قالت المخرجة الفرنسية بولين لوكيه إن فيلمها الطويل الأول «نينو» انبثق من تجربة شخصية مؤلمة، لكنها استطاعت أن تحوّل هذه الذكرى القاسية إلى عمل فني نابض بالحياة، والأمل، مؤكدة أنها بدأت كتابة الفيلم بعد فقدان أحد أفراد عائلتها بمرض السرطان، حيث دفعها الغضب من المرض ومن الحياة إلى البحث عن معنى جديد من خلال الخيال، فأرادت أن تكتب حكاية شاب مريض، وتمنحه عبر السينما فرصة للخلاص.
وأضافت بولين في حديثها لـ«الشرق الأوسط» أنها لم تشعر بابتكار شخصية «نينو» من العدم، بل بدت لها كأنها صادفتها في الطريق، تائهة، ومرتبكة، فاتّبعت خطواتها بفضول، وتركت نفسها تنساق وراء تجواله من لقاء إلى آخر، وأكدت أنها كانت تكتب بروح منفتحة، وتترك للشخصية أن تقودها، بدلاً من أن تفرض عليها مساراً محدداً.
تدور قصة الفيلم الذي يعرض للمرة الأولى عربياً في الدورة الثامنة من مهرجان «الجونة السينمائي» الشهر المقبل حول «نينو»، الذي يواجه تحدياً مصيرياً، لكن الأطباء يفرضون عليه أولاً إنجاز مهمتين أساسيتين، تدفعانه هاتان المهمتان إلى رحلة عبر باريس، وتجبرانه على إعادة التواصل مع العالم، ومع ذاته، في إطار زمني ضيق لا يتجاوز 3 أيام. ومن خلال هذه الرحلة، يكشف الفيلم لحظات الدهشة والارتباك الأولى بعد سماع خبر المرض، وكيفية استعادة الصلة بالحياة في مواجهة حتمية الموت.

تقول المخرجة الفرنسية إن حصر الأحداث في هذه الفترة الزمنية القصيرة هدفه الغوص في تفاصيل الأيام والساعات التالية مباشرة لإعلان الإصابة، متسائلة: «إلى أين سيذهب نينو؟ من سيلتقي؟ كيف سيتحدث؟ وهل يمكن أن يجد في قلبه مساحة للفرح والرغبة؟»، ولفتت إلى أنها لم ترغب في تصوير الأبعاد الجسدية للمرض، بل ركزت على التحولات الداخلية في الروح والعقل.
تصف بولين الممثل تيودور بيليرين الذي قدم الدور، وظهر تقريباً في غالبية مشاهد الفيلم بـ«الكنز الحقيقي»، لقدرته على الجمع بين الحس الفني والحساسية الداخلية العميقة، لافتة إلى أنها أرادت للكاميرا أن تتبعه طوال الوقت لتكشف من خلال نظراته عن عالم داخلي غامض وفاتن. وأكدت المخرجة الفرنسية أن «الصمت شكّل جزءاً أساسياً من لغة الفيلم، إذ يتيح مساحة للتعبير عن المرض والموت بما تعجز عنه الكلمات، ويفتح باباً لتواصل آخر قائم على النظرات، واللمس، والإحساس، بعيداً عن حدود اللغة المنطوقة».
وأوضحت أنها حرصت على أن يعكس الإيقاع البطيء واللقطات القريبة شعور «نينو» بالشرود، والانفصال، حيث يعيش حالة من التمزق بين ما تغير خارجه، وما لم يتغير داخله بعد، في انتظار بداية المغامرة الكبرى مع أول جلسة علاج. وبيّنت أن اختياراتها البصرية من الضوء والمساحات الفارغة جاءت مرتبطة بخبرتها الشخصية مع فقدان قريب بالسرطان، مشيرة إلى أنها أرادت أن تمنح «نينو» بعداً طيفياً، كأنه شبح يسير في المدينة بين الحياة والموت.

أما العلاقة القصيرة والمكثفة بين نينو وأمه، فتقول بولين: «قصدت أن أكثّف من خلالها كل ما يحمله الرابط الأمومي من توتر، وحنين، وعاطفة، قبل العودة في لحظة هدوء إلى جوهر هذا الحب الأبدي». وأضافت أن «الشخصيات الأخرى بدت كأنها تدور في فلك (نينو) من دون أن تصل إليه حقاً، وهو أمر مقصود لإبراز عزلته الوجودية، لكنه لا يلغي احتمالات التقارب في لحظات أخرى».
وأشارت إلى أن الفيلم قد يحمل في طياته أصداء من السينما الفرنسية الكلاسيكية من دون قصد مباشر، لكنها استلهمت أيضاً من أعمال عالمية أخرى ساعدتها في بناء نسيج الفيلم، معتبرة أن «العمل على الفيلم طوال 5 سنوات كان بمثابة فرصة سمحت لي بالتفكير يومياً فيمن فقدته، ومنحني القدرة على مشاركة هذه الذكرى مع الجمهور عبر شخصية البطل (نينو)». وعن فوز بطل فيلمها تيودور بيليرين بجائزة النجم الصاعد في أسبوع النقاد بمهرجان «كان» في نسخته الماضية، عبّرت المخرجة الفرنسية عن سعادتها الغامرة، معتبرة أن «الجائزة تكريم لموهبته الفذة التي رأتها فيه منذ لقائهما الأول».


