كشفت دراسة علمية جديدة عن أمر مفاجئ في جسم الإنسان هي أن كروموسوماتنا قد تختلف بشكل كبير من خلية إلى أخرى. جاء هذا الاكتشاف بعد أن قام باحثون بفحص وتسلسل الجينوم الكامل لأكثر من 100 خلية منفردة مأخوذة من رجل يبلغ من العمر 74 عاماً، وهو إنجاز تقني لم يكن ممكناً تخيّله قبل سنوات قليلة فقط.
اختفاء الكروموسوم الذكري
عندما ظهرت النتائج شعر العلماء بالذهول. فبعض الخلايا كانت تحمل ذراعاً إضافية في أحد الكروموسومات، بينما كانت خلايا أخرى تفتقد أجزاء كبيرة من الحمض النووي. وفي العديد من الخلايا وُجدت تغييرات أصغر في المادة الوراثية من مقاطع معدّلة، أو محذوفة، أو مكرّرة. وفي عدة حالات اختفى كروموسوم «واي» Yالمسؤول عن تحديد الجنس الذكري تماماً.
وقال لوفليس لوكيت من قسم المعلوماتية الطبية الحيوية في كلية الطب بجامعة هارفارد بالولايات المتحدة الأميركية وأحد مؤلفي الدراسة: كانت هناك بعض الخلايا تالفة للغاية.
التنوع الجيني لجسد إنسان
وقد ظهرت هذه النتائج المثيرة لأول مرة على خادم الأبحاث «bioRxiv» في 25 نوفمبر (تشرين الثاني) 2025 قبل أن تخضع للمراجعة العلمية، كاشفةً عن واحدة من أدق الصور التي رُسمت حتى اليوم للتنوع الجيني داخل جسد إنسان واحد.
لكن ما يلفت الأنظار حقاً هو أن هذه الدراسة ليست سوى «العرض الافتتاحي» لمبادرة علمية كبرى تخطط لتتبع الطفرات الجينية في الخلايا المأخوذة من 19 موقعاً مختلفاً في الجسم اعتماداً على عينات من 150 متبرعاً. وهو مشروع طموح يعد بأن يفتح نافذة جديدة تماماً على عوالمنا الوراثية الخفية.
«خريطة سرية» للتغيرات الجينية
ويأمل العلماء من خلال هذا المشروع الضخم رسم «خريطة سرّية» توضح لحظة بلحظة كيف تولد التغييرات الجينية داخل أنسجتنا، وكيف تشقّ طريقها عبر الجسم مع مرور السنين. هذه الخريطة التي تناولتها «الشرق الأوسط» في عددها الصادر في 2 فبراير (شباط) 2025 بعنوان: «الفسيفساء الجينية...» قد تتحول إلى كنز علمي للباحثين الذين يدرسون ما يُعرف بالفسيفسائية الجينية، أي تلك الاختلافات الدقيقة والمفاجئة في الحمض النووي بين خلايا الشخص نفسه. وقد يكون فهم هذه الظاهرة المفتاح لفك شيفرة بدايات أمراض خطيرة، مثل السرطان، وكيفية تطورها داخل أجسادنا.
وقال سويتشي سانّو الباحث في أمراض القلب والأوعية في اليابان غير المشارك بالدراسة إنه واثق من أن هذا المجال سيتقدم بسرعة كبيرة.
تغيّرات في الحمض النووي على مدار الحياة
إن حمضنا النووي ليس ثابتاً كما يعتقد الكثيرون. فخلال حياتنا تتراكم في خلايانا تغيرات جينية، بعضها يحدث نتيجة أخطاء في عمليات النسخ والإصلاح المستمرة للحمض النووي، وبعضها الآخر ينشأ بفعل عوامل بيئية ضارة، مثل الأشعة فوق البنفسجية، أو المواد الكيميائية، أو سموم دخان السجائر.
ومع تطور تقنيات تسلسل الحمض النووي أدرك العلماء أن الفسيفسائية الجينية أكثر شيوعاً مما كان متوقعاً. وليست كل التغيرات ضارة، لكن بعضها قد يكون خطيراً، فالتراكم المحلي للطفرات في مجموعة صغيرة من الخلايا يمكن أن يؤدي إلى السرطان. كما أن فقدان كروموسوم «واي» في خلايا الدم وهو ما شوهد في بعض خلايا الرجل البالغ 74 عاماً ارتبط بارتفاع خطر الإصابة بأمراض القلب، وحتى النوبات القلبية المميتة.
ومع ذلك لا تزال هناك الكثير من الأسئلة، إذ إن من الصعب تحديد متى تظهر هذه الطفرات بدقة، أو كيف تنتشر، لأن معظم تقنيات التسلسل تعتمد على تحليل الحمض النووي من ملايين الخلايا دفعة واحدة. هذا «الخلط» يخفي التغيرات النادرة التي تظهر في عدد قليل من الخلايا فقط.
تحديات دراسة تقنيات تسلسل الجينوم الخلوي
أصبحت تقنيات تسلسل الجينوم على مستوى الخلية الواحدة أكثر تقدماً، لكنها لا تزال تواجه تحديات، فالعديد من الأساليب الحالية تركز على تسلسل الحمض النووي الريبيRNA بدلاً من الـ(دي إن إيه) DNA لأن الخلية الواحدة تحتوي على نسخ عديدة من الـRNA، بينما تحتوي فقط على نسختين من الجينوم الكامل، ما يجعل تحليل الـDNA أكثر صعوبة.
وتشرح ديان شاو طبيبة الأعصاب في مستشفى بوسطن للأطفال، والتي تدرس الفسيفساء في الدماغ النامي الأمر على النحو التالي: إن تسلسل الحمض النووي من الخلايا الفردية أكثر صعوبة بكثير، لأنه يوجد القليل جداً منه للعمل به.
ورغم التحديات التقنية، يمثل هذا البحث خطوة كبيرة إلى الأمام. فمن خلال كشف الاختلافات الجينية الخفية داخل كل فرد يقترب العلماء من فهم كيفية تغير أجسامنا مع الزمن، وكيف قد تؤثر هذه التغيرات على الصحة، والمرض، والشيخوخة.
ولا يزال المشروع في بدايته، لكن من المتوقع أن تكون نتائجه بعيدة المدى. ولحين اكتماله تبقى رسالة واحدة واضحة تحت السطح: كل واحد منا يحمل فسيفساء معقدة من الاختلافات الجينية... ولا توجد خليتان متطابقتان تماماً.

