كراسناهوركاي الحائز على «نوبل»... والنقد اللاذع للسلطوية

يشعر بالخجل عند الحديث عنه... ولا يعدّ نفسه «جزءاً من الحياة الأدبية»

كراسناهوركاي الحائز على «نوبل»... والنقد اللاذع للسلطوية
TT

كراسناهوركاي الحائز على «نوبل»... والنقد اللاذع للسلطوية

كراسناهوركاي الحائز على «نوبل»... والنقد اللاذع للسلطوية

كان كراسناهوركاي، البالغ من العمر 71 عاماً، الذي حصل على جائزة نوبل للآداب، هذا العام «لأعماله المقنعة والرؤيوية التي تؤكد قوة الفن في خضم الرعب المروع»، حسبما جاء في بيان الأكاديمية السويدية، مرشحاً لنيل الجائزة منذ سنوات طويلة. لقد وصفته سوزان سونتاغ مرة بأنه «سيد نهاية العالم»، وهو يحظى منذ فترة طويلة باحترام زملائه الكتّاب لأسلوبه الفريد ورواياته القاتمة التي غالباً ما تكون مفعمة بروح الدعابة الخفية.

بالإضافة إلى رواياته، كتب ستة سيناريوهات بالتعاون مع المخرج السينمائي الهنغاري بيلا تار، الذي قام بتحويل العديد من رواياته إلى أفلام. وقام تار بتصوير فيلم «كآبة المقاومة»، وهو اسم روايته التي تُعدّ من أشهر أعماله، وكذلك «تناغمات ميركمايستير - Werckmeister Harmonies»، في عام 2000. وهي رواية مليئة بالجمل الطويلة بلا أي تنقيط، وتتناول الأحداث التي وقعت في بلدة هنغارية صغيرة بعد وصول سيرك يحمل معه حوتاً محشواً ضخماً.

وأحدث رواياته التي صدرت باللغة الإنجليزية هي «Herscht 07769»، ونُشرت العام الماضي في الولايات المتحدة. تثير الرواية، التي تتكشف في جملة واحدة، مخاوف بشأن صعود الفاشية في أوروبا، وتتخيل عامل تنظيف في ألمانيا يكتب رسائل إلى المستشارة أنغيلا ميركل لتحذيرها من الدمار الوشيك للعالم. ولا تحتوي الرواية التي تبلغ 400 صفحة سوى على نقطة واحدة.

يقول كراسناهوركاي لصحيفة «نيويورك تايمز» في عام 2014، إنه حاول تطوير أسلوب «مبتكر تماماً... لقد أردت أن أكون حرّاً في الابتعاد عن أسلافي الأدبيين، وألا أكتب نسخة جديدة من كافكا أو دوستويفسكي أو فوكنر».

وأشاد ستيف سيم-ساندبرغ، عضو اللجنة التي منحت الجائزة، «بأسلوب كراسناهوركاي الملحمي القوي والمستوحى من الموسيقى»، وذلك في المؤتمر الصحافي الذي أعلن فيه عن منح جائزة نوبل.

وأضاف سيم-ساندبرغ، قائلاً: «إن نظرة كراسناهوركاي الفنية، الخاوية تماماً من الوهم، والتي تخترق هشاشة النظام الاجتماعي، جنباً إلى جنب مع إيمانه الراسخ بقوة الفن، هي التي دفعت الأكاديمية إلى منحه الجائزة».

وقالت متحدثة باسم الناشر الألماني لأعمال كراسناهوركاي في رسالة بالبريد الإلكتروني يوم الخميس، إن المؤلف لم يُجرِ أي مقابلات، على الرغم من أنه تحدّث، لفترة وجيزة، إلى الإذاعة السويدية في وقت سابق من اليوم، قائلاً: «أنا سعيد للغاية، شكراً لكم»، مضيفاً: «لا أعرف ما يخبئه المستقبل».

ولد كراسناهوركاي عام 1954، في بلدة جيولا، وهي بلدة صغيرة تبعد نحو 120 ميلاً عن بودابست. بقيت الجذور اليهودية لعائلته سرّاً -فقد غيّر جده اسم العائلة من كورين إلى كراسناهوركاي من أجل التماهي والاندماج في المجتمع- ولم يكن كراسناهوركاي على علم بتراثه اليهودي حتى أخبره والده بذلك عندما كان في الحادية عشرة من عمره.

كان كراسناهوركاي طفلاً معجزة في الموسيقى، وعمل موسيقياً محترفاً لعدة سنوات في شبابه؛ حيث كان يعزف على البيانو في فرقة جاز، ويغني في فرقة روك آند رول.

كان والده محامياً، ووالدته تعمل في وزارة الرعاية الاجتماعية. خطّط لدراسة القانون متأثراً بأعمال كافكا -الكاتب الذي كان يُقدسه- وكان مفتوناً بعلم النفس الجنائي، لكنه انتهى به الأمر إلى دراسة اللغة والأدب الهنغاريين.

بعد الجامعة، خدم كراسناهوركاي في الجيش، لكنه قال في مقابلات إنه هرب من الجيش بعد أن عوقب بسبب عصيانه، ثم عمل في وظائف مؤقتة، مثل عامل منجم وحارس ليلي لـ300 بقرة، وهو عمل سمح له بقراءة أعمال دوستويفسكي، ورواية «تحت البركان» لمالكولم لوري، وهو كتاب وصفه بأنه «مرجعه الأول».

عندما بدأ الكتابة، كان هدفه إكمال كتاب واحد، ثم متابعة مسيرته في مجال الموسيقى. في الوقت الذي نشر فيه قصته القصيرة الأولى، كان الفنانون والكتاب يخضعون للرقابة في ظل النظام الشيوعي في هنغاريا، وتم استدعاؤه للاستجواب من قبل الشرطة، التي استجوبته حول آرائه المعادية للشيوعية، وصادرت جواز سفره.

لم يثبط ذلك كراسناهوركاي عن عزمه، ففي عام 1985، نشر روايته الأولى المثيرة للجدل بعنوان «ساتان تانغو»، أو «رقصة الشيطان»، التي تدور حول الحياة في قرية فقيرة متهالكة. ولقد أحدثت الرواية ضجة أدبية في هنغاريا. وقال في مقابلة مع مجلة «باريس ريفيو» في عام 2018: «لم يستطع أحد، بمن في ذلك أنا، فهم كيف كان من الممكن نشر (ساتان تانغو) لأنها رواية غير مثيرة للمشكلات بالنسبة للنظام الشيوعي».

تدور أحداث «ساتان تانغو» في مزرعة جماعية مهملة، وتركز على العديد من الموضوعات التي تميز أعمال كراسناهوركاي؛ فهي تصور أشخاصاً عاديين يملؤهم شعور عام بالبارانويا والارتباك، ويواجهون حالة من عدم اليقين مع بدء انهيار الأنظمة الاجتماعية.

يقول الشاعر جورج سزيرتيس، الذي ترجم «ساتان تانغو» والعديد من أعمال كراسناهوركاي الأخرى: «إنه لا يتعامل مع القضايا السياسية الكبرى، وإنما يتعامل مع تجارب الأشخاص الذين يعيشون في مجتمعات آخذة في التدهور والانهيار».

في عام 1994، صوّر المخرج بيلا تار فيلماً مقتبساً عن الرواية مدته أكثر من 7 ساعات. وفي مقابلة يوم الخميس، تذكّر أنه قرأ الكتاب في ليلة واحدة، وسأل المؤلف عما إذا كان بإمكانه تحويله إلى فيلم، ليجد أن المؤلف منزعج من إيقاظه خلال عطلة عيد الفصح. ويقول تار إن الرواية مليئة بـ«هؤلاء الناس الفقراء، وهؤلاء الناس البؤساء»، لكن كراسناهوركاي منحهم «كرامة» نادرة.

أما سزيرتيس فيقول إن كراسناهوركاي لم يتوقع مطلقاً أن تحظى كتبه -المفعمة بالعبارات والجمل الفرعية التي لا نهاية لها- بشعبية واسعة بين القراء في مختلف أنحاء العالم، فكتبه، حسب قوله، «قد تبدو مرهقة في بعض النواحي، ببساطة لأنه لا توجد فواصل فيها».

خلال العقود الأخيرة، حصل كراسناهوركاي على سلسلة من الجوائز خارج وطنه. في عام 2015، فاز بجائزة «مان بوكر» الدولية، التي كانت تُمنح في ذلك الوقت لمجمل أعمال المؤلف، وليس لرواية معينة.

وفي الولايات المتحدة، نشرت دار نشر «نيو دايركشنز» عشرات من كتبه المترجمة، وهناك المزيد في الطريق، بما في ذلك رواية «لقد رحل زومله - Zsömle Is Gone»، وهي رواية ساخرة عن كهربائي متقاعد مسن يعيش في الريف، ويعتقد أنه من سلالة العائلة المالكة الهنغارية.

غالباً ما تحتوي أعماله على انتقادات لصعود آيديولوجية اليمين

تقول باربرا إيبلر، ناشرة دار «نيو دايركشنز»، «إن من أكثر الأشياء إثارة للإعجاب في أعمال كراسناهوركاي قدرته على نسج الفكاهة غير المتوقعة في قصص قاتمة... كل هذه الظلمة، ومع ذلك في داخله حالة من المرح المتصاعد والفارغ من التعبيرات بشكل لا يُصدق».

على الرغم من أن أعمال كراسناهوركاي غالباً ما تُشاد لطابعها السياسي، فإنه يرفض فكرة أنه يكتب قصصاً سياسية رمزية.

يقول لصحيفة «نيويورك تايمز» في عام 2014: «لا أريد مطلقاً أن أكتب روايات سياسية. لم تكن مقاومتي للنظام الشيوعي سياسية، بل كانت ضد المجتمع بأسره».

ومع ذلك، غالباً ما تحتوي أعماله على انتقادات للسلطوية، وصعود آيديولوجية اليمين. كما انتقد كراسناهوركاي الزعيم الاستبدادي الهنغاري فيكتور أوربان وحزبه «فيدس»، وهو موقف محفوف بالمخاطر في وقت يواجه فيه الكتّاب الذين ينتقدون الحكومة مضايقات في كثير من الأحيان، حسبما قالت أوتيلي مولزيت، التي ترجمت نحو 6 من كتبه إلى الإنجليزية.

تقول مولزيت: «إنه يضع مرآة السخرية أمام المجتمع الهنغاري. لقد كان شجاعاً جداً في إعلان موقفه بأنه غير راضٍ عن أوربان».

وفي منشور على وسائل التواصل الاجتماعي، هنأ أوربان كراسناهوركاي على فوزه بجائزة نوبل، وقال إنه «يجلب الفخر لأمتنا».

لا يشعر كراسناهوركاي بالراحة عندما يُصوَّر على أنه متنبئ اجتماعي أو سياسي. وقد صرح بأنه لم يشعر مطلقاً بالراحة عند مناقشة أعماله، ولا يعدّ نفسه «جزءاً من الحياة الأدبية».

قال لمجلة «باريس ريفيو»: «الكتابة، بالنسبة لي، هي عمل خاص تماماً. أشعر بالخجل عند الحديث عن أعمالي الأدبية، فهذا يُشبه سؤالي عن أسراري الخاصة».

* خدمة «نيويورك تايمز»


مقالات ذات صلة

أبرز 5 شخصيات طبعت سنة 2025

العالم الشرع خلال إلقائه كلمته (سانا)

أبرز 5 شخصيات طبعت سنة 2025

فيما يأتي لمحة عن أبرز 5 شخصيات طبعت سنة 2025 في مختلف المجالات ومن مختلف أنحاء العالم.

«الشرق الأوسط» (باريس)
أميركا اللاتينية زعيمة المعارضة الفنزويلية ماريا كورينا ماتشادو (رويترز)

فنزويلا تعتزم اعتبار زعيمة المعارضة «هاربة» في حال سفرها لتسلم جائزة نوبل

تعتزم فنزويلا اعتبار زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو «هاربة من وجه العدالة» في حال مغادرتها البلاد إلى النرويج لتسلم جائزة نوبل للسلام التي نالتها.

«الشرق الأوسط» (كاراكاس)
آسيا ساناي تاكايتشي لدى وصولها إلى مقر رئاسة الوزراء في العاصمة اليابانية طوكيو (أرشيفية - أ.ب)

رئيسة وزراء اليابان تعتزم ترشيح ترمب لجائزة نوبل

تستعد رئيسة الوزراء اليابانية ساناي تاكايتشي لترشيح الرئيس الأميركي دونالد ترمب لجائزة نوبل للسلام، مشيرة إلى أنها تقوم بالترتيبات اللازمة لإبلاغه بنواياها.

«الشرق الأوسط» (طوكيو)
يوميات الشرق عالم الفيزياء النظرية الحائز جائزة نوبل تشين نينغ يانغ (صحيفة تشينا ديلي)

وفاة العالم الصيني نينغ يانغ حائز «نوبل» في الفيزياء عن 103 أعوام

توفي عالم الفيزياء النظرية الحائز جائزة نوبل، تشين نينغ يانغ، في بكين اليوم (السبت) عن عمر ناهز 103 أعوام.

«الشرق الأوسط» (بكين)
الاقتصاد عرض صور الفائزين بالجائزة لعام 2025 (من اليسار إلى اليمين) جويل موكير وفيليب أغيون وبيتر هاويت وهم يتحدثون إلى الصحافيين أثناء الإعلان عن الفائز بجائزة نوبل في الاقتصاد (أ.ف.ب)

«نوبل» للاقتصاد لثلاثي طوّر نظرية «النمو المعتمد على الابتكار»

اختُتمت، أمس، فعاليات موسم جوائز نوبل لعام 2025 بمنح جائزة الاقتصاد إلى الأميركي جويل موكير والكندي بيتر هاويت والفرنسي فيليب أغيون، تقديراً لإسهامهم في تفسير

«الشرق الأوسط» (استوكهولم)

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.