في شوارع المدن السعودية، تختبئ قصص وأسرار مختلفة ترويها المجسمات الفنية في أشكال وأنماط منحوتة وضعت بكل عناية في الزوايا أو الميادين الرئيسية، ولكل مدينة حكايتها وتاريخها ومستقبلها، ما جعل من تلك المنحوتات والجماليات شاهداً وبصمة على تحول ثقافي عميق، وطفرة نوعية لا تزين الفضاء فقط، بل تشكل ذاكرة بصرية، وتعرف الإنسان السعودي والزائر بالهوية والطموح المعماري والفني.

ويرجع تاريخ الاهتمام بهذا الفن إلى مطلع السبعينات في القرن الماضي، حيث نشرت مدينة جدة الواقعة في الشق الغربي من السعودية أكثر من 600 مجسم، غالبيتها لفنانين عالميين ومحليين، وضعت بشكل يضيف جمالاً لمنطقة «الكورنيش» على البحر الأحمر ومجموعة من الميادين العامة، كما شهدت كثير من المدن السعودية حراكاً في إيجاد بصمة خاصة لكل مدينة تعرف بـ«بوابة المدينة»، والتي شهدت اتساعاً ملحوظاً وأصبحت كل المدن الرئيسية تضع بصمتها من خلال مجسم يعبر عن المدينة.
هذا الوهج في تزيين الميادين والمواقع الحيوية بأشكال تحكي واقع المدينة وخصائصها خفت بشكل ملحوظ، مع الإبقاء على المشاريع القائمة من مجسمات، في حين عمدت بعض المدن إلى إحالة جزء من هذه الجماليات للتقاعد ولأسباب مختلفة، غالبيتها تركزت في تأكل المجسم أو التوسع العمراني الذي تشهده المدينة.
ومع الطفرة التي تعيشها السعودية في المسارات كافة أصبحت المجسمات حالة جمالية تحكي بلغة الألوان والتقسيمات حكاية من هنا أو هناك، وهذا الحراك تقوده العاصمة الرياض، بعد وضعها كثير من المجسمات في مواقع مختلفة، وخاصة قطار الرياض الذي احتضنت محطاته 4 أعمال فنية مميزة أبدعها فنانون محليون ودوليون، بهدف إثراء المساحات والأماكن العامة، وتعزيز الإبداع، بالإضافة إلى عدد من المواقع التاريخية.

وما تقوم به الرياض من سباق في الآونة الأخيرة لتقديم أعمال عالمية تصل إلى 1000 عمل فني وفق ما أعلنته «الرياض آرت» من خلال تقديم 35 منحوتة، دفع باقي المدن إلى البحث عن هويتها بأسلوب حداثي يربط الماضي بالمستقبل، وقد عملت كثير من المدن السعودية بشكل ديناميكي لإبراز هويتها من الداخل والخارج، في رسالة لاستقبال الزوار بهويتها الخاصة مع التمتع البصري في مواقع مختلفة تزينت بمنحوتات ورسومات تحاكي الواقع.
الفنان التشكيلي ومؤسس استوديو «شعشعي» راشد الشعشعي يؤكد على الطفرة الجمالية التي تعيشها المدن السعودية، قائلاً إنه على مستوى القيادة والمجتمع هناك تعاظم في الوعي بالبعد البصري للمدينة، والاهتمام يأتي من قدرة هذه النصوص البصرية لرفع جودة الحياة ويوقظ في السكان حس المعرفة والوعي، وهذا يعكس مدى التقدم الذي وصلت إليه للوصول إلى محطات متقدمة عالمياً بعيداً عن الأنماط التقليدية.
وشهدت السعودية، وفقاً لشعشعي، مراحل متعددة من التقدم والتحضر في بيئات مختلفة ومنها تجربة «أرامكو» التي صنعت في وقت مبكر نموذجاً سكنياً متطوراً، كذلك بعض البيئات الملكية التي حافظت على مستوى عالٍ من التنظيم والرقي كما حصل في مدينة جدة، موضحاً أنه يوجد اليوم تحضر شامل ولم يعد جزئياً أو محصوراً في بيئة واحدة، فعندما تتحول الرياض لكونها العصب الجذري للحضور الثقافي والتحضر العمراني، فإن هذا التأثير يمتد تلقائياً إلى باقي المدن.
ولفت شعشعي إلى أن حضور الجمال في النص البصري حالة تشبه تماماً ما يحدث في الطبيعة، فالزهور لا تتفتح كل الوقت، لكنها حين تزهر تُحدث تلك الوهلة التي نتمناها أن تطول، والجمال ليس ديمومة، بل ومضةٌ موثوقة تظهر حين تشاء وتختفي حين تشاء، موضحاً أن الحضور الطاغي الدائم قد لا يكون سمة جيدة، ولكن الحضور المتواري لمثل هذه المجسمات واللوحات يكون بارزاً، خاصة مع تنوع هذه الأعمال ما بين الطاغي والمتواري، ولهذا تبرز عوامل عدة في هذا الجانب، منها جمال الطرح، والعمق الثقافي، والخامة، وجمال التكرار المحسوب.
وعن تسابق المدن في نشر البوابات، قال: «إذا عدنا إلى التاريخ نجد أن البوابات كانت دائماً المفتاح الحقيقي والنظرة الأولى، وقد عرف العرب منذ القدم بتزيين بواباتهم لاستقبال الضيف، والمدينة تحاكي المنزل، فهي منطقة الاستقبال والدهشة الأولى، سواء كانت على مدخل المدينة أو في المطارات».
وعرج الشعشعي على الجانب التاريخي ليشدد على أهمية المجسمات حين ذكر أن الحضارات لم تبلغ ذروة رسوخها إلا عندما التفتت إلى العمارة والفنون والزخارف، وكأنها تعلن للعالم أنها خرجت من عنق الحاجة إلى فضاء الاتزان ووصلت إلى مرحلة عالية من جودة الحياة، فتوجهت إلى بناء ذائقتها، وتشكيل نصها الجمالي، وتقول بثقة لقد وصلنا إلى منطقة من الحضارة ومستوى عالٍ من التقدم.

وبالعودة إلى المجسمات الجمالية وأهميتها فالأسباب كثيرة، ومنها إبراز هوية المدينة أو الدولة بلغة بصرية فريدة، كما أنها تعزز الاقتصاد الإبداعي وتعمل على جذب السياح، كون هذه المجسمات لفنانين عالميين، وهذا ما يجعل السعودية معرضاً ثقافياً مفتوحاً يقرأه الناس ويراه الجميع.
واليوم باتت السعودية واحدة من أبرز دول الشرق الأوسط في توظيف الفن العام داخل مدنها، وهذا التحول لا يعكس فقط رغبة تجميلية للحياة الحضرية، بل هو امتداد لاستراتيجية ثقافية وطنية، تسعى لخلق مدن تتنفس الفن، وتحتضن إبداع الإنسان في كل زاوية وموقع.



