مُحاطة بأسرتها وبهدوء يليق بشخصيتها، انطفأت في ضاحية نيمور، قرب باريس، الممثلة الإيطالية كلوديا كاردينالي عن 87 عاماً. وُلدت كاردينالي في تونس لعائلة من صقلية. وكانت تتكلّم الفرنسية في صغرها وتعلّمت الإيطالية فيما بعد. ظهرت الصبية الخجولة على الشاشة في بدايات الستينات، فلفت جمالها أنظار المخرجين الذين وجدوا فيها امتداداً للنجمات الإيطاليات اللواتي لمعْنَ في السينما العالمية؛ مثل: آنا مانياني، وجينا لولوبريجيدا، وصوفيا لورين.
فيلماً بعد فيلم، وصلت كاردينالي إلى «هوليوود»، وخرجت من أدوار الفتاة البريئة التي يحلم كلّ شاب بأن تكون خطيبته، إلى أدوار الإغراء والأنثى الساحرة. كما اختارها المخرج سيرجيو ليوني لبطولة فيلم «حدث ذات مرة في الغرب» من نوع الكاوبوي؛ إذ تتلقّى رصاصة في بطنها، وتسمع البطل تشارلز برونسون يقول لها تلك العبارة الشهيرة في حوارات الشاشة الفضية: «أنتِ لا تدركين المتعة التي يجنيها الرجل من النظر إلى فتاة مثلك. وإذا خطر ببال أحدهم أن يقرصك فتظاهري بأنه أمر عابر».

وُلدت كلود جوزفين روز كاردينالي في 15 نيسان (أبريل) 1938 في بلدة حلق الواد، في تونس التي كانت لا تزال تحت الحماية الفرنسية. والدها مهندس سكك حديدية، وهي الكبرى بين 4 أطفال. تشرَّبت أشعة الشمس، وكانت طفلة جامحة وجريئة تمتلك كلّ ما يلزمها لتكون سعيدة. لكنها بدأت حياتها ضحية قبل أن تُنهيها منتصرة. تعرَّضت للاغتصاب وهي مراهقة، وكانت النتيجة ولادة طفل حاولت إخفاءه طويلاً؛ إذ زعمت في بدايات عملها الفنّي أنه شقيقها الصغير. فازت بلقب «أجمل إيطالية في تونس» في مسابقة نظّمتها هيئة السينما الإيطالية، وبفضل فوزها دُعيت بوصفها سائحة إلى مهرجان «البندقية السينمائي»، حيث تلقّفها المصوّرون وهتفوا باسمها وهي ترتدي لباس سباحة خاطته أمها.

فرحت الصبية حين حصلت على ظهور قصير مع ممثلين معروفين، من أمثال فيتوريو غاسمان ومارشيلو ماستروياني في فيلم «الحمامة»؛ وكان فيلماً روائياً أرسى قواعد الكوميديا الإيطالية. لكن ما إن انتهى التصوير حتى عادت إلى مدرستها ومستقبلها بكونها معلّمة في إحدى مدارس جنوب تونس. غير أنّ السينما عادت تطرق بابها ثانية، فأدَّت دوراً شهيراً أمام الممثل الفرنسي ألان ديلون في فيلم «روكو وأخوته» للمخرج لوتشينو فيسكونتي، عام 1960. تفاعلت نظرات ديلون الزرقاء النارية مع عينيها السوداوين الكبيرتين، وحقَّق الفيلم رواجاً كبيراً جعل منها نجمة واعدة. كما تشاركت البطولة مع جان بول بلموندو في فيلم «كارتوش» لفيليب دو بروكا عام 1962.
تتالت الأدوار على كلوديا، لا سيما بعد اقترانها بزوجها الأول المنتج فرانكو كريستالدي الذي كان آنذاك صاحب نفوذ كبير، فباتت بطلة في أفلام لمخرجين كبار مثل فيلليني وآبيل غانس وكلود لولوش. كما لبَّت طلبات مخرجين عرب، مثل سهيل بن بركة وفريد بو غدير. وعندما انتقلت إلى العمل في أفلام أميركية في «هوليوود» لم تكن تتكلّم الإنجليزية، فجاءوا لها بمَن يدبلج حواراتها. وكان مواطنها المخرج فيسكونتي يتحدَّث معها بالفرنسية، وأراد لها أن تُبقي شعرها الأسود طويلاً. أما فيلليني فكان ذا نظرة مغايرة؛ إذ طلب منها في فيلم «ثمانية ونصف» أن تقصّ شعرها قصيراً وتصبغه باللون الأشقر.

تعرّفت إلى الروائي الإيطالي ألبيرتو مورافيا الذي دعاها إلى حوارات طويلة نُشرت في كتاب يجمع بين الفنّ والفلسفة والعلاقات بين الجنسَين. بالإضافة إلى ماستروياني وديلون وغاسمان، وقفت أمام بريجيت باردو، وهنري فوندا، وتشارلز برونسون، وجون وين. لكنها رفضت الإقامة في «هوليوود» وفضَّلت عليها باريس.
دعمت كاردينالي الممثلين والمخرجين الشباب، وأسَّست مؤسسة تُعنى بالأطفال في مناطق الحروب. كما ساعدت زملاءها من ضحايا مرض «الإيدز»، ووقفت إلى جانب صديقها الممثل الأميركي روك هدسون وهو على فراش الموت. وبفضل التزامها بالقضايا الإنسانية، اختارتها «اليونيسكو» سفيرة للنيات الطيّبة. ومع تقدّمها في العمر رفضت اللجوء إلى عمليات التجميل، وكانت تُردّد أنّ زيت الزيتون هو مرهمها الوحيد للحفاظ على نقاء بشرتها. ولم تعتزل الشاشة حتى سنواتها الأخيرة. وللاحتفال ببلوغها الثمانين صعدت إلى خشبة «تياترو أوغستيو» في نابولي لتؤدّي دوراً في مسرحية ثنائية؛ لأنّ نابولي كانت مدينة حبيب عمرها وزوجها الثاني الراحل المخرج باسكال سكيتيري الذي عاشت معه 30 عاماً.
وعند إعلان خبر وفاتها في ساعة متأخرة من ليلة الثلاثاء، نعاها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، قائلاً إنّ كلوديا كاردينالي ستبقى في قلوب الفرنسيين. كما نشرت وزيرة الثقافة في الحكومة المستقيلة رشيدة داتي، تدوينة جاء فيها أنّ نظرة كاردينالي وصوتها سكنا إلى الأبد تاريخ السينما.






