في المنامة، أشهرها مجسّم خرج من مقبرة تُعرف باسم «المقشع»، نسبة إلى قرية تقع غرب المنامة، وتبعد عنها بنحو 5 كيلومترات، وتطل على شمال شارع «البديع».

يبلغ طول هذا المجسم 24 سنتيمتراً، وتشابهه قطع عدة من الحجم نفسه، تتبنّى هذا الطراز. يبرز الطابع الهلنستي بقوة في هذا النتاج، ويظهر في الثوب الإغريقي التقليدي، المطلي بخطوط سوداء وحمراء تُحدّد ثناياه عند حدود الصدر والخصر وأسفل الساقين. القامة منتصبة ومستقيمة، ونسبها التشريحية واقعية. ملامح رأس الباكية واضحة، وعيناها محددتان باللون الأسود. خصل الشعر مطلية كذلك بهذا اللون، ومنها خصلتان طويلتان تحدّان الوجنتين وتنسدلان على الصدر.

يحضر هذا النموذج بشكل مغاير في قطعة دائرية عُثر عليها في تل من تلال «مقبرة سار»، دخلت بدورها «متحف البحرين الوطني». تغيب القامة التقليدية المستقيمة، ويحضر النصف الأعلى منها وسط قرص قطره 13.6 سنتيمتراً، حدّد إطاره الناتئ باللون الأحمر. تطلّ المرأة النادبة، وترتفع خصلتا شعرها الطويلتان التقليديتان، وتشكلان نصف دائرة حول وجهها. تحدّق الباكية بعينيها المكحّلتين عبر هذه النافذة، وتندب صاحب القبر الذي ترافقه في مرقده الأرضي.

تشكّل هذه المجسّمات طرازاً من طُرز النحت والنقش الجنائزية المتعدّدة التي راجت في البحرين خلال الحقبة الطويلة التي حملت فيها الجزيرة اسم «تايلوس» اليوناني، وهو الاسم الذي أُطلق عليها عند استكشاف أرخبيل البحرين. يقابل هذا الطراز تقليد آخر وصلت منه عشرات الأمثلة، يتمثّل في شواهد القبور التي عُثر عليها في كثير من الأماكن خلال العقود الأخيرة في أثناء حملات المسح والتنقيب في مقابر «تايلوس» الحافلة بالمفاجآت الأثرية.


بودلير: جنون الشعر أو شعر الجنون

بودلير
بودلير
TT

بودلير: جنون الشعر أو شعر الجنون

بودلير
بودلير

يقول بعض الذين تعرفوا عليه شخصياً في تلك الفترة بأنه كان يلبس ثياباً نظيفة عموماً، ولكن قديمة شبه بالية، ومنظره الخارجي كان يوحي بالإهمال والهجران. (وهذا ما توحي به صوره أصلاً). كان بودلير يبدو وكأنه يشبه بيتاً متصدعاً لم يُسكن منذ زمن طويل. كان يبدو عليه وكأنه مُدمَّر من الداخل. وهو بالفعل مُدمّر. لقد استسلم بودلير لتقادير الحياة وألقى سلاحه منذ البداية. كانت الصدمة أكبر منه. لماذا تزوجت أمه بعد وفاة والده؟ لماذا لم تبق له وحده؟ لطالما عاتبها بكل حرقة، بكل مرارة: من كان لها ابن مثلي لا تتزوج! بدءاً من تلك اللحظة أصبح العالم مشبوهاً في نظر شارل بودلير. أصبح العالم ملغوماً، أو شبه ملغوم. بدءاً من تلك اللحظة عرف أن الشر موجود في أحشاء العالم كالدودة في قلب الثمرة.

لكن هذه التجربة المريرة مع الحياة، هذه الضربة الساحقة الماحقة، كانت مفيدة جداً وذات مردود هائل من الناحية الشعرية. وبالتالي، فرب ضارة نافعة. فإذا لم يكن يستطيع أن يرضي أمه بأن يصبح موظفاً كبيراً في سلك الديبلوماسية الفرنسية أو سلك القضاء أو سوى ذلك، فإنه على الأقل استطاع أن يرضي آلهة الشعر وربات الجمال... يضاف إلى ذلك أن الانحطاط في مهاوي الحياة إلى الدرك الأسفل يتيح لك أن تتعرف على الوجه الآخر للوجود: قفا الوجود. إنه يتيح لك أن تعانق الوجه السلبي، الوجه المظلم للأشياء. كان النزول إلى الطبقات السفلية والدهاليز المعتمة شيئاً ضرورياً جداً لكي يصبح بودلير أكبر شاعر في عصره وربما في كل العصور. ويقال بأن أمه لم تعرف قيمته إلا بعد موته وانفجار شهرته الأسطورية. عندئذ بكت وتحسرت، حيث لم يعد ينفع التحسر والندم... صحيح أن بودلير حاول بكل الوسائل أن ينجح ويحقق الرفاهية المادية والوجاهات الاجتماعية كبقية البشر. ولكنه في كل مرة كان ينتكس ويفشل. إنه كسيزيف الذي يرفع الصخرة من أسفل الوادي لكي يضعها على قمة الجبل. ولكن ما أن يصل بها إلى القمة تقريباً حتى تتدحرج وتسقط، وهكذا دواليك... عندئذ عرف بودلير أنه فاشل لا محالة، وراح يتحمل مسؤوليته لأول مرة كشخص فاشل، متسكع، يعيش على هامش المجتمع. بدءاً من تلك اللحظة راح بودلير يصبح الشاعر الأساسي للحداثة الفرنسية وربما العالمية. راح يصبح شاعر التمزقات والتناقضات الحادة التي لا حل لها (على الأقل مؤقتاً!) إلا بقصيدة جديدة. وقد جرّب الانتحار أكثر من مرة ولكنه لم ينجح. حتى في الانتحار فشل! راح يصبح شاعر الخطيئة الأصلية التي تلاحق الإنسان المسيحي من المهد إلى اللحد. ولكن في حالته خطيئة بلا خلاص ولا غفران. كل ديوانه «أزهار الشر» ما هو إلا مرآة لروحه، أو سيرة ذاتية مقنَّعة لشخصه. حياة بودلير كلها كانت تمزقاً أو تذبذباً بين السماء/ والأرض، بين المثال الأعلى/ والحضيض، بين الله/ والشيطان... هذا التوتر الذي لا يهدأ بين المتناقضات القاتلة، هذا النزول إلى المهاوي السحيقة، هو الذي جعل من بودلير أعمق شاعر في تاريخ الآداب الفرنسية. يمكنك أن تتهم بودلير بكل شيء ما عدا أنه شاعر سطحي مثلاً! الشاعر السطحي هو ذلك الشخص الذي لم يعرف تقريباً إلا الجانب الفرح والمبتسم من الحياة. الشاعر السطحي هو ذلك الشخص الذي وُلد وفي فمه ملعقة من ذهب. الشاعر السطحي هو ذلك الشخص الذي لم يعش تجارب مزلزلة في معمعة الوجود: أقصد تجارب قصوى تصل به إلى حافة الهاوية. ولكن نحن في حضرة أشخاص من نوع آخر. نحن في حضرة المتنبي أو المعري أو دانتي أو شكسبير، إلخ... الشاعر السطحي شخص سعيد جداً ومرتاح جداً وناجح اجتماعياً جداً جداً. هنيئاً له. مبروك وألف مبروك. ولكن نحن في حضرة الشاعر غير السطحي: أي في حضرة أشخاص من نوعية إدغار آلان بو أو دوستوفيسكي أو ريلكه أو بعض المجانين الآخرين... الشاعر غير السطحي (لماذا لا نقول الشاعر العميق؟) هو ذلك الشخص الذي عاش إلى جانب الحنين والأنين لسنوات طويلة، هناك حيث الأعماق السفلية، هناك حيث الدهاليز والعتمات والمطبات. وحيث الوحدة والهجران أيضاً. الشاعر الذي نقصده هنا شخص مهجور أبدياً، سرمدياً، أنطولوجياً. بعدئذ ينفجر الشعر، يتدفق الشعر. كل شيء له ثمن. ينبغي أن تموت ألف موتة لكي تكتب قصيدة واحدة لها معنى. الشاعر السعيد، الناجح، المتفوق، ليس شاعراً بالمعنى البودليري للكلمة: إنه فقط يطرب الناس أو يدغدغ المشاعر والحواس السطحية، ويحظى بشعبية هائلة. وتحبه الفتيات والمراهقون والسيدات الأرستقراطيات... هذا لا يعني بالطبع أنه عديم القيمة، أبداً لا. ولكن لا يهمنا أمره هنا. هذا كل ما في الأمر، لا أكثر ولا أقل. نحن لا نشتم أحداً. نحن لا نهتم هنا إلا بالشعراء السيزيفيين: شعراء الأعماق والمهاوي السحيقة. نحن نريد أن نقيم علاقة بين «الشعر والعمق» كما يقول الناقد الفرنسي جان بيير ريشار في كتاب مشهور. كل ما نريد قوله هو التالي: الشاعر الذي لا ينزل إلى الأعماق السفلية، ويخاطر، ويغامر، ويقذف بنفسه في فوهة المجهول ليس شاعراً بالمعنى الذي نقصده. كان بودلير يشعر بالضجر والفشل وسأم باريس. كان يشعر بفراغ العالم وعبثية الأشياء. وبدءاً من تلك اللحظة أصبح شاعراً. بدءاً من اللحظة التي يحصل فيها تناقض حاد بينك وبين العالم، بدءاً من اللحظة التي يصبح فيها العالم إشكالياً في نظرك، فإن ذلك يعني أنك قد تصبح شاعراً، أو فناناً، أو فيلسوفاً، أو مجنوناً... أول شرط من شروط الإبداع هو اختلال الثقة بينك وبين العالم، هو حصول شرخ عميق بينك وبين نظام الأشياء. لماذا يوجد الشر في العالم؟ لماذا تزوجت أمه؟ لماذا لا يوجد إلا الخير والصفاء والنقاء والشفافية في هذا العالم؟ لماذا نُفجع بأنفسنا، بأحبتنا الذين غابوا؟ لماذا؟ لماذا؟ ربما لهذا السبب لا يوجد شاعر كبير واحد في التاريخ كان متصالحاً مع نفسه أو مجتمعه أو زمنه:

أتى الزمان بنوه في شبيبته

فسرّهم وأتيناه على الهرم

ويمكن أن نقول الشيء ذاته عن الفلاسفة والمفكرين الكبار. بالطبع يوجد في كل العصور عشرات الشعراء والكتاب الذين ينعمون بالحياة والثروات والوجاهات ولا يشعرون بأي مشكلة مع أي شيء كان. عن هؤلاء لا نتحدث هنا، ولا يهمنا أمرهم في قليل أو كثير. نحن نتحدث هنا فقط عن الشعراء الإشكاليين: أي الشعراء الذين فُجعوا بأنفسهم، الذين أصيبوا في الصميم منذ طفولتهم الأولى. نحن نتحدث عن كتّاب من نوعية بودلير، أو رامبو، أو فرلين، أو نيتشه، أو هولدرلين، إلخ... ذلك أن الصراع الداخلي مع الذات لا يقل خطراً عن الحروب العالمية أو الخارجية. حرب الداخل أخطر من حرب الخارج لأن العدو يصبح منك وفيك. وبودلير عاش هذا الصراع المحتدم ومشى به إلى نهاياته. هل كان بودلير شيزوفرينياً يعاني من انفصام الشخصية؟ بالطبع، كمعظم الكتَّاب الكبار. كل عقد الأرض، كل أوجاع الأرض، كانت موجودة فيه. ومن ذلك نتجت القصائد العبقرية! يكفي أن نفتح ديوانه على أي صفحة لكي نجد آثار هذه المعركة أو أشلاءها بادية للعيان:

أنا الطعنة والسكين

أنا الصفعة والخدان

أنا العجلة والعضوان

أنا الضحية والجلاد

أنا لَقلبي مصّاص الدم!

بودلير جلاد نفسه وليس في حاجة إلى شخص آخر لكي يجلده. لنقل بأنه استبطن العدوان الخارجي (القدر، الطفولة، زوج الأم، ضربات الغدر...) إلى درجة أنه أصبح قضية داخلية. لم يعد بودلير في حاجة إلى عدو خارجي لكي يعذبه. أصبح هو يعذب نفسه بنفسه. زوج الأم، هذا العدو المطلق، تحول وحشاً أخطبوطياً لا خلاص منه حتى ولو مات!

لكي يتخلَّص من نفسه، من مرضه الداخلي الذي يقضّ مضجعه، كان دوستويفسكي يتمنى أحياناً لو أن الأرض انشقَّت وابتلعته. وأما نيتشه فكان يتمنى لو يحصل زلزال هائل يدمّر الأرض ويخسفه معها. فيما يخص بودلير، نلاحظ أن شهوته كانت تتمثل في حصول إعصار كاسح يجرفه مع السيول:

أيها السيل لماذا لا تجرفني في انهياراتك؟ الشاعر السطحي شخص سعيد جداً ومرتاح جداً وناجح اجتماعياً جداً جداً


العالم والفيلسوف... والمثقف والشاعر

أفلاطون
أفلاطون
TT

العالم والفيلسوف... والمثقف والشاعر

أفلاطون
أفلاطون

لو كان الحديث عن الأزمنة القديمة لأضفت الساحر والكاهن لأضفت إلى العنوان، غير أن حديثنا عن الأزمنة المتأخرة نسبياً. ولربما كان حقيقاً أن نذكر الفقيه، لكنه سيجعل العنوان مزدحماً فوق ازدحامه. والغرض هنا هو تحديد عمل كل واحد من هؤلاء الأربعة، فهم مَن يصنعون الفكر والحضارات. هؤلاء الفرسان الأربعة جديرون بأن نميّز بعضهم عن بعض ليتضح دور كل واحد على حدة.

إنشتاين

كان ابن رشيد فيلسوفاً وفقيهاً، لكنني أستطيع أن أمسك بابن رشد الفيلسوف وهو يتسلل إلى منطقة ابن رشد الفقيه عندما أنظر في كتابه «بداية المجتهد ونهاية المقتصد»، وهو في الفقه المقارن، فأجده يذكر الآراء المختلفة في مسألة، ثم يقول: «وسبب اختلافهم هو كذا وكذا». الفقيه لا يسأل أبداً عن السبب، بل جُلّ همّه أن ينصر القول الراجح عنده، أو يلوذ بالمذهب. الفيلسوف هو المشغول بـ«لماذا؟» وهذا ميدان عمله.

علامة أخرى على الفيلسوف أنه ذلك الشخص الذي يقول قولاً أصيلاً. عندما تنظر في كل أعمال فولتير، فلن تجد قولاً أصيلاً واحداً. هو مقلّد لفيلسوفين إنجليزيين جون لوك وإسحاق نيوتن ويتابعهما في تجربتيهما التي أصبحت علامة على الفلسفة الإنجليزية، ولم يكن يميل إلى الفلسفة العقلية لابن بلده ديكارت. هو نظير توماس هوبز الإنجليزي العازف عن تجريبية قومه، الميّال إلى عقلانية ديكارت.

لا أرى فولتير فيلسوفاً، وكم له من الأحكام المتهورة، كاتهامه أفلاطون وأرسطو بأنهما كانا لاهوتيين! لكن أين سنصنّف هذا الرجل الذي خصّه ويل ديورانت بمجلد في قصة الحضارة، سماه «عصر فولتير»؟ إنه أقرب إلى شخصية المثقف التي هي دون منزلة الفيلسوف، وشهرته بسبب نشاطه الاجتماعي ومعاركه الشجاعة ضد اللاهوتيين المتعصبين، وقد كان أحد المؤثرين في الثورة الفرنسية. هذه من وظائف المثقف، لا الفيلسوف، أنه قائد الجماهير وصاحب المعارك الفكرية التي لا تنتهي. الفيلسوف لا يفعل شيئاً من هذا ولا يملك هذه الحرارة، ولا الحماسة للقتال.

فولتير

من جهة أخرى، العالم هو ذلك الباحث المشغول بالجزئي، معنيّ بدراسة الطبيعة، وقد يحفظ قوانين الحركة عند نيوتن والنظرية النسبية عند أينشتاين، لكنه لا يملك رؤية شمولية عن العالم. المفهوم الكلّي عنده مفهوم ميتافيزيقي لا يمكن التأكد من صحته بيقين، ولذلك لا ينبغي الانشغال به، لأن مثل هذه القضايا غير قابلة للتحقق وغير قابلة للتكذيب. من هنا سعى العلماء الفلاسفة، أعني الوضعيين والبراغماتيين وفلاسفة اللغة في القرن العشرين، إلى تقليص مساحة الفلسفة بهدم مصطلحاتها الميتافيزيقية، وجعلوها مجرد خادمة للعلم الحديث، ومنهم من دعا صراحةً إلى قتلها، أي قتل الميتافيزيقا، رغم أنه قد اتضح أن الجميع ميتافيزيقيون، ومن ضمنهم ألبرت أينشتاين.

قد يقال إن نيوتن لم يكن كالعلماء في عصرنا، فما كتبه في فلسفة الدين أكثر بكثير مما كتبه في الفيزياء، حسب شهادة ديورانت. تفسير هذا هو أن نيوتن كان عالماً وفيلسوفاً أيضاً (بالمعنى الكلاسيكي) وينبغي أن نتذكر أن عنوان كتابه الأشهر هو «الأصول الرياضية لفلسفة الطبيعة» وهناك أعلن عن المنهج الجديد الذي يستخدم الرياضيات لدراسة الطبيعة ويُسقط فلسفة الطبيعة الأرسطية.

كل عالم يتجاوز الجزئي هو في حقيقة أمره يعلن أنه فيلسوف بالإضافة إلى كونه عالماً، وكل الثورة العلمية التي أسقطت العلم القديم كانت تنطلق من موقف فلسفي واضح. لكننا نستطيع أن نميّز العالم المشغول بالمحسوس والفيلسوف الذي يدرس الرياضيات لكي تدفع بالعقل ليتسامى عن العالم المحسوس فيرتقي إلى عالم المُثل والمعقولات.

وثمة فرق مهم يذكره أفلاطون حين يصف الفلاسفة بأنهم من يعشقون الحقيقة، يعشقونها من كل اتجاه وليس عشقاً في اتجاه واحد، على خلاف الشاعر الذي طرده أفلاطون من جمهوريته لأنه يُبعد الناس عن الحقيقة، وهذا تضليل من وجهة نظر الحكيم، والفلسفة عنده أسمى من كل فاعلية فكرية، فلا يقارنها بالدراسات التجريبية أو الأدب أو التاريخ أو الشعر.

هناك فلاسفة استخدموا النظم لتقييد أفكار فلسفية مثل قصيدة «في الطبيعة» لبارمنيدس، حيث يذكر ما يعتقد أنها حقيقة الوجود المطلقة على نحو دوغمائي يقيني. هذا ليس بشعر، وبارمنيدس ليس بشاعر. ولكي نتصور الشاعر تصوراً واضحاً سنقارنه بالفيلسوف، فهو يزعم أنه صاحب فكر، وهذا ليس موضع نزاع، لكن غاية الفيلسوف تختلف عن غاية الشاعر. فالأول مشغول بتمييز الحقيقة عن الزيف، ولا توجد لديه غايات أخرى. بينما الشاعر، مهما حاول المحاكاة، لا تشغله الحقيقة، بل ما وراء الحقيقة. إنه تلك النفس التواقة للعذاب الذي يأتي بالإبداع:

فشبّ بنو ليلى وشبّ بنو ابنها

وأعلاق ليلى في فؤادي كما هي

صورة مؤلمة للغاية يُبكينا بها ويستميل تعاطفنا، لكنّ ظاهرها غير باطنها. فالشاعر بحاجة أبديّة إلى قصة حب تعذبه أو قضية أكبر تشغل باله لكي يبدع، ولو أعطته المعشوقة ما يريد لوقع في ورطة ولجفّ الإبداع. الشعراء يشبهون الفراشات الراقصة حول النار، تتلذذ بالاحتراق. كل الأربعة يستخدم الخيال، بمن فيهم العالم، لكنّ خيال الشاعر جامح أشد الجموح ولا يمكن قياس مدى إبداعه إلا بالشعور وحده، أعني الشعور المتغير من شخص لآخر، مهما حاولت كتب الأدب أن تعرّف الشعر والإبداع فإنها لن تحقق نجاحاً كبيراً، لأنه كالتصوف يُحسّ ولا يوصَف.

هكذا نشأت العداوة بين الشاعر والفيلسوف، فطردهم أفلاطون من جمهوريته الموعودة. تصوير شعراء الملاحم للآلهة بشكل حسّي شهوانيّ أغضب أفلاطون التقيّ، وبقيت الخصومة حتى أعادهم هايدغر من جديد وخلق نوعاً من الحوار البنّاء بين الاثنين، وحين جعل الشاعر كالفيلسوف كاشفاً عن الوجود، كشفاً لا يعني أنهم سيوصلوننا إلى حقيقة واحدة، بل إلى حقائق بعدد المتأملين.

* كاتب سعودي


«شرائع الشرق القديم: من حمورابي إلى موسى»

«شرائع الشرق القديم: من حمورابي إلى موسى»
TT

«شرائع الشرق القديم: من حمورابي إلى موسى»

«شرائع الشرق القديم: من حمورابي إلى موسى»

صدر حديثاً عن «دار التكوين» كتاب «شرائع الشرق القديم: من حمورابي إلى موسى»، وهو من تأليف مجموعة من المؤلّفين، وترجمة أسامة سراس، وتحرير ومراجعة فراس السوّاح، ويضم النصوص الكاملة للشرائع البابلية والسومريّة والحثيّة.

ومما جاء في تقديمه: «هذا الكتاب ذو أهمية كبيرة؛ لأنه يعود إلى أولى الشرائع المكتوبة في تاريخ البشرية؛ من حمورابي إلى موسى، التي وضعت لتنظيم العلاقات بين الأفراد على أساس من العدل والمساواة. كما تُعدّ الهيئات القضائية وتنظيماتها في حواضر الشرق القديم أوّل محاولة لتنظيم المؤسسات الحقوقية في مجتمع المدينة الذي أخذ شكله الأول في هذه المنطقة».


مجلة «المسرح» الإماراتية... مقالات وحوارات ومتابعات

TT

مجلة «المسرح» الإماراتية... مقالات وحوارات ومتابعات

صدر حديثاً عن «دائرة الثقافة» في الشارقة العدد الجديد الـ55 (أبريل/ نيسان 2024) من مجلة «المسرح» الشهرية، التي تضمنت مجموعة من المقالات والحوارات والمتابعات. ففي باب «مدخل» نشرت المجلة إفادات لعدد من الفنانين الإماراتيين حول مسيرة وأثر «مهرجان الشارقة للمسرح المدرسي»، لمناسبة دورته الحادية عشرة التي تنطلق في النصف الثاني من شهر أبريل، وتستمر إلى النصف الثاني من شهر مايو (أيار) المقبل.

كما تضمن الباب تغطية لفعاليات الدورة الثالثة والثلاثين من «أيام الشارقة المسرحية»، التي أقيمت في 2 مارس (آذار) 2024 وحتى التاسع منه.

في «قراءات» كتبت منار خالد عن مسرحية «جريمة بيضاء»؛ أحدث عروض المخرج المصري سامح بسيوني، وتناول حسام مسعدي «آخر البحر» التي قدمها أخيراً المخرج التونسي فاضل الجعايبي، وقرأ محمد الكشو «بعض الأشياء» للمخرج الإماراتي محمد جمعة، بينما حلّل عبد الكريم قادري «استراحة المهرجين» للمخرج الجزائري وحيد عاشور، وكتب سامر إسماعيل عن «المفتش العام» للمخرج السوري فؤاد العلي، وكتبت ميسون علي عن «تكنزا... قصة تودة» للمخرج المغربي أمين ناسور، وتناولت سعيدة شريف «كلام» للمخرج المغربي بوسلهام الضعيف... وتضمن الباب كثيراً من القراءات الأخرى.

في «حوار» نشرت المجلة مقابلة أجراها الحسام محيي الدين مع المخرج والباحث المسرحي اللبناني جان داود، تطرقت إلى بداياته وتجاربه في التنظير للمسرح وتأهيل وتدريب ممثليه، وتجربته الأكاديمية. وفي «أسفار» تحدث فريد أمعضشو عن رحلته إلى «مهرجان دبا الحصن للمسرح الثنائي»، الذي نُظمت دورته السابعة في النصف الثاني من فبراير (شباط) الماضي.

أما في «أفق» فتطرقت آنا عكاش إلى تجربة المخرج السوري أمجد فضة في إخراج مسرحية «اللعبة الخطرة» بوساطة فريق تمثيلي من المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق.

وفي «رسائل» كتبت إيمان الصامت من منظور سينوغرافي عن عروض الدورة المنقضية من «مهرجان دبا الحصن للمسرح الثنائي»، وتناول رابح هوادف تجربة مسرح الجنوب في الجزائر، ورصد شريف الشافعي أجواء المسرح خلال شهر رمضان في العاصمة المصرية، وكتب عامر عبد الله عن الدورة الأولى من «مهرجان مندوس لمسرح الشارع» في سلطنة عمان، ونشر كريم رشيد مقالاَ عن مقاربة سويدية جديدة لمسرحية «روميو وجولييت».

في «مطالعات» كتبت هادية عبد الفتاح عن كتاب «تطور فنون الأداء في مصر...» للباحثة والمخرجة نورا أمين الذي صدر أخيراً باللغة الإنجليزية. وفي «متابعات» نشرت المجلة حوارات قصيرة مع المخرج التونسي فاضل الجعايبي، والمخرج الفلسطيني بشار مرقص، والكاتب المغربي المسكيني الصغير.


السورياليون والحرب

لويس أراغون
لويس أراغون
TT

السورياليون والحرب

لويس أراغون
لويس أراغون

منذ بروزها في مطلع العشرينات من القرن الماضي، أعلنت الحركة السوريالية، عبر بياناتها النظرية ونصوصها الشعرية والأدبية وأعمالها الفنية، عن معاداتها للحرب، مُدينةً المجازر الفظيعة التي ارتكبت خلال الحرب الكونية الأولى، وما خلفته هذه الحرب من دمار وخراب عمراني وأخلاقي وإنساني. ويعود ذلك إلى أن أغلب مناصري هذه الحركة كانوا قد جُنّدوا وأرسلوا إلى جبهات القتال ليعيشوا الموت في كل ساعة، وفي كل يوم. لذا لم يحتفظوا من تلك الحرب «القذرة» إلا بذكريات سيئة. ورغم أنه نال وساماً تكريماً لشجاعته، فإن لوي أراغون كتب يقول: «أنا أنتسب إلى صفّ المجندين سنة 1917. أقول هنا، وربما يكون لي طموح في أن أحدث من خلال هذه الكلمات مُنافسة عنيفة لدى كل المُجندين، أقول هنا بأنني لن أرتدي الزيّ العسكريّ الفرنسيّ، ولن أضع الشارة التي وضعوها على كتفيّ قبل نحو 11 عاماً، ولن أكون خادماً للضباط، وأرفض أن أحيي تلك الكائنات المتوحشة ورتبها وقبّعاتها الملونة من نوع (غاسلار)». وفي مكان آخر، كتب لوي أراغون يقول: «سيكون لي الشرف في هذا الكتاب، وفي هذا المكان، أن أقول وأنا بكامل وعيي وبكامل مداركي العقلية، بأني أدوس على الجيش الفرنسي بكلّ أركانه». ولم يكن السورياليون الآخرون من أمثال أندريه بروتون وبول إيلوار وفيليب سوبو وبنجامين بيريه وغيرهم يختلفون عن لوي أراغون. وجميعهم كانوا يُدينون وحشيّة الحرب وعنفها واستخفافها بالحياة البشرية. ومجدّداً رفض صديقه جاك فاشي للحرب، ومُعاداته لكل ما يمتّ إليها بصلة، كتب أندريه بروتون يقول: «أمام أهوال وفظائع هذه الأزمنة، التي لم أر حولي ما يعارضها غير الصمت والهمسات، بدا لي هو الوحيد (يقصد جاك فاشي) الذي كان سليماً ومُعافى تماماً، والوحيد الذي أعدّ الدرعَ الذي يحميه من كل عدوى». ومُنتقداً غيوم أبولينير الذي مجّد الحرب قائلاً: «يا إلهي كم هي جميلة الحرب»، كتب أندريه بروتون يقول: «أعتقد أن الشعر لديه (أي لدى أبولينير) كان عاجزاً عن تجاوز المحنة، وأكثر أحداث العصر شناعة نجدها مُغيّبة هنا». وعندما اندلعت الحرب الكونية الثانية، لم يغفر أندريه بروتون للشعراء الذي انخرطوا في «الجوقة الوطنية»، ووجّه لهم انتقادات لاذعة، وناعتاً إياهم بـ«الجبناء» الذين يخونون الكلمة، ويهللون لزمن «تكميم الأفواه والعيون». ولمّا احتل الجيش الألماني بلاده سنة 1942، غادرها أندريه بروتون ولم يعد إليها إلا سنة 1947. أما رموز السوريالية الآخرون فقد انخرطوا في حركة المقاومة ضد النازية وساندوها،

بول إيلوار

سواء بالكلمة مثلما فعل إيلوار وأراغون، أو بالسلاح مثلما فعل رينيه شار الذي من وحيها كتب في أثره المعروف «أوراق هيبنوس»: «لا يُمكن للشاعر أن يظل لزمن طويل داخل سجن الكلمة. عليه أن يلتفّ بنفسه في دموع جديدة وأن يدفع أمره مسافة أبعد».

وخلافاً للدادئية التي نشأت في مدينة زيوريخ السويسرية سنة 1916، والتي أعلنت في بياناتها عن انسلاخها الكلي من عالم السياسة، أكدت الحركة السوريالية التي ولدت من رحمها أنها تتبنى «المادية التاريخية» لكارل ماركس لأنها «تحرّض على الثورة». وأضاف بروتون قائلاً بأنها -أي الحركة السوريالية- تستند إلى كل من رامبو وماركس، وإلى الثورة والشعر من دون أن تنفصل لا عن هذه ولا عن تلك، لأن الحرية لها «لون الإنسان».

لويس أراغون

واعتماداً على بيانهم التأسيسي، كان السورياليون يُدينون ما كانوا يُسمّونه بـ«الحروب الظالمة»، أي الحروب التي تخوضها الإمبراطوريات الاستعمارية والإمبريالية بهدف السيطرة على البلدان الضعيفة واستغلال ثرواتها، وتزوير تاريخها وهويتها. إلاّ أنهم كانوا يُظهرون تعاطفاً مع الحروب التحريرية، ومع ثورات وانتفاضات الشعوب ضد الاستبداد والظلم مثل حرب المغاربة بقيادة عبد الكريم الخطابي ضد الجيشين الإسباني والفرنسي. وفي شهر يوليو (تموز) 1925، أمضى السورياليون مع مجموعة «وضوح»، ومجموعة «فلسفة»، بياناً بعنوان «نداء للعمال المثقفين هل أنتم مع الحرب أو ضدها؟»، وفيه جاء ما يلي: «نُعلن مرة أخرى عن حقّ الشعوب، كل الشعوب، بقطع النظر عن جنسيتها، في تقرير مصيرها». وبعد مرور بضعة أسابيع على البيان المذكور، ازداد السورياليون راديكاليةً في توجهاتهم السياسية، وأصدروا بياناً بعنوان: «الثورة أولاً ودائماً»، وفيه هاجموا «القومية الشوفينية» باعتبارها «هيستيريا جماعية، جوفاء، وقاتلة». أما الوطن فهو «المفهوم الأكثر حيوانية، والأقل فلسفة». ومُخاطبين قادة الإمبريالية، أضاف السورياليون في بيانهم المذكور ما يلي: «نحن نُمثّلُ ثورة الفكر، ونعتبر الثورة الدموية عمليّة انتقام لا مفرّ منها للفكر المُهان بسبب أعمالكم الدنيئة. ونحن لسنا طوباويين، وهذه الثورة نحن لا نفهمها ولا نمارسها إلا في شكلها الاجتماعي... إن فكرة الثورة هي الحماية الأفضل والأكثر نجاعة للفرد». وفي بياناتهم اللاحقة، خصوصاً تلك التي صدرت في مطلع الثلاثينات من القرن الماضي، أكد السورياليون مرة أخرى أنهم لا يساندون إلا ما سمّوه بـ«الحروب الثورية»، وأيضاً الانتفاضات الشعبية الكبيرة التي تطيح بالأنظمة الفاسدة والمستبدة مثل الثورة الفرنسية، وكومونة باريس، والثورة المكسيكية، والحروب التي تشنها الشعوب من أجل حريتها واستقلالها، والحرب الأهلية الإسبانية التي كتب عنها أندريه بروتون يقول بأنها «جسّدت كل الطموحات من أجل إنسانية أفضل» لأنها كانت صراعاً عنيفاً بين القوى الظلامية، وبين المتطلعين إلى الحرية في معناها العميق والحقيقي. وفي بيان صدر سنة 1936، أي بعد أن استولى الفاشيون والنازيون على السلطة في كل من إيطاليا وألمانيا، جاء ما يلي: «نحن من أجل عالم موحد تماماً، من دون أن تكون لهذا العالم صلة أو قاسم مُشترك مع هذا التحالف البوليسي ضد العدو رقم1. نحن ضدّ الخرق الورقيّة، وضدّ نثر عبيد الدواوين القنصلية. ونحن نعتقد أن النصوص التي كتبت حول البساط الأخضر لا تربط الناس إلاّ بأجسادهم التي تقاوم». وفي الخمسينات من القرن الماضي، لم يتردد السورياليون في إدانة الحرب التي شنها الجيش الفرنسي على الحركات الوطنية في فيتنام، وفي الجزائر... غير أن السورياليين لا يفكرون في الحروب إلاّ للإعلان عنها، إلاّ أنها لم تكن موحية لهم على المستوى الإبداعي والفني. لذا لم يكتبوا عنها لا قصائد ولا روايات. مع ذلك يمكن أن نجد آثاراً لها في «الموت للأبقار في ميدان الشرف» لبنجامين بيريه، وفي «الشرفة في الغابة» لغوليان غراك، وفي «الشيوعيون» للوي أراغون. عند اندلاع الحرب الكونية الثانية، تحديداً في سنة 1940، كتب بنجامين بيريه يقول: «لا يمكن تجييش الشعر». ثم أضاف قائلاً: «لو كنت هناك، فلعلي أساهم في المقاومة بالنضال المسلح. لكن ليس بكتابة قصائد». وفي ربيع عام 1948، توفي طونان أرتو الذي انتسب إلى الحركة السوريالية إلاّ أنه كان رافضاً لتوجهاتها السياسية باعتبار أن السياسة بالنسبة له «تفسد الحياة واللغة»، وأنبه صديقه أندريه بروتون قائلاً: «باعتبار أحداث السنوات الأخيرة، يبدو لي أن كل شكل من أشكال الالتزام السياسي مُثيرٌ للامتعاض والسخرية إذا ما ظلّ دون الهدف الثلاثي الذي لا يتجزأ: تغيير العالم، تغيير الحياة، إعادة تركيب الإدراك البشري من كلّ القطع».


مكتبة خالتي

مكتبة خالتي
TT

مكتبة خالتي

مكتبة خالتي

جميع الأشياء في الوجود متصلة بشكل مقدّس... وإذا لم تكن تؤمن بقدرة السحر التي في الأشياء فليس مسموحاً لك السكن في محراب الفنّ

أحياناً يكون فِعل الموتى أكثر قوّة من تأثير الأحياء. ثلاثون عاماً مضت على وفاة خالتي جميلة، ومراجعي الأولى في القراءة مصدرها خزانة للكتب مصنوعة من خشب الصّاج اللامع، من إبداع النّجار عباس القرملي، وقد شغلت جانباً من غرفتها في بيت أهلي في مدينة (العمارة)، في أقصى جنوب العراق. قبل الحديث عنها لا بد من وصف للغرفة والمنزل، ولا أقول لمدينتي لأنّ الحديث عنها ربما أغراني بالتوسّع في هذا الموضوع، حتى الخروج منه إلى باب آخر.

لم تتخلّ البلدان التي احتلّها العثمانيّون عن آثار حكمهم بعد أن جاء الإنجليز وتحرّرت البلاد واستقلّت. فلو درسنا تاريخ العراق الحديث، لرأيناه صورة مطابقة لبلاد الأتراك، مثل الصراع بين الأحزاب القوميّة واليساريّة، وطريقة تغيير الحاكم عن طريق الانقلاب العسكريّ، بالإضافة إلى صور عديدة في نمط المعيشة من مأكل وملبس وعادات... وفي إحدى زياراتي إلى تلك البلاد، اكتشفتُ أن بيت أهلي المبني في الستينات، نسخة من بيوت حي نيشان طاش في إسطنبول التي شهدت نهضة معماريّة تأثّرت كثيراً بالعمارة الأوروبيّة في تلك السنين.

تحاول الطبقة المتوسطة في بلداننا تقليد الطبقات البرجوازيّة في البلدان الأخرى بأي صورة، منها تصميم البيت الهندسي وطريقة المعيشة، ولأننا لا نمتلك طبقة برجوازية واسعة في العراق -مثلما هي الحال في مصر محمد علي- صار المتوسّطون في المعيشة -مثل أهلي- يقلِّدون أثرياء العالم، وفقدوا بالنتيجة صفات الاثنين، وهذا أحد أسباب انهيار هذه الطبقة سريعاً على أيدي الحكومات العسكريّة الثوريّة اليساريّة... إن 7 أجيال على الأقل يحتاجها البلد من حالة الاستقرار في ظلّ نظام وطني، لكي تترسّخ فيه جذور هذه الفئة، وهذا ما لم يحدث في العراق في تاريخه القديم أو الحديث، وهذا ليس موضوعنا.

بعد الحديقة الواسعة، ينفتح البيت إلى الداخل عبر بوّابتين كبيرتين متجاورتين: إحداهما تؤدي إلى غرفة الضيوف، والأخرى إلى بهو المعيشة، ويُلحق بالبهوِ في بعض البيوت مكتب واسع يخصّ جميع من في البيت، ولا يخصّ أحداً، ويُشرف على حديقة خاصّة به عبر نافذة واسعة.

كانت خالتي تعمل مديرة مدرسة، ولأنها قضت حياتها عزباء، استقلّت في هذه الحجرة التي صارت مُلكاً للجميع، ننتقل إليها من غرفة المعيشة بحريّة كاملة.

تتلمذ النجّار الذي صمم خزانة الكتب التي ألهمت فيّ حبّ الأدب، على أيدي فنانين أسطوات يهود، تمّ تهجيرهم في العهد الملكي (الوطني) إلى فلسطين المحتلة، وهذا ليس موضوعنا أيضاً. أي براعة فنيّة! أي توازن! تقف المكتبة بأبوابها الخشبيّة والزجاجيّة فائقة الأناقة على سيقان بهيئة أسطوانيّة تستدقّ في الأسفل، كأنها كعب حذاء امرأة فاتنة. مع كتب التاريخ والأدب، تحتوي الخزانة على دوريّات شهريّة من مجلّة «بوردا» الخاصّة بالفساتين والثياب والعطور والحقائب، كلّ ما يخصّ سِحر المرأة اجتمع في المجلّة، وصار مثل عالم جديد وفاتن، انعكس في عيني الطفل الذي تعلّم القراءة في الرابعة من عمره، وكان يشعر بأنه يصير إنساناً جديداً، أو أنه يُولد ثانية وبطريقة فنيّة هذه المرّة، كلّما تشبّعت عيناه بصفحات المجلّة الملوّنة؛ حيث ينام الورق على هدهدات خطوات فاتنات أوروبا، بأثوابهنّ وعطورهنّ وزينتهنّ.

شيئاً فشيئاً انعكس هذا الشعور على بقيّة الكتب في المكتبة. يفتح الطفل الصفحة الأولى ويكتشف أنه صار مخلوقاً جديداً؛ لأن ثمة امرأة تختبئ بين طيّاته، وكلّ كلمة تزداد عمقاً ومعنى، لكونها ترتفع في إطار من زينة وعطر ونور، وعندما يبلغ الصفحة الأخيرة، تتألّف عِشرة بينه وبين امرأة الكتاب، تُضيف صفة جديدة إلى تكوينه الأوّلي. بأي إيمان طفولي وإخلاص عجيب كنتُ أستكشف هذا الإغواء، وأنا جالس في حديقة البيت، أقرأ بين أشجار التفاح والسّدر والنخل، وهناك نافورة في الوسط! مُذّاك صار الكتاب وجوداً أبحث فيه عن روح وجسد متألقَين سوف يسكناني حتماً، وأصير بواسطتهما كائناً جديداً. يقول غوته: «نحن لا نتعلّم أي شيء عبر القراءة، وإنما نصبح شيئاً آخر».

في عمر الرابعة، جرّب الطفل -بالإضافة إلى القراءة- أول مرّة، كيف ينفصل عن روحه كي يستطيع رؤية المرأة التي هي غيرُ أمّه وخالته وأختيه؛ أنعام وأحلام. في مدينة العمارة كان هناك متنزّه اسمه «حديقة النساء»، وكنت أزوره بصحبة أمّي وخالتي وأختيّ. لن يغيب عن بالي مشهد الفساتين القشيبة ترتديها النسوة، مع الغموض في العيون الواسعة والكحيلة، وكانت زيارة الحديقة تمنحني الشعور ذاته بالسكينة وعلوّ النفس الذي يعقب معاينة صفحات المجلّة بتروٍّ، من أجل ألا يفوتني أي تفصيل.

عندما دخلت «البوردا» في حياة الناس أحدثت طموحاً شديداً لدى النساء، مع سعي مستمر للهروب من الواقع المتخلف. انتقلت الحياة في المدينة بفضل هذه المجلّة من عصور الظلام إلى المدنيّة. ما زلتُ أذكر مشهد خالتي جميلة وهي تدرس خرائط «الباترون» (ورق رقيق تؤشر عليه علامات تفصيل الثوب النسائي) تساعدها أمي أو أختي من أجل أن يكون المقاس والهيئة مطابقاً لما مثبّت في الصورة الموديل.

إن للمجلّة –الكتاب– القدرة على تغيير الواقع، كلّ الواقع؛ لأن المرأة هي كلّه، وعلى إنقاذ الرجل في الوقت ذاته. الكتابُ هدّامٌ وأخلاقي أيضاً، ويشبه تأثيره ما كانت تقوم به المجلّة النسائيّة في بيئة شرقيّة في مدينة العمارة؛ حيث كانت النساء ممتلئات بالمرارة، يتحجبن خارج البيوت بالعباءة والبوشي يغطي الوجه، قبل سنين قليلة فقط من دخول المجلة وانتشارها في مكتبات المدينة العامّة والخاصّة. هل نقول إن ما يفعله الكتاب لدى الفرد يماثل انعكاس تأثيره في المجتمع؟

إن جميع الأشياء في الوجود متصلة بشكل مقدّس، وإذا لم تكن تؤمن بقدرة السحر التي في الأشياء، فليس مسموحاً لك السكن في محراب الفنّ، وبالتالي العيش فيما يُدعى بالواقع، على أن يتملّكك هذا السّحر فلا يتركك إلا بعد أن يغيّرك بصورة كاملة. أكتب هذه الأسطر في مقهى على رصيف شارع العامل في مدينة الكوت، وصار لدي إحساس بأن ثمة شخصاً يراقبني بعينين حارّتين صديقتين. كان يمرّ في الشارع المزدحم طفل يقودُه أبوه ويبلغ نحو الرابعة. راح ينظر إليّ، ولمّا التقت عيناه عينيّ علَتْ محيّاه ابتسامة عريضة. ظلّ دائراً رأسه للوراء، يتطلّع إليّ عندما تجاوزاني هو وأبوه وصارا بعيدَين. هل انتقلت قوّة السحر في مكتبة خالتي إلى الطفل، فأصبح يعاينها بقلبه وعينيه وعقله؟! إنه افتراض لا يخلو من الصحّة إذا كنا نؤمن بأعاجيب عالمنا والقصص الخيالية والخرافات التي نعيشها، والتي يترجمها الأدباء إلى صور حقيقيّة على الورق؟ لو ثبتت صحّة الأمر لاكتشفنا مدى التأثير والقدرة على التغيير اللذين يحملهما مطبوع يخرج إلى النور وينتشر بين الجميع.


«عازف الغياب»... رواية «سوريالية» لنبيل أبو حمد

«عازف الغياب»... رواية «سوريالية» لنبيل أبو حمد
TT

«عازف الغياب»... رواية «سوريالية» لنبيل أبو حمد

«عازف الغياب»... رواية «سوريالية» لنبيل أبو حمد

عن «الدار العربية للعلوم ناشرون» ببيروت، صدرت للكاتب والفنان نبيل أبو حمد رواية بعنوان «عازف الغياب»، وهي، كما جاء على الغلاف الأخير «رواية سوريالية»... ربما منذ قرن لم يُكتب بالعربية مثلها... ربما في خمسينات القرن الماضي كتبت نصوص سوريالية عربية لكتاب مهاجرين إلى باريس هرباً من دكتاتورية النص والحكام.

وجاء في كلمة الناشر: «تتناول هذه الرواية سيرة حياة فنان يظهر وهو يحمل لوحة من القماش (الكانفاس) وعقله منشغل بالألوان والأشكال التي ينوي أن يمليها على بياض القماش وعندما يحاول العبور للوصول إلى المقهى في الضفة الأخرى من الشارع حيث ينتظره فنجان «الكابتشينو» كعادته كل صباح؛ تأتي سيارة مسرعة وتقذفه بمقدمتها طائراً في فضاء عبثي مليء بالجنون والضياع.

عبر هذا الحدث الفجائي «الاصطدام»، يرسم الكاتب لأحداث روايته فضاءً مجازياً لا وجود له في الواقع المحسوس. فالراوي «عازف الغياب» وهو - بطل الرواية - سوف يدخل في غيبوبة لا يفرّق فيها عقله بين الواقع والخيال، وليجد نفسه على ظهر ببغاء تحمله وتطير به بعيداً، خارج المكان والزمان، ومع كل محطة يتوقف عندها، يتغير حاله ويقابل أناساً مختلفين في صورهم وأشكالهم، ومنهم الزعماء، والكتّاب، والشعراء، والحكماء، والملائكة، والشياطين، والحيوانات، والطيور وغيرهم من الناس العاديين. لكن عند الحديث معهم يتحولون إلى أشكال غرائبية غير مألوفة، ويمارسون أفعالاً خارج المعقولية.

وربما أراد الروائي هنا من وضع شخصية «الفنان - عازف الغياب» على مفترق طرق بين النجاة والهلاك، وإدخالها في عالم غرائبي للتعبير عن أزمة الإنسان المعاصر وخيبته في تحقيق ما تصبو إليه ذاته داخل العالم الحقيقي؛ كما يكشف هلاكها عن شعور مليء بالعدمية واليأس».

وهذه الرواية هي التاسعة لنبيل أبو حمد، الذي كان قد أصدر من قبل «العطيلي» و«بيت من الشرق» و«راكمان وعبد الرحمن» و«الرحيقيون» و«تغريدة الصوفي»، و«النمر» و«شيخوخة الأمير الصغير»، و«حدث في باريس»، إضافة إلى مجاميع قصصية، وعدد من المطبوعات الفنية، منها «هواء نبيل أبو حمد، لوحات كاريكاتورية»، و«لوحات كاريكاتورية لمشاهير العالم» و«قصيدة ميا مع الشاعر نزار قباني» و«ساعة الموت شعراً، مع الشاعر السعودي غازي القصيبي»، وغيرها.

جاءت الرواية في 182صفحة من الحجم الصغير، وكانت لوحة الغلاف لأبو حمد.


الرواية بصفتها بحثاً

الرواية بصفتها بحثاً
TT

الرواية بصفتها بحثاً

الرواية بصفتها بحثاً

هناك أكثر من تفصيل في رواية أحمد الشويخات يستحق الانتباه، لولا أن بعض هذه يشل الرويّ ويمسك بأطراف الرحلة في الاحتلال الأميركي للعراق سنة 2003. التقط الشويخات تاريخاً معيناً أقدمت فيه المقاومة العراقية في الفلوجة على تعليق جثث ثلاثة (مقاولين)، بمعنى أنهم ليسوا أفراداً في الجيش النظامي. جاء ذلك في أعقاب إطلاق النار على مظاهرة سلمية تطلب من جيش الاحتلال عدم الإطلال من سطوح البنايات على البلدة وأهاليها. وكان ما كان من أمر الفلوجة.

لم يهتم الشويخات بأكثر من إشارة إلى ما تلاحق من تطورات: (العراق 2006 م ... في مساحة قرية اسمها «الباب»، عُلقت ثلاث جثث عالياً على أعمدة خشبية - ص 11). الروائي ليس صحافياً، ولا يريد أن يكون مؤرخاً، وعليه أن يأخذ أمراً ويزيد عليه، أو يعيد تكوينه ليقوده إلى ما يريد: محنة المترجم ديفيد بوكاشيو الذي دفعته ميوله للقراءة والمعرفة، واطلاعه الواسع على حضارة العراق القديمة، إلى ركوب هذه الرحلة الشاقة. ولئلا يلتبس الأمر على القارئ، يريد الروائي التعريف بديفيد بوكاشيو، المترجم الأميركي، ليأتي التعريف بمثابة بعض من يوميات بوكاشيو، وهو يكتب اسمه وسلالته التي تمتد إلى مؤلف (الأيام العشرة) أو الديكاميرون، الإيطالي جيوفاني بوكاشيو (ص 27).

ولم يأت الاختيار عبثاً؛ فبوكاشيو منح السلالة اسماً وانتماء إلى (الروي) والمرويّات، ولا بد من أن يظهر في السلالة من يليق بالإرث السردي: ويكون هذا ديفيد بوكاشيو. لكن هذا الإرث يأتي محملاً أيضاً بمشكلات المعرفة عندما يكون المأزق الذي يتعثر عنده طقس العبور. فضباط الفريق الذين ينشغلون في التحقيق مع الأهالي لمعرفة (فراس إبراهيم)، قائد المقاومة المفترض والمسؤول عما حدث، يستغربون برود ديفيد بوكاشيو، وتململه في أثناء التحقيق، فقراءاته تتيح له أن يتبين أن هؤلاء الأهالي لا علاقة لهم بفراس إبراهيم، والكهل المقيد اليدين يشبهه صورة، ولكنه محض فلاح.

كان رئيس التحقيق يستجوب المترجمين اللذين أجلسهما خارج غرفة التحقيق، ومن خلف حاجز شفاف يتيح سماع صوت التحقيق، لا لسبب غير التأكد من دقة ترجمة ديفيد بوكاشيو. هذه العقدة هي التي تستدعي الرويّ. فالمترجم المثقل بقراءاته واقتباساته من ملحمة جلجامش يتأمل كل ما يراه في العراق بعين أخرى تلتقي ما قرأت وعرفت، ولهذا ثمة دهشة وغرابة، وحب، تجعل المترجم يخرج من جبة الاحتراف.

ويكون مأزق ديفيد بوكاشيو مأزق المغامر والدارس والمتمعن في تآلف طبيعة البلد المحتل وأناسه مع تاريخ من الحضارة لم تزل سماتها ترتسم على ملامح الناس والخضرة والطبيعة والبساتين. وبقدر ما تكون هذه القراءة والمعرفة محركاً وفاعلاً في حيثيات السرد، فإن الإمعان فيها قد يعيق السرد ويتحول إلى استعراض لمعرفة المؤلف. هكذا نقرأ مثلاً: (الفن، كرؤية وسرد، هو الجذوة في صقيع الحياة، وهو الفعل الجميل ضد الخراب والخواء والوحدة، كما قال رجب سمعان ذات يوم - ص 69). ويكون ذلك باب المؤلف للاقتباس من الملحمة:

«اصعد إلى سور أوروك

نقّل خطاك عليه جيئة وذهاباً

وانظر من عليّ إلى بيوت المدينة

انظر إلى بساتين النخل

انظر إلى بئر الطين ومشغل الفخار

انظر إلى معبد عشتار - ص69»

هذه الاسترجاعات من الملحمة هي سبيل الروائي لمنح (مأزق) المترجم ديفيد بوكاشيو مصداقية ما تتيح للقارئ معرفة سبب شكوك المحقق هنري بيكر الذي يقدم الصورة الأخرى الكالحة للمحترف الذي لا يألف التكوين المعرفي للآخرين. وعلى الرغم من أن الاسترجاعات التي تشغل ذهن بوكاشيو وتسرح به بعيداً عند رؤية الأرض وأهلها التي حتمت ظهور الملحمة وحضارتها قد تؤدي بالسرد إلى مهاوي (الإفراط السردي)، لكنها ليست ثقيلة لمن يريد المزيد من الملحمة والإرث الحضاري القرين بها. كما أنها تقدم جانباً من (التعارض) و(التقابل) الذي ينهجه السرد: فهناك بابل وسومر وأشعار وأناس وأرض من جانب، وهجوم مسلح لقوى غريبة على البلاد جاهلة بعمقه الحضاري ومتسلحة بالجهل والإرهاب والشعور بالسيادة من جانب آخر. عند هذه النقطة من التقابل السردي يحضر ديفيد بوكاشيو موزعاً ما بين شراكة ملتبسة في العدوان وحب لبلاد أنتجت هذه الحضارة. ولهذا يكون مأزقه مختلفاً عن مأزق المترجمين المحليين التي غالباً ما تكون ذات علاقة برؤية السكان لهم متواطئين مع المحتل. ويشمل ذلك المترجم من أصول عراقية الذي يتوزع بين إرث عائلي وثقافي يتمثل بأجيال من الآباء والأجداد والمترجم المجند الذي جاء بصحبة الاحتلال. هل تتقاضين راتبك من كوفي عنان (أي الأمم المتحدة) أم من بوش؟ هذا هو السؤال الذي تثيره جدة المترجمة في رواية (الحفيدة الأميركية) لإنعام كجة جي.

رواية (الأميركي الذي قرأ جلجامش) تجعل من التبئير الذي اختطته بمثابة (التعارض) الذي يولد توتراً وشداً قد يؤدي إلى جعل ديفيد بوكاشيو متهماً بالتواطؤ. لهذا ترى التبئير يتخذ جملة من الخيوط السردية التي تنقاد إلى (العقدة)، أي مأزق المترجم الذي يزاول الترجمة الفورية مزاولة هاوٍ غرضه الأول مطابقة ما قرأ من قبل مع واقع بلاد تتعرض للانتهاك. ولهذا يكون الضابط المحقق مع المعتقلين (هنري بيكر) بمثابة (الغريم)، أو مضاد البطل (بمفهوم النقد التقليدي). إنه (الرذيل) الذي ينساق وراء حرفته عسكرياً بغرور وصلف وعنف. ولهذا تراه يبحث عن سبب للاعتقال، هو نفسه السبب الذي يتيح للروائي التعريف بماهية الاحتلال: (نقل ديفيد بوكاشيو إلى الضابط هنري إجابة الرجل أن زوجته قضت في أثناء زيارة لأهلها. قصفوا البيت وماتت هي وأهلها في القصف الذي قالوا إنه حدث بالخطأ - ص 74).

وحملات التفتيش والاعتقال التي ينهض بها المحترف الرذيل تتيح للروائي التعريف بما جرى ويجري. وشأنها شأن الاستطرادات والاقتباسات من الملحمة تروم تعميق الوعي بخلفية هذا التناقض الصارخ الذي يعتمده ما بين محقق ومترجم مجيد، ولكنه عارف بما يجهله الآخر. ويضطر الروائي إلى الشروح للتعريف بالمأزق: (في أثناء حملة التفتيش طيلة المساء، لم يكن المترجم ديفيد بوكاشيو على وئام مع الضابط هنري بيكر. لم يكن المترجم يتعمد معارضة الضابط، لكن مقترحات وآراء الضابط الشاب ذي العينين الزرقاوين بدت أحياناً غير محلها في أثناء مداهماتهم للبيوت - ص 75).

لم يكن هذا التعريف بمجريات الاحتلال من جانب والمقاومة من جانب آخر محض تفعيل للتعارض ما بين مترجم يرى عبثية حملات القصف والهدم والقتل ومجانية الفعل العسكري؛ ذلك لأن الرواية تريد تعميق محنة المقروء والمعروف عند المترجم والضرر الخطير الذي يتحقق الآن: «ديفيد بوكاشيو يراقب المشاهد غارقة في الأضواء الصفراء الترابية. وقد لاحظ، وهو يسير مع فرقته وراء هنري بيكر، أن القرية بلا ماء ولا كهرباء، وأن كثيراً من البيوت الطينية بدت جوانب منها أطلالاً تضررت من قصف سابق» (ص 76).

المترجم المأخوذ بما قرأ من قبل وما يُشاهد الآن، ليرى تطابقاً ما كالذي تخيله من قبل الرحالة الذين تعوزهم القراءات الأوسع في الإرث السومري - البابلي، هو نقطة التوتر في «الأميركي الذي قرأ جلجامش» وبين انشداده إلى (عذوق النخيل المكتنزة التي ألقت منذ فترة ثمارها على الأرض، رطباً يانعاً يلتمع على العشب - ص78)، هذا المترجم يستفز بمعرفته هذا الضابط هنري بيكر الذي يود أن يسوق البشارة لرؤسائه أنه حصل على معلومات عن فراس إبراهيم. وكان أن (رمق ديفيد بوكاشيو بنظرة فيها لوم وعتاب مع كثير من الحنق، وكأنه يحمّل ديفيد بوكاشيو مسؤولية إخفاق مجموعتهم ... ص 82).

مثل هذه التقاطعات هي التي تبرر عنوان السرد، لكنها تتيح توتراً نفسياً معيناً لدى المترجم مرده لوم نفسه على ركوب هذه المغامرة بينما يترك وراءه زوجه لورا وأمه الراقدة في مستشفى المسنين بعد تعرضها لجلطة دماغية - ص 80).

وبينما كان المترجم يستحث معاملة تسريحه من عمله، كان بيكر يرى في شروده دليلاً على تواطئه مع الأهالي (ص 84، 85).

وتأتي استدراكات الرواية وكذلك الاتصالات المحدودة بزوجه لورا ورفقته السابقة لرجب سمعان، من أهالي المنطقة الشرقية، بمثابة مكملات سردية تزيينية لا تقدم كثيراً لذلك التوتر الذي يكاد يطيح بالسرد بوصفه محض واقعة أخرى في صفوف القوات الغازية. ولهذا يأتي الكولونيل ستيفن راشفيلد ليعرب عن إعجابه بترجمة ديفيد بوكاشيو، مع إشارة خفية إلى عدم رضاه عن قائد المجموعة، و(الظل الملازم) لديفيد، أي هنري بيكر. وبينما يجمع بيكر أدلته من الصمت والمواربة، يكون ذلك الأمر مبعث ارتياح الكولونيل الذي يراه منصرفاً إلى عمله باقتدار - ص 85، 87).

تأتي استدراكات الرواية بمثابة مكملات سردية تزيينية لا تقدم كثيراً

وشأن السرديات الموفقة، كان المؤلف أحمد الشويخات يأتي بين الفينة والأخرى بما يتيح حقن التعارض والتقابل، ومن ثم التوتر والتبئير، بزرقات تظهر (مضاد البطل)، أو رذيل السرد هنري بيكر، بمظهر الجاهل السفيه الذي يجمع أدلته من خلفية الجهل التي ميّزت أعداداً كبيرةً من القادمين، فإذا كان المترجم يسقط قراءاته في الملحمة وغيرها على ما يرى، وينظر إلى السكان بتعاطف ما، فإن بيكر ينكر عليه ما يجهله، وهكذا يشكو إلى الكولونيل رفض بيكر ترجمة الرسوم والأشكال والإشارات في كتابين؛ أحدهما نسخة مذهبة من القرآن الكريم، والأخرى من كتب عروض الشعر العربي، و(دوائر... الصوائت والصوامت في مقاطع الكلمات التي تكوّن إيقاعات الشعر - ص 96).

ولتوسيع دائرة الاشتباك والتوتر، هناك الكولونيل ستيفن راشفيلد الذي يعترف بجودة تقارير بوكاشيو؛ بينما يقف رئيس التحقيق ريتشارد فلاير مع بيكر في رسم ما يتيح تجريماً ما للمترجم البارع. وشأن الروائي الحاذق لم يدع الشويخات هذا التكتل الرذيل من دون تصدع: (إذ إن ذهاب بيكر في شكواه إلى الكولونيل يحرج رئيس التحقيق فلاير ويدعوه إلى توبيخ بيكر - ص 97، 98).

مثل هذه التقاطعات تتيح للرويّ التمدد خارج بؤرة السرد؛ أي صراع المترجم مع رغباته وقراءاته من جانب، ومن الجانب الآخر انخراطه في احتلال يهدم الإرث الثقافي الذي يبصره في الطبيعة والناس. ولهذا يأتي تبريره لنفسه، وكذلك في رسالته لزوجه، أن هذا البعاد عنها وصبرها وعنايتها بأمه جعله يسأل نفسه عما إذا كان محقاً في الانخراط في الجيش: (كيف تصبرين عليّ؟)، كان يسألها في رسالته (ص 146). وهكذا يأتي الانفراج في طلب إنهاء عقده: كان (وجودي في العراق ضرورياً لأعود إليك - ص151). وثمة انفراجات أخرى، بعضها لتحميل صورة رئيس التحقيق فلاير وفك تكتله مع هنري بيكر. وكان التحقيق مع شاب سرياني اللغة اعتقل للاشتباه به شأن الموجودين في المنطقة: الشاب يرسم علامة الصليب، عند انتهاء التحقيق. وفلاير يسأل المترجم: أي لغة هذه؟ إنها السريانية لغة السيد المسيح (140). ورغم موزائيكية المجتمع العراقي لكن بعض المناطق لا يعرف عنها وجود السريان. ويبدو أن الشويخات يستعين بالضرورات (الشعرية) لاستكمال تصوير المحتل في علاقته بمجتمع تجرأ على اجتياحه بدوافع أخرى تتقصد تجاهل ثقله الثقافي والاجتماعي.

ويمكن أن يقال إنها رواية جريئة للخوض في الاحتلال وحماقاته؛ وإنها إضافة مسهبة لإشكالية (المترجم)، سواء أكان منتمياً مواطنةً أو سلالة للعراق، أو أنه انتمى إليه فكرياً وثقافياً... إنها رواية بحث أولاً.