اجتمع باحثون ومفكرون من أوطان عربية وأجنبية في أروقة الجامعة الأنطونية بمنطقة الحدت اللبنانية، ليخوضوا حواراً حول ما ينتظرنا في الغد. كان اللقاء محاولة لالتقاط التحوّلات الكبرى التي تهزّ العالم وتُعيد رسم حدوده. فالأزمات البيئية تتفاقم حتى تُهدّد الحياة على الكوكب، والتكنولوجيا تتسارع بوتيرة تجعل الإنسان يتساءل عن موقعه أمام الآلة، والثقافة تبحث عن معنى جديد في زمن يطغى فيه الاستهلاك على القيمة.
كانت «سرديات المستقبل» عنواناً جامعاً لهذه الندوات، فتناول النقاش مصير الإنسان نفسه، والعلاقة التي تربطه بالأرض والتقنية والمخيال الثقافي. بين جدران «قاعة الأباتي أنطوان راجح»، ارتسمت صورة أولية لعالم يُعاد تشكيله، بكلّ ما يحمله من خوف ورجاء؛ من انهيار مُحتمل وفرص للتجدُّد.
في كلمتها الافتتاحية للندوات، أكدت الدكتورة باسكال لحود أنّ المستقبل أصبح مجالاً تتصارع فيه المصالح وتتنافس فيه الرؤى. وأوضحت أنّ هذه السرديات لا تقوم على أحداث مُنجَزة، وإنما على «عُقد» تفتح مسارات متعدّدة، ويُطلب من المتلقّي أن يشارك في تحديد اتجاهها وتحمُّل مسؤولية نتائجها. ودعت إلى الانتقال من أخلاقيات الاحتمال التي تنظر إلى الماضي، إلى أخلاقيات الإمكان المُرتكزة على القدرة على الاختيار. كما أشارت إلى أنّ الرأسمالية جعلت من المستقبل مورداً أساسياً لها عبر «نبوءات تتحقّق ذاتياً»؛ الأمر الذي يكثّف الحاجة إلى مقاربة نقدية عربية تطرح بوضوح: أي مستقبل نريد أن نصنعه؟

الكوكب: التاريخ رهينة الطبيعة
أولى الجلسات انطلقت من هذا الاستفهام: كيف يمكن للإنسان أن يعيش على كوكب يختنق بفعل يده؟ طرح المتحدّثون مفهوم «الأنثروبوسين»، بكونه العنوان الأكبر لمرحلة جيولوجية جديدة رسمها النشاط البشري على الأرض. فالمسألة تتجاوز التغيُّر المناخي أو التلوّث البيئي، لتغدو تحوّلاً جذرياً يمسّ التوازنات الكبرى، من السياسة والاقتصاد إلى الاجتماع والثقافة.
تطرَّق الحديث إلى بدائل مفهومية ظهرت في السنوات الأخيرة، منها مَن يُحمِّل النظام الرأسمالي مسؤولية الخراب، ومنها ما يُركّز على أثر التكنولوجيا، ومنها ما يضع الكارثة عنواناً دائماً للوجود الإنساني. كلّها مقاربات تُحاول الإحاطة بعمق الأزمة، لكنها تتّفق على حقيقة أنّ بقاء الإنسان مشروط بقدرته على إعادة بناء علاقة متوازنة مع الأرض. عندها، يصبح المستقبل رهاناً فلسفياً وأخلاقياً على مصير الحياة ذاتها، وليس محدوداً بمسار التطوُّر التقني أو الاقتصادي.
التكنولوجيا: «الصندوق الأسود» الذي يكتب غد الإنسان
من الكوكب إلى الآلة، انتقل النقاش إلى الذكاء الاصطناعي؛ ذاك الكائن الجديد الذي يتسلَّل إلى تفاصيل حياة البشر ويعيد رسم الحدود بين الإنسان وما اخترعه. كان السؤال المطروح: أي عالم ينتظر البشرية حين يصبح الذكاء الاصطناعي شريكاً، وربما ندّاً، في اتخاذ القرارات؟
توقّفت المداخلات عند فكرة «الصندوق الأسود»، أي غياب الشفافية عن الخوارزميات التي تُدير العالم، وما يترتَّب على ذلك من مخاطر أخلاقية وسياسية. كيف يمكن أن نثق بآلة لا نعرف آلياتها الداخلية؟ وما الذي يبقى من حرّية الإنسان إن سلَّم زمام مصيره إلى أنظمة لا تُفسِّر ذاتها؟
لكنّ النظرة لم تكن تشاؤمية بالكامل. فالذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون أداة للابتكار والبحث والطبّ والتعليم، شرط أن يُحاط بإطار من القيم الإنسانية. والندوة رأت أنّ الخوف الحقيقي لا يكمن في الآلة وحدها، وإنما في الإنسان الذي يستخدمها بلا بوصلة أخلاقية. من هنا، يصبح النقاش حول التكنولوجيا نقاشاً حول معنى الإنسانية نفسها، وهل نظلُّ أسياداً على اختراعاتنا، أم نصير امتداداً لها؟

الثقافة: مختبر الخيال الإنساني
المحور الثالث حمل روحاً مغايرة. إذا كان الكوكب يُواجه خطر الفناء، والتكنولوجيا تُثير قلق السيطرة، فإنّ الثقافة تُتيح الأمل، أو على الأقل مساحة للتفكير. ولمّا طُرح سؤال عن دور الأدب والإبداع في بلورة نزعة إنسانية مستقبلية، رأى المشاركون في الأدب مختبراً يُجرَّب فيه ما لا يمكن اختباره في الحياة اليومية. النصوص، برأيهم، قادرة على فتح احتمالات متعدّدة، من اليوتوبيا الحالمة إلى الديستوبيا القاتمة، ومن السرد الواقعي إلى التخييل الفلسفي. والأهم أنها تمنح الإنسان فرصة لطرح الأسئلة التي يخنقها التسارع التقني والاستهلاكي، منها: ما معنى الحرّية؟ وما موقع العدالة؟ وكيف نُعيد صياغة الهوية في عالم يتشظّى؟
وبيَّن الحوار أنّ الثقافة العربية، إنْ قُرئت في ضوء التحوّلات البيئية والرقمية، قد تُسهم في إنتاج سرديات بديلة تصنع أفقاً للمستقبل. هنا، يتحوَّل الأدب إلى موقف ضدّ التبسيط، وفضاء يحفظ للإنسان قدرته على الحلم.
في ختام هذه الندوات، بدت المَحاور الثلاثة كأنها خيوط في نسيج واحد. فالكوكب يُطالب بميثاق جديد مع الإنسان، والتكنولوجيا تدعو إلى وعي نقدي يقي من تحوّلها إلى أداة هيمنة، والثقافة تُذكّر بأنّ المعنى تصنعه الكلمة وليس العلم وحده.
وسط اجتماع هذه الأصوات، خرجت صورة للمستقبل لا تنحصر في التوقّعات العلمية ولا فقط في الأرقام. مستقبلٌ يتشكَّل من الطريقة التي نُعيد بها صلتنا بالأرض، ومن حدود السيطرة التي نرسمها للآلة، ومن المساحة التي نتركها للثقافة لتبقى للإنسان قوة السؤال.







