أبدى مكتب الادعاء العام في المحكمة الجنائية الدولية رضاه عن الحكم الصادر بحق السوداني علي محمد علي عبد الرحمن، المعروف باسم «علي كوشيب»، الذي أدانته بارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية في إقليم دارفور غرب السودان، وعدّ القرار خطوة أساسية نحو تحقيق العدالة، رغم استمرار الإفلات من العقاب لكبار المسؤولين عن النزاع، فيما طالب بتسليم كل من عمر البشير، وأحمد هارون وعبد الرحيم محمد حسين، لمحاكمتهم.
وأصدرت المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، الاثنين الماضي، حكماً تاريخياً بإدانة السوداني علي محمد علي عبد الرحمن، وتوجيه أكثر من 30 تهمة له، تشمل «القتل العمد، والاغتصاب، والتهجير القسري، والاضطهاد العرقي»، ضد سكان قرى بمنطقة «وادي صالح» في إقليم دارفور ما بين عامي (2003 - 2004)، كأول إدانة تصدرها المحكمة في ملف دارفور منذ إحالته إليها من مجلس الأمن الدولي في 2005.
وقال جوليان نيكولز، المحامي الرئيسي في القضايا بمكتب الادعاء العام، في مؤتمر صحافي من مقر المحكمة في لاهاي عبر الإنترنت، شاركت فيه «الشرق الأوسط» اليوم الأربعاء: «إن الأدلة أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن المتهم لعب دوراً قيادياً في الهجمات الممنهجة ضد المدنيين»، وحددت جلسة يوم 17 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل للنطق بالعقوبة التي قد تصل إلى السجن مدى الحياة.
ورغم وصفه الحكم للصحافيين بأنه «يعد إنجازاً مهماً»، لكنه عدّ أنه «لا يمثل العدالة الكاملة بعد، طالما أن هناك متهمين آخرين ما زالوا طلقاء، بينهم الرئيس السابق عمر البشير، وأحمد هارون وعبد الرحيم محمد حسين».
وكان مكتب المدعي العام قد شدد، في بيان أعقب الإدانة، على ضرورة مثول الذين صدرت ضدهم أوامر قبض لم تنفذ، وأشار إلى ارتباط التهم التي أدين بها علي عبد الرحمن الوثيق مع التهم الموجهة لأحمد هارون شخصياً، لكن الادعاء قال للصحافيين إن هارون في نظره ما يزال متهماً ولم تثبت إدانته بعد.
من جهته، كشف داهيرو سانت آنا، مستشار التعاون الدولي في مكتب المدعي العام، عن الشروع في تحقيق جديد بشأن الجرائم الحديثة في غرب دارفور، التي أعقبت اندلاع الحرب بين الجيش و«قوات الدعم السريع» في أبريل (نيسان) 2023، وقال إن «المحكمة بحاجة إلى تعاون حقيقي من الحكومة السودانية لتسليم المشتبه بهم، لأن المحكمة لا تملك قوة إنفاذ قانونية، وتعتمد على تعاون الدول الأعضاء».
مشيراً إلى ما سماه صعوبات واجهت التحقيق في قضية كوشيب، بسبب استمرار الحرب وانعدام الأمن بقوله: «فريق الادعاء لم يتمكن من دخول دارفور، لكنه يعتمد على شهادات موثوقة وأدلة مادية قوية، ونحن راضون عن موثوقية الأدلة، والحكم ذاته دليل على ذلك».
من جانبه، قال سيريل لوتشي، المحامي الرئيسي للدفاع عن المدان للصحافيين، إن دفاعه استند إلى إنكار موكله بكونه علي كوشيب، وإصراره على أنه «علي محمد عبد الرحمن»، وعلى نفيه لعلاقته بميليشيا «الجنجويد»، وأنه مازال متمسكاً بموقفه حتى بعد صدور الحكم ضده.
وفي تفسيره لكيفية تسليم المدان لنفسه للمحكمة الجنائية الدولية في أفريقيا الوسطى في يونيو (حزيران) 2020، قال إنه أبلغهم أنه «جاء بحثاً عن العدالة»، وأشار إلى وجود نيات للقبض عليه وتقديمه كبش فداء، أو التخلص منه، لذلك سلم نفسه «بحثاً عن العدالة».
وأوضح لوتشي أن فريق الدفاع «لم ينكر وقوع الجرائم في دارفور، لكنه يرفض تحميل المسؤولية عنها للمتهم وحده»، وقال موضحاً: «عبد الرحمن كان صيدلياً في مدينة غارسيلا خلال الفترة التي وقعت فيها الجرائم، ولم يكن عضواً في الدفاع الشعبي، أو حرس الحدود أو الميليشيات القبلية التي كونت الجنجويد».
وأضاف أن فريقه يدرس الحكم بالتفصيل، ويعمل على شرحه للمتهم ليقرر وحده ما إن كان يريد استئنافه، وأن خط الدفاع في الاستئناف سيكون على الأدلة القانونية ذاتها، وقال إنه «من غير المرجح استدعاء شهود جدد في ظل الحرب الدائرة في السودان».
بالمقابل، وصفت ناتالي، الممثلة القانونية للضحايا، الحكم بأنه «منح الضحايا الأمل بعد عقدين من الانتظار»، وقالت إن العديد منهم شاهدوا جلسة النطق بالحكم في دارفور وتشاد، وعبّروا عن «شعورهم بالارتياح والسعادة لأن العدالة بدأت تأخذ مجراها». كما كشفت عن بدء المحكمة إجراءات جبر الضرر للضحايا، عبر «الصندوق الائتماني للمجني عليهم»، مشيرة إلى أن الجبر لا يقتصر على التعويضات المالية، بل يشمل «العلاج، والدعم النفسي، والتعليم للأطفال، والمساعدات الرمزية»، مستبعدة أن تصدر المحكمة قراراً يكلف الحكومة السودانية جبر الضرر وتعويض الضحايا.
وتباينت رؤى الادعاء والدفاع وممثلي الضحايا، فالأول رأى أن الحكم يمهد الطريق لملاحقة بقية المتهمين «عمر البشير، أحمد هارون، عبد الرحيم محمد حسين»، بينما وصفه الدفاع بأنه حكم «قابل للطعن ولا يعكس كل الحقائق»، بينما عدّه ممثلو الضحايا «خطوة تاريخية تعيد الأمل للناجين من الفظائع».
ويعد الحكم على كوشيب أول إدانة تصدرها المحكمة الجنائية الدولية بشأن جرائم دارفور منذ نحو 20 عاماً، و«رسالة قوية ضد الإفلات من العقاب»، وفق ما جاء في خطابات الترحيب، التي صدرت من المجموعات السياسية والمدنية السودانية، ومن أسر الضحايا.




