بونيرِغ، ضاحية صغيرة في غرب سيدني، يقل عدد سكانها عن 10 آلاف نسمة، وتضم عشرات الثقافات المختلفة: يوجد فيها مسجد، وأربعة معابد بوذية، وثلاث كنائس، جميعها ضمن نطاق ميل واحد. أكثر من 80 في المائة من الأسر تتحدث لغة غير الإنجليزية. ويُعدّ الحي من بين الأكثر تنوعاً في أستراليا، بحسب تقرير لصحيفة نيويورك تايمز.
لذلك، أصيب السكان بالذهول عندما أُفيد بأن أباً وابنه من أبناء هذا المجتمع فتحا النار يوم الأحد على احتفال بعيد حانوكا على بعد 30 ميلاً في شاطئ بونداي، ما أسفر عن مقتل 15 شخصاً في أسوأ عملية إطلاق نار جماعي تشهدها أستراليا منذ ثلاثة عقود، ودفع البلاد إلى صدارة نقاش عالمي حول العنف المعادي للسامية.
وقال يوسِل ميريتشي، وهو مهاجر تركي يدير محلاً لبيع الكباب في مركز بونيرِغ بلازا التجاري وسط البلدة: «إنه أمر صادم. أين الإنسانية؟ أين الرحمة؟».
وأضاف ميريتشي، وهو مسلم، أن ابنته أصيبت بالجمود ولم تنطق بكلمة بعد سماع الخبر. وعن مطلقي النار قال: «إنهم يسيئون إلى الدين».
وقالت السلطات إن نافيد أكرم (24 عاماً) ووالده ساجد أكرم (50 عاماً) كانا مدفوعين بأيديولوجيا تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش). وقد قُتل الأب في الهجوم، بينما أُصيب الابن برصاص الشرطة لكنه نجا، ووجهت إليه يوم الأربعاء تهم القتل، والإرهاب، والتسبب بإيذاء جسيم بقصد القتل.
وخلال الأيام التي تلت إطلاق النار، سارع الإعلام الدولي إلى رسم ملامح حياة المشتبه بهما، لكنه قوبل هنا بصمت مشوب بالتوتر. ففي منزل العائلة المكوّن من ثلاث غرف نوم في شارع تحيط به الأشجار، حيث كانا يعيشان مع أسرتهما، لم تُلاحظ سوى أصوات مكتومة وخطوات من الداخل.
وعلى بعد نحو ميل ونصف جنوباً، في منزل قيل إن أكرم الابن تلقى فيه دروساً في القرآن، كانت الستائر مغلقة ولم يجب أحد على الباب — وقال المدرّس لوسائل إعلام أسترالية إنه، خوفاً على سلامة عائلته الصغيرة، غادر المنزل. كما لم تسفر عشرات الاستفسارات الموجهة إلى قادة المجتمع المحلي، وزملاء العمل السابقين، وزملاء الدراسة، والجيران، عن أي معلومات.
والمعطيات القليلة التي ظهرت ترسم صورة لعائلة كانت تميل إلى الانعزال. فساجد أكرم، وهو مواطن هندي، انتقل إلى أستراليا عام 1998 بحثاً عن عمل، بحسب ما قالت الشرطة في ولاية تيلانغانا بجنوب الهند. وأضافت الشرطة أنه سافر إلى الهند عدة مرات منذ ذلك الحين، وكان آخرها في عام 2022، لكنه حافظ على تواصل محدود مع عائلته في الهند، التي وصفتها بأنها مسلمة. وفي عام 2001، تزوج في أستراليا وأنجب طفلين: ابناً، نافيد، وابنة، وفقاً لشرطة تيلانغانا.
ووصف من عرفوا نافيد أكرم أنه كان هادئاً، مجتهداً، ومتديناً. وقالوا إنهم صُدموا عند سماعهم بالهجوم، ليس فقط بسبب انطباعاتهم عنه، بل أيضاً بسبب البيئة التي نشأ فيها.
في مدرسته الثانوية، التي تبعد ثلاثة أميال شرق منزل العائلة، كان يُدعى الطلاب إلى ارتداء الأزياء التقليدية لبلدانهم الأصلية، وكان كثير منهم يتحدث القليل من الإنجليزية، بحسب زميل سابق له، لوريس تريماركي. وقال هو وزميل آخر سابق إن نافيد كان طالباً خجولاً، جزءاً من مجموعة للصلاة، ويحب الرياضة. كما تذكر مدرّب في نادٍ للجوجيتسو في غرب سيدني أنه تدرب لفترة وجيزة في النادي، لكنه غادر لأنه كان مهتماً أكثر بممارسة الملاكمة.
وقال تريماركي: «كان فتى مرحاً جداً. دائماً مبتسماً، يضحك باستمرار. لم يُظهر أي علامات مقلقة».

وأضاف تريماركي أنه في السنة الأخيرة من الثانوية، أصبح أكرم أكثر تعبيراً عن آرائه الدينية، وبدأ يحضر عدداً أقل من الحصص الدراسية. وقال: «كان منفتحاً على مناقشة آرائه»، مضيفاً أن تلك الآراء لم تبدُ له متطرفة.
تخرج الصف في عام 2019، لكن تريماركي لم يتذكر ما إذا كان أكرم قد تخرج معهم. وبعد الثانوية، خفّ نشاط أكرم على وسائل التواصل الاجتماعي، ويبدو أنه كرّس نفسه للملاكمة، بحسب تريماركي.
في منتصف عام 2019، بدأ أكرم تدريباً مهنياً في شركة للبناء بالطوب، حيث عمل في مشروع إسكان حكومي في الضواحي الجنوبية الغربية لسيدني، بحسب جيف أولسون، الذي عمل في المشروع نفسه.
وقال أولسون إن أكرم كان متدرباً هادئاً وجيداً، مستعداً للتعلم وتنفيذ ما يُطلب منه، بما في ذلك حمل الطوب، وخلط الإسمنت، وبناء السقالات. وكان زملاؤه ينادونه «ناف».
وأضاف أولسون أنه خلال استراحة الغداء، كان أكرم يذهب إلى الحديقة للصلاة، وتذكر كيف كان هو وبقية عمّال البناء يمزحون معه محاولين دفعه إلى التلفظ بشتيمة، لكنه كان يرفض دائماً. وقال: «كان يبتسم فقط، مثل طفل خجول. يخفض رأسه. هذا كل شيء».
وقال أولسون إن أكرم أخبره بأن والده قرر أن يكون ابنه مسلماً ملتزماً، رغم أن أفراداً آخرين من العائلة في أستراليا لم يكونوا كذلك. وأضاف: «كان منزعجاً قليلاً لأنه لن يحصل على هدايا عيد الميلاد أو أعياد الميلاد». ولم يتذكر الكثير عن علاقة أكرم بأسرته، لكنه قال: «كنت أشعر فقط بأنه لا يريد إغضاب والده».
ومع نهاية العام، اندلعت حرائق غابات في أنحاء أستراليا، ما تسبب بدخان كثيف جعل العمل صعباً. وقال أولسون: «لكنه كان يحضر إلى العمل كل يوم». وأضاف أن أكرم حضر حفلة عيد الميلاد الخاصة بالعمل، وكذلك احتفال عيد ميلاد أحد زملائه. «كان الجميع على وفاق معه».
وقال مسؤولون أستراليون إن أكرم كان قد لفت انتباه السلطات في عام 2019، لكن تقرر حينها أنه لا يشكل تهديداً فورياً. كما جرى استجواب والده في ذلك الوقت، بحسب المسؤولين.
وذكرت وسائل إعلام أسترالية، نقلاً عن مصادر شرطية لم تُسمّها، أن تحقيق عام 2019 كان بسبب صلات نافيد أكرم بـإسحاق الماطري، الذي وصف نفسه بأنه قائد في تنظيم «الدولة الإسلامية» ومقيم في سيدني، وقد أُدين بالتخطيط لهجوم إرهابي. وقد رُفض طلب للتواصل مع الماطري للتعليق من قبل مسؤولي السجون.
وفي العام نفسه، انخرط أكرم أيضاً في حركة الدعوة في الشارع، وهي مجموعة تطوعية مقرها سيدني تهدف، وفقاً لما تعلنه، إلى «نشر رسالة الإسلام سلمياً». وقال بيان أرسلته المجموعة عبر البريد الإلكتروني إن أكرم كان «زائراً نشطاً» لبرامج التوعية الدينية التي تنظمها، كما تطوع للمساعدة في تصوير مقطع فيديو، لكنه لم يكن عضواً رسمياً. وفي مقطع فيديو حُذف لاحقاً من قناة المجموعة على «يوتيوب»، ظهر أكرم واقفاً أمام محطة قطار في إحدى ضواحي سيدني، يحث المارة على نشر رسالة الإسلام.
ولا تزال تحركات أكرم ووالده خلال السنوات الماضية غير واضحة، غير أن مالك نادٍ للملاكمة في غرب سيدني تذكر أنه رأى الشاب قبل نحو ستة أشهر. وقال المالك، الذي طلب عدم ذكر اسمه حفاظاً على سلامة عمله وطلابه، إن نافيد أكرم لم يكن يحضر إلا حصصاً متقطعة، لكنه بدا منغلقاً ولا يدخل في أحاديث.
وقال هو وآخرون في غرب سيدني إنهم في حالة ذهول من الهجوم، ومن حقيقة أن المشتبه بهم كانوا يعيشون بينهم دون أن يُكتشف أمرهم.
وقال روني نغوين (44 عاماً)، الذي نشأ في ضواحي غرب سيدني وكان في بونيرِغ بلازا يوم الخميس: «لا نتوقع أن يحدث إطلاق نار من هذا النوع، ثم أن يكون أقرب إلى بيوتنا مما كنا نتصور — شخص محلي».
وأضاف: «أعتقد أن الأمر سيكون صادماً لمعظم الأستراليين. لكنني أعتقد أننا مع الوقت سنتجاوز ذلك. نحن مجتمع متعدد الثقافات. سنتكاتف».
وخلال صلاة بعد ظهر الجمعة في مسجد بونيرِغ، أدان الإمام مجاهد تشاكِر الهجوم وقدم تعازيه إلى الجالية اليهودية. وقال: «الإسلام دين، منذ زمن نبينا، أظهر احتراماً لجميع الأديان، وخلق مساحة للناس لممارسة معتقداتهم بحرية». وأضاف الإمام تشاكِر: «نحن نرى هذا العمل هجوماً على كل فرد يعيش في أستراليا».
في المقابل، أعرب آخرون عن خشيتهم من أن الخطر لا يزال قائماً.
وقال ستيف جايلز (70 عاماً)، الذي كان يرتدي زي سانتا كلوز في مركز بونيرِغ بلازا، إنه يعتقد أن عموم السكان معرضون للخطر. وأضاف: «هناك الكثير من المسارات التي يمكن أن يتطور عبرها هذا الحقد».
* خدمة «نيويورك تايمز»


