فجّرت عبارات الرئيس الأميركي دونالد ترمب، حول مآلات الحرب الروسية في أوكرانيا، موجة جديدة من السجالات الصاخبة، وفتحت على تكهنات بشأن مصير جهود الوساطة الأميركية لإنهاء الصراع. وُصف كلام ترمب عن أن «أوكرانيا، بدعم من الاتحاد الأوروبي، في وضع يسمح لها بالقتال واستعادة كامل أراضيها إلى حدودها الأصلية»، بأنه تحوّل كامل في موقف إدارته، ما يعكس تنامي خيبة الأمل لدى واشنطن تجاه سياسات الكرملين، ويمهّد لانسحاب أميركي تدريجي من عملية السلام المتعثرة أصلاً. لكن «الانعطافة» الأميركية التي سعت أوساط في موسكو وواشنطن إلى التقليل من تأثيراتها المحتملة، ورفضت وصفها بأنها تحول كامل في مواقف الرئيس الأميركي الذي تعهد قبل أقل من عام بإنهاء الحرب في غضون 24 ساعة، تزامنت مع تغييرات واسعة في المشهد السياسي - العسكري كلّه. لم تقتصر تداعيات هذه الانعطافة على ساحة المواجهة نفسها، بل امتدت لترمي بثقلها على كل اللاعبين الرئيسيين في الصراع.
بعد مرور أسابيع قليلة على اللقاء «التاريخي» الذي جمع الرئيسين فلاديمير بوتين ودونالد ترمب في ألاسكا، وأثار الكثير من النقاشات حول مجرياته ونتائجه، بدا أن أجواء التفاؤل المحدودة التي وفّرتها القمة، قد تبخرت سريعاً.
وشكلت تصريحات ترمب حول قدرة أوكرانيا بدعم غربي على «استعادة أراضيها» والعودة إلى حدود عام 2022، أي قبل اندلاع المعارك مباشرة، انقلاباً كاملاً على قناعات البيت الأبيض السابقة التي راهنت بجدية على أن التنازلات الإقليمية من جانب أوكرانيا قد تؤسس لسلام مستدام يضمن مصالح كل الأطراف.
شكّل موقف ترمب الجديد امتداداً طبيعياً لسلسلة مواقف انقلب فيها على سياسته السابقة تجاه روسيا. بدأت بإعلان خيبة أمله تجاه نظيره الروسي، ووصفه بأنه «مجنون» في أحد تعليقاته الصاخبة، ووصلت إلى الحديث عن «حرب عبثية» يشنها بوتين، وتأكيد أنه «بعد دراسة الوضع العسكري والاقتصادي في أوكرانيا وروسيا، يمكن لكييف بدعم من الاتحاد الأوروبي، مواصلة القتال وإعادة أوكرانيا بأكملها». إضافة إلى ذلك، قال ترمب إن القوات الروسية عجزت عن حسم المعركة في أكثر من 3 سنوات، ووصفها بأنها «نمر من ورق».
تحول أم ضغط تكتيكي؟
أثارت تلك التصريحات شهية كييف وعواصم أوروبية، ولم يتردد الرئيس فولوديمير زيلينسكي بإعلان استعداده لترشيح ترمب لجائزة نوبل للسلام «إذا استطاع إنهاء حرب بوتين».
لكن هل حملت تلك التصريحات فعلاً تحولاً جدياً في مواقف إدارة ترمب؟
سارعت أوساط في الإدارة الأميركية إلى التقليل من هذا الاحتمال، والتأكيد على أنها مجرد انعكاس لخيبة الأمل بسبب تعثّر جهود السلام، بينما رأت أوساط روسية أن موقف ترمب يهدف إلى ممارسة نوع من الضغط على الكرملين لحمله على دفع المفاوضات قدماً. بين الموقفين، برزت إشارات عدة إلى أن الإدارة الأميركية تسعى بالفعل إلى تقليص حضورها في هذا الملف، ورمي المسؤولية عن الفشل القائم على أطراف أخرى.
قبل 10 أيام فقط من إطلاق هذه التصريحات، دعا ترمب، مجدداً، دول حلف «الناتو» إلى عدم شراء النفط الروسي، ووصف الأحداث في أوكرانيا بأنها «حرب (الرئيس السابق جو) بايدن وزيلينسكي». وفي وقت سابق، كان ترمب متحمساً جداً لفكرة التنازلات الإقليمية من جانب أوكرانيا، ولم يوفر جهداً لتأكيد موقفه الضاغط بقوة على زيلينسكي في هذا الشأن، بما في ذلك خلال لقاء الطرفين الشهير في فبراير (شباط) الماضي في البيت الأبيض.
تقول أولغا ستيفانيشينا، سفيرة أوكرانيا لدى واشنطن، التي كانت حاضرةً في المكتب البيضاوي خلال الخلاف العلني بين رئيسي الدولتين، إن «تحولاً كبيراً قد حدث» في علاقتهما، وإن «كلا الجانبين قد قطع شوطاً طويلاً». ويعود ذلك بالأساس إلى المحادثات العديدة التي أجراها ترمب مع بوتين هاتفياً أو بشكل مباشر في ألاسكا. وتخلص إلى أن ترمب بالفعل قد «فقد الأمل لأن بوتين قطع وعوداً كثيرة، ونشر أكاذيب ومعلومات مضللة».
إذا كان هذا التحليل صائباً، فهذا مؤشر إلى تحول حقيقي، وهو أمر أكده بشكل جزئي الناطق باسم الخارجية الأميركية، إيان باتيسون، عندما أقر بأن «الرئيس ترمب إذا التقى بشخص ما، وتحدث معه، واعتقد فعلاً أنه يقدّم حججاً جيدة وصحيحة، يمكنه تغيير موقفه. وبصفته رئيساً، يمكنه تغيير السياسة (..) رأينا هذا بالأمس: بدأ يتحدث بشكل مختلف عن الجيش الأوكراني، وعن شجاعته ونجاحاته».
لكن موسكو، في المقابل، لا ترى تحولاً حقيقياً في موقف الإدارة الأميركية. وفضلت عدم التسرّع في الرد بعنف على تصريحات ترمب، وجددت التأكيد على 3 عناصر رئيسية:
الأول: مواصلة العمل مع الرئيس الأميركي لرفع العراقيل المتراكمة أمام تطبيع العلاقات منذ عهد الرئيس السابق. والثاني: التذكير بتحولات الوضع الميداني واستحالة عودة الوضع إلى حدود 2022. والثالث: الإشارة إلى حجم المكاسب المنتظرة للشركات الأميركية في السوق الروسية وتأكيد انفتاح موسكو على التعامل معها لتحل مكان الشركات الأوروبية.
الموقف الروسي انطلق ليس من قناعة بأن الوضع على الأرض تغيّر إلى درجة يصعب معها إحداث تحول عسكري ميداني كبير فقط، بل أيضاً من فهم بأن ترمب حتى لو انسحب من عملية السلام فهو لن يخوض «حرب بايدن»، وفقاً لتعبيره، وأن المتغيرات السياسية والميدانية سوف تجعله يرمي بثقل هذه العملية على كاهل الأوروبيين وحدهم. وهذا يفسر، وفقاً للفهم الروسي، سياسة ترمب التي ركزت على تفاهمات مع الاتحاد الأوروبي لشراء الأسلحة والمعدات من الولايات المتحدة لنقلها إلى أوكرانيا. ثم تلويحه بأنه قد يفرض عقوبات صارمة على بوتين فقط في حالة امتناع كل بلدان الاتحاد والحلف الأطلسي عن شراء مصادر الطاقة الروسية، وهو أمر يبدو مستحيلاً في المدى المنظور.
أكد ترمب للقادة الأوروبيين خلال خطابه في الأمم المتحدة استعداده لفرض رسوم جمركية قاسية على روسيا إذا كانت دول الاتحاد الأوروبي مستعدة للقيام بالمثل، وقال: «الدول الأوروبية تشن حرباً على نفسها. من جهة، تريد إنهاء الحرب في أوكرانيا، ومن جهة أخرى، تشتري النفط والغاز من روسيا، وتمنحها الفرصة والوسائل لمواصلة هذه الحرب المروعة».
إذن، يسعى ترمب في سياسته الجديدة تجاه الملف الأوكراني، وفق الفهم الروسي، إلى ممارسة ضغوط، ليس على موسكو وحدها، بل على الأطراف الأوروبية صاحبة المصلحة الحقيقية في إنهاء هذه الحرب.
ارتباك أوروبا
رحّب كبار المسؤولين الأوروبيين بتصريحات ترمب حول حرب روسيا ضد أوكرانيا. وكتبت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، التي التقت أيضاً بالزعيم الأميركي على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة، أنهما اتفقا على ضرورة خفض عائدات روسيا من الوقود الأحفوري و«القيام بذلك بسرعة». ووعدت بإنهاء مشتريات الطاقة الروسية «بشكل دائم» بحلول عام 2027.
تراقب موسكو الوضع الأوروبي وهي تدرك أن بلدان الاتحاد تواجه صعوبة في التخلي تماماً عن إمدادات الطاقة الروسية. فرغم دعوات الرئيس الأميركي، ترفض المجر التوقف عن شرائها. وهناك العديد من الدول الأخرى التي تعتمد بنسب متفاوتة على واردات الطاقة من روسيا، ولا تبدو مستعدة للعثور على مصادر بديلة سريعاً.
لكن المشكلة الأوروبية لا تقتصر على آليات التعامل مع الموقف الأميركي الجديد.
لقد رمى ترمب بثقل العملية العسكرية برمتها على كاهل أوروبا. ووفقاً لروجر هيلتون، الباحث في شؤون الدفاع في مركز الأبحاث السلوفاكي «غلوبسيك»، فإن «كلمات ترمب بشأن الكرملين مشجعة بحد ذاتها، لكنه يؤكد أن كييف قادرة على إحداث تحول ميداني بدعم من الاتحاد الأوروبي، وليس بالتنسيق مع واشنطن، وهو ما يُضعف، في رأيي، مصداقية هذا التصريح».
كما أن نائبي البرلمان الأوكراني، أوليكسي هونتشارينكو وفولوديمير أرييف، من حزب المعارضة «التضامن الأوروبي»، لا يشاركان التفاؤل الذي أبداه العديد من المراقبين عقب تصريحات الرئيس الأميركي. وكتب هونتشارينكو على قناة «تلغرام»: «تصريح ترمب لا يتعلق بانتصار أوكرانيا، بل يتعلق بغسل يديه من الحرب. إنه يقول بصراحة: تعاملوا مع الاتحاد الأوروبي. أتمنى لكم النجاح. بالتوفيق للجميع».
«اختبار» هجمات المسيّرات
لكن الاستحقاق الأهم الذي تواجهه أوروبا، تمثل في تفاقم الوضع مع اتساع نطاق اختراقات حدودية لمسيّرات مجهولة. ونفت موسكو صحة تقارير غربية اتهمتها بتأجيج الوضع، فيما هددت بولندا باستخدام قدرات عسكرية لمواجهة الموقف، وصعّدت الدنمارك لهجتها متهمة موسكو باستهداف خطير لمنشآت البنى التحتية الحيوية، بينها مطار أوسلو الذي أصابه شلل كامل لساعات طويلة قبل أيام عندما تم تسجيل انتهاك خطير للأجواء بمسيّرات لم يتم تحديد مصدرها.
وبدا أن التدهور المتواصل على خلفية تزايد الانتهاكات الحدودية، بدأ يتخذ أبعاداً أوسع وأخطر، بعد انضمام النرويج والدنمارك إلى لاتفيا وأستونيا وبولندا في اتهام الكرملين بتنظيم استفزاز متعمد.
لا يخفي خبراء أن هذه التطورات قد تكون مرتبطة بمحاولة روسية لجسّ نبض ردود الفعل الغربية، وفحص مستوى جاهزية حلف شمال الأطلسي للتعامل مع احتمالات تطور الموقف بشكل دراماتيكي.
اللافت هنا أن تحليلات الخبراء العسكريين الروس، وتعليقات وسائل الإعلام الحكومية، ركزت على حال الارتباك التي أصابت أوروبا، وأظهرت عجزاً عن مواجهة الموقف. أيضاً تحدثت عن نتائج محددة، بينها مثلاً أن بولندا بعد تشغيل أنظمة الدفاع الجوي لمواجهة 19 مسيّرة الأسبوع الماضي، نجحت بتعاون مع دفاعات دول مجاورة في إسقاط 4 منها فقط.
يعزو خبراء هذا الوضع إلى ضعف جاهزية بلدان الحلف لمواجهة افتراضية مع موسكو أو أي طرف آخر، على رغم أن الحرب على حدود أوروبا مستمرة منذ أكثر من 3 سنوات، وأن بلدان الفضاء الأوروبي ضاعفت الإنفاق العسكري عدة مرات خلال تلك الفترة.
كما تشير تقديرات الخبراء إلى عنصر فريد برز في هذا «الاختبار»، يتمثل في غياب واشنطن عن المشاركة في رد فعل مباشر، على الرغم من انتشار 100 ألف عسكري أميركي مدججين بقدرات هائلة في العواصم الأوروبية تحت لواء حلف شمال الأطلسي.
لكن، هل تحمل الانتهاكات الحدودية مؤشرات إلى احتمال توسيع نطاق المواجهة نحو أوروبا؟
يجيب الجزء الأكبر من الخبراء بالنفي على هذا السؤال. فهذا تحرّك هدفه محدود، وهو يوجّه رسائل جدية إلى أوروبا وإلى واشنطن في ظروف الضغوط المتزايدة على موسكو عسكرياً من خلال زيادة الموازنات الحربية، واقتصادياً عبر التجهيز لرزم عقوبات إضافية، وسياسياً في مواجهة التبدلات المحتملة حيال آليات التوصل إلى تسوية مرضية للكرملين في أوكرانيا.

تصعيد حول مولدوفا
التصعيد المحتمل على الصعيد العسكري يبدو منتظراً على جبهة أخرى تماماً غير أوكرانيا. إذ يميل الوضع حول مولدوفا بسرعة نحو التدهور، مع تفاقم التوتر وتزايد الاتهامات الروسية لهذه الجمهورية التي تؤيد أوكرانيا وتتجه نحو تعزيز اندماجها مع أوروبا في مواجهة سياسات الكرملين.
وتقع مولدوفا جنوب غربي أوكرانيا، وكان ينظر إليها باستمرار كساحة مواجهة محتملة أو منصة لتوسيع المواجهة الجارية في أوكرانيا، خصوصاً أنها محاذية لإقليم أوديسا الذي يصفه سياسيون روس بأنه «ارض روسية» مثل الأقاليم الأربعة التي ضمّتها موسكو في وقت سابق.
وبدا أن تفاقم التوتر الحالي، يرتبط باستحقاق الانتخابات النيابية في هذا البلد، علماً بأن الرئيسة الحالية مايا ساندو قادت سياسة واسعة للتقارب مع أوروبا ورفضت ما وصفته بـ«الطموحات التوسعية» للكرملين.
وكان لافتاً أن موسكو شنّت قبل أيام ضربةً انتقاميةً ضد القوات الأوكرانية في منطقة أوديسا رداً على هجوم أوكراني في شبه جزيرة القرم.
وهذا الربط للهجوم على القرم مع منطقة أوديسا، بدا أنه مرتبط بتطورات الوضع في مولودفا المجاورة، خصوصاً مع صدور تقرير لجهاز الاستخبارات الخارجية الروسي، تحدث عن «سعي الاتحاد الأوروبي لاحتلال مولدوفا».
ورأى التقرير أن جهات أوروبية ستعمل على استخدام قوات عسكرية تابعة لحلف شمال الأطلسي لفرض سيطرة مباشرة في مولدوفا بغضّ النظر عن نتائج الانتخابات البرلمانية.
ووفقاً للتقرير الذي نشرته وكالة أنباء «نوفوستي» الحكومية الروسية، فإن «بروكسل لا تنوي التخلي عن خططها لاحتلال مولدوفا حتى لو لم يتطلب الوضع بعد الانتخابات تدخلاً خارجياً. من المتوقع نشر القوات في وقت لاحق. ولإيجاد ذريعة، يُتوقع القيام باستفزازات مسلحة ضد ترانسنيستريا والقوات الروسية المتمركزة في المنطقة».
وذكر التقرير أنه في إطار التحضيرات لذلك، تتمركز وحدات عسكرية تابعة لحلف الناتو حالياً في رومانيا بالقرب من الحدود المولدوفية. ويُجهّز الاتحاد الأوروبي «قوة إنزال» في منطقة أوديسا لتخويف ترانسنيستريا. وزاد أنه «وصلت بالفعل أول دفعة من العسكريين المحترفين من فرنسا والمملكة المتحدة إلى أوديسا».


