تفيد المعطيات المالية العالمية حاليًا، بمؤشرات سلبية عن الأوضاع الاقتصادية في معظم الدول والتي تؤثر تباعًا على إنفاق الأفراد وتكشف عن حجم السيولة المتداولة بين المستهلكين، وبالتالي معدل التضخم الذي يقل في دول عن المستهدف ويزيد في دول أخرى عن المعدلات الآمنة، ما يتطلب سياسات مالية ونقدية استثنائية لتلك الظروف الاستثنائية التي تلعب فيها البنوك المركزية حول العالم دورًا ملحوظًا.
ووسط مخاوف من أزمة مالية عالمية تلوح في الأفق، ومطالب بتغيير السياسات المالية والنقدية الحالية «الكلاسيكية»، التقت «الشرق الأوسط» أحمد شمس الدين رئيس قسم البحوث للمجموعة المالية هيرميس أكبر بنك استثمار في المنطقة، والذي طالب بنموذج اقتصادي تشاركي جديد يتناسب وحجم التحديات في الأسواق العالمية، محذرًا من عقبات الاعتماد على السياسات النقدية المتبعة حاليًا والسياسات المالية في ضوء المتغيرات الحالية.
وقال شمس من مكتبه في القاهرة، إن «السياسات النقدية التوسعية المتبعة من البنوك المركزية حول العالم لم تؤدِ إلى النتائج المرجوة منها من ناحية رفع معدلات النمو ومواجهة الانكماش الاقتصادي وهو ما يشبه حالة اليابان في التسعينات من القرن الماضي، حيث تم اتباع سياسة التيسير الكمي وخفض أسعار الفائدة لمواجهة الكساد الاقتصادي، والتي وإن نجحت في تقليل الخسائر الناتجة عن تراجع الدخل القومي، إلا أنها لم تنجح حتى الآن في إيجاد صيغة فعالة للعودة للنمو».
وأشار إلى أدوات البنوك المركزية التي تتمثل في التيسير الكمي والفوائد السلبية وتحريك أسعار الصرف، وهو ما لجأت إليه معظم البنوك المركزية حول العالم – نحو 7 بنوك مركزية تستخدم الفائدة السلبية – تبدو عاجزة عن تقديم حلول فعالة للأزمة الاقتصادية وخاصة في أوروبا واليابان، مشيرًا إلى أن البعض بدأ في التفكير للجوء إلى سياسة الـ«هليكوبتر ماني» – والتي تعني دعما مباشرا للأفراد من البنك المركزي لمرة واحدة في العمر - في محاولة لدعم المستهلكين بالأموال لزيادة الإنفاق وبالتالي ارتفاع معدل التضخم، في ضوء التباطؤ الاقتصادي العالمي الذي طال كبرى الدول. وتوقع «عدم نجاح هذه السياسة في الوقت الحالي». في ضوء المتغيرات السياسية والديموغرافية في الاقتصادات المتقدمة مقارنة بالأسواق الناشئة.
وقال شمس الدين لـ«الشرق الأوسط»: «هناك أمور هيكلية لها علاقة بتقدم الأعمار - في بعض الاقتصادات الكبرى - وهذا من شأنه أن يزيد الادخار ويقلل الإنفاق وبالتالي تراجع معدلات النمو». في إشارة إلى الصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم والاتحاد الأوروبي.
وانتقد تحركات البنوك المركزية حول العالم التي دخلت في «حرب العملات» موضحًا أن «الاتحاد الأوروبي به سياسة نقدية واحدة وسياسات مالية متنوعة لدوله الأعضاء، بينما الولايات المتحدة الأميركية تمتلك سياسة نقدية واحدة وسياسة مالية واحدة» وهو ما يجيب عن سؤال «لماذا يتعافى الاقتصاد الأميركي عن الاقتصاد الأوروبي رغم اتباع الاثنين سياسة التيسير الكمي بعد الأزمة المالية» وإن كانت أوروبا قد تأخرت بعض الوقت، موضحًا أن نحو 35 - 40 في المائة من أرباح الشركات الأميركية معتمدة على الأسواق الخارجية، وبالتالي ارتفاع قيمة الدولار يضر بأرباح هذه الشركات، وهو ما يراعيه المركزي الأميركي أثناء نظره رفع الفائدة بعد دراسة حالة الاقتصاد. وتوقع أن يلجأ البنك المركزي الأميركي إلى رفع أسعار الفائدة بنحو ربع نقطة قبل نهاية العام الحالي، نظرًا للمعطيات الاقتصادية الأميركية الحالية.
أسواق النفط
كما توقع رئيس قسم البحوث بالمجموعة المالية هيرميس، التي تعمل بصورة مباشرة في سبع أسواق إقليمية، أبرزها السعودية ومصر والإمارات، ارتفاع أسعار النفط لمستوى قرب 50 دولارًا بنهاية العام الجاري، وقال: «لن أستغرب إذا صعدت الأسعار إلى 65 – 75 دولارًا للبرميل بنهاية عام 2017. وقد نرى مستوى 80 دولارًا في بداية 2018»، مرجعًا الأسباب إلى انخفاض أنشطة البحث والاستكشاف –باستبعاد أوبك وأميركا - بنحو 50 في المائة على الأقل منذ تراجع أسعار النفط، وهو ما يعزى إلى تراجع المعروض مع ارتفاع الطلب، وهناك فاقد في معدل كل حقل نفطي يعمل حاليًا بنسبة 10 في المائة، ما يدعم أن «يفاجئ النفط الجميع خلال الفترة المقبلة مع الأخذ في الاعتبار حجم العرض والطلب وسعر الدولار وقتها وحالة الاقتصاد العالمي».
وأوضح أن الفائض حاليًا في المعروض يأتي من المشتقات النفطية مثل البنزين والسولار والغاز، موضحًا أن بعض مصافي التكرير تعمل بالطاقة القصوى، مما ساهم في الوفرة الموجودة حاليًا في الأسواق.
ويتداول سعر برميل النفط حاليًا دون 45 دولارًا، نزولاً من 115 دولارًا منذ يونيو (حزيران) عام 2014. ومع ذلك فهو أعلى بنسبة 60 في المائة عن أقل سعر له في يناير (كانون الثاني) الماضي عند مستوى 27 دولارًا.
السوق السعودية
وقال شمس إن «أسواق الخليج، وخاصة السعودية ستكون من أكبر المستفيدين من انخفاض أسعار النفط، إذا استطاعت تنفيذ إجراءات الإصلاح الهيكلي التي أعلنت عنها مؤخرًا والتي ستساهم في تقليل الاعتماد على القطاع النفطي».
وأثنى على وضع السوق السعودية، التي أشار إلى أن لديها فرصة كبيرة لإدخال تغيير هيكلي إيجابي على شكل وقدرة الاقتصاد «في حال حققت 50 في المائة فقط من رؤية المملكة 2030»، مشيرًا إلى طموحاتها في زيادة الإيرادات غير النفطية إلى نحو 100 مليار دولار، الأمر الذي «يجعلها متفردة في المنطقة، مع الأخذ في الاعتبار عودة أسعار النفط للتعافي». وتابع: «نتوقع أن تنضم السعودية لمؤشر الأسواق الناشئة في عام 2018، وهو ما يضعها في مستوى متقدم للمستثمرين الساعين لفرص حقيقية»، موضحًا أن دخول الاستثمارات سيكون قبل ذلك نظرًا للفرص الواعدة قبل إدراكها على المؤشر. وعن حجم الإصلاحات الاقتصادية التي تجريها السعودية، قال شمس: إن «الإصلاحات المالية التي تطبقها المملكة ستجعلها وجهة مباشرة للمستثمرين، خاصة مع فتح السوق للأجانب وتقليل حجم الشروط المؤهلة لدخولهم السوق»، مشيرًا إلى أن فتح أسواق المال أمام المستثمرين الأجانب يعني «أسواق الأسهم والسندات مما ينشط سوق السندات» ويقلل من «تكلفة الإصلاحات المالية في المملكة ويرفع حجم السيولة في السوق».
وأشار شمس إلى أن «السعودية لاعب رئيسي في اقتصاد المنطقة حاليًا، والإصلاحات المنشودة ستجعلها لاعبًا رئيسيا في الاقتصاد الكلي العالمي، وذلك في القطاعات غير النفطية»، مشيرًا إلى تطلعات المملكة لزيادة المكون الصناعي الداخلي في القطاع التعديني وحده نحو أربعة أضعاف النسبة الحالية.