التخوين والتنمر… الحرب الخفية على أصوات السودانيين

صناعة وهم تأييد الحرب عبر ترهيب ميداني ورعب إلكتروني

أحد شوارع الخرطوم خلال حرب السودان الدائرة منذ أبريل 2023 (أرشيفية - رويترز)
أحد شوارع الخرطوم خلال حرب السودان الدائرة منذ أبريل 2023 (أرشيفية - رويترز)
TT

التخوين والتنمر… الحرب الخفية على أصوات السودانيين

أحد شوارع الخرطوم خلال حرب السودان الدائرة منذ أبريل 2023 (أرشيفية - رويترز)
أحد شوارع الخرطوم خلال حرب السودان الدائرة منذ أبريل 2023 (أرشيفية - رويترز)

لم يعد السودانيون يميّزون بين دويّ المدافع وضجيج الشتائم، كلاهما يسلب الحياة، وإن اختلفت الأدوات، فمنذ اندلاع الحرب بالسودان في أبريل (نيسان) 2023، تمدّدت الجبهة من الخنادق إلى الهواتف، ومن خطوط التماس إلى قاعات المحاكم، ومن السماء التي تشقّها الطائرات المسيّرة إلى المنصّات الرقمية التي تمطر تعليقات ساخرة وتهديدات بالتخوين والفضيحة.

هكذا نشأت حرب موازية: «حرب على الأصوات»، تريد أن تصنع صمتاً عاماً يُسوَّق بوصفه «تأييداً للحرب»، وأن تحوّل خوف الناس إلى «شرعية» تناسب مَن يقتاتون على طول النزاعات.

في هذه الحرب الموازية، مَن يهمس بالسلام يُتَّهم بـ«التخابر»، مَن يسأل عن مصير المفقودين، يُقدَّم للجمهور على أنه «طابور خامس»، ومَن يختار الصمت يُصنَع منه نموذج للمواطن «العاقل الذي يعرف مصلحته»، مع أن صمته في الحقيقة ليس اقتناعاً، بل رعب.

وبين هذا وذاك، تُمارس آليات يومية دقيقة: اعتقالات ببلاغات فضفاضة، ومحاكمات تُبنى على اعترافات قسرية. وتنمّر إلكتروني ممنهج، يسبق غالباً الاعتقال الفعلي، أو الحملة المشهّرة.

الخوف وصناعة الوهم

في أحاديث الحقوقيين والناشطين يطفو توصيف بات متداولاً: «الخلية الأمنية»، وهي ليست مؤسَّسة رسمية واحدة بقدر ما هي شبكة مترابطة من إسلاميين وعناصر ذات مرجعية إسلامية، ومدنيين يبحثون عن وجاهة أو مكسب أو ليتجنبوا الحساب، ومؤثرين على السوشيال ميديا يوفرون الغطاء الدعائي.

للشبكة التي اسمها «الخلية الأمنية» وظيفة مزدوجة: «على الأرض تدير الاعتقال والتنكيل و(حفلات الإذلال)، وعلى الميديا تنظّم حملات السخرية والتخوين، وتضرب سمعة الضحايا قبل أن يُستدعوا إلى النيابة».

والنتيجة المتوخّاة بسيطة وخطيرة معاً: «إنتاج وهم إجماع، بأن يبدو الشارع كله خلف الإسلاميين، وأن يُوصم أي اعتراض بأنه خيانة». ولا يعود المطلوب إقناع الناس بوجاهة الحرب، بل يكفي أن يخافوا من سؤال أو «إعجاب» أو مشاركة منشور، وأن يشعروا بأن المجتمع كله سيتبرأ منهم إن تحدثوا، فيختارون الصمت؛ والصمت يسوّق تأييداً.

من البيت إلى الزنزانة

عناصر مسلحة في شوارع الخرطوم أغسطس 2025 (أ.ف.ب)

في الخامسة من فجر يوليو (تموز) 2023، داهمت قوة عسكرية منزل المعلم والناشط المدني الشريف الحامدابي في مروي، «غُطيت عيناه، كبّلت يداه ورجلاه، وأُلقي به في صندوق عربة تاتشر (تسمية شعبية للعربة تويوتا رباعية الدفع)».

قال لـ«الشرق الأوسط»، إنه تعرَّض للضرب بالخرطوش، والركل، والحرق بالسجائر في أثناء التحقيق، الذي لم يكن بحثاً عن حقيقة، بل كان بحثاً عن جملة مكتوبة مُسبقاً: «اعترف بأنك دعامي.. أنت من قوى الحرية والتغيير. إذن أنت مع (الدعم السريع)».

5 أشهر من التنقل بين الزنازين تتوَّج بتسجيل اعتراف قسري، لكنه لم يقنع النيابة، فأطلقت سراحه مع التهديد بأنه إذا تكلم فسيعود مرة أخرى للمعتقل. لكنه وما أن خرج لم يجد غير المنفى، يقول الحامدابي: «الخيار كان بين الصمت أو اللجوء، اخترت اللجوء لأستطيع الكلام، فالصمت يساعدهم على العودة».

قصة الحامدابي ليست قصة معزولة، بل هي «الدرس الأول» الذي تُريد الخلية أن يراه الجميع: «شايف.. الكلام بجيب البل» - عبارات دارجة تُستخدَم بكثافة في التعبئة الحربية - فعندما تنشر على المنصّات نسخة مجتزأة من «اعترافاته، يكون قد اكتمل الفعل: ليس المهم ماذا قال، المهم كيف سيشعر المشاهد العادي وهو يقلب هاتفه عند الفجر، قائلاً: يا زول خلّيك بعيد».

الأجساد إلى السلاح

لم تكن المحامية حنان حسن تتخيّل أن ملامح وجهها ستصبح موضوعاً سياسياً، فمنذ عملها في «لجنة مراجعة قانون الأحوال الشخصية» عام 2020، فُتحت عليها أبواب جحيم إلكتروني فصارت: «أم نخرة»، و«العانس». كلمات ووابل من إهانات جسدية وجنسية، تحضر معها جيوش حسابات وهمية وأخرى حقيقية.

ومع اشتعال الحرب، قفز التنمر إلى خانة التخوين: «عميلة، بل حتى عاهرة»، لرسم صورة أن الجسد بذاته دليل على الانحلال، وتصبح صورة امرأة في المرافعة القضائية قرينة على مؤامرة. لاحقاً حُرمت حنان من تجديد جواز سفرها، وبذلك تعذّرت لقاءات الأمومة مع أطفالها اليتامى المقيمين في بلد آخر، ثم انتهى بها الأمر في كمبالا، لكنها لم تفلت من التهديدات.

تقول لـ«الشرق الأوسط»: «عادة أتلقى رسائل تهديد بالقتل والاغتصاب، بعضها ممهور بتوقيع جماعات متطرفة مثل (كتائب البراء ابن مالك)». وتتابع: «لا يستهدفونني وحدي، بل يستهدفون كل امرأة تفتح فمها، يريدوننا دروساً في الصمت».

حفلة بيت الأشباح

الحرب التي تدمر البشر قبل الحجر (رويترز)

في يناير (كانون الثاني) 2025، أُخذت الطالبة الجامعية ضحى شعيب من دار إيواء لنازحين في منطقة كرري بمدينة أم درمان، إلى منزلٍ حوَّله عناصر الخلية الأمنية إلى معتقل غير رسمي، وهناك صودِر هاتفها وأُجبرت على فتحه.

بعد ساعات من ضرب الذكور، سلّموها لمجموعة «نساء مُستنفرات» وقِيل لهن: «اعملوا لها حفلة»، والحفلة - كما هو متعارف عليه - جلسة تعذيب ليلية تُستخدَم فيها الإهانات والتهديدات واللكمات، وربما «التعليق من الأيدي والأرجل».

لم تقصّر المستنفرات، بل أوسعنها ضرباً، وحاولت إحداهن تشويه وجهها، وسط التهديد بمواجهة الإعدام، لاحقاً وُجِّهت لها تهمٌ بـ«تقويض النظام الدستوري، وتهديد الأمن والسلامة، والتعاون مع (الدعم السريع)، وجرائم ضد الإنسانية».

أمضت الطالبة الصغيرة 6 أشهر بين بيوت التعذيب والتحقيق و«سجن أم درمان»، قبل أن تُشطَب قضيتها لعدم كفاية الأدلة، لكن شطب القضية لم يكن شطباً للخوف داخلها، فقد عرفت أن النيابة استأنفت الحكم.

غادرت ضحى البلاد هرباً بمعاونة صديقاتها إلى أوغندا. وقالت لـ«الشرق الأوسط»: «كنت أظن البراءة نهاية القصة، فعرفت أن الاعتقال ينتظرني عند أول نقطة تفتيش».

نساء على حبل المشنقة

ويقول محامٍ، طلب عدم ذكر اسمه: «في داخل السجون تنام نساء بأحكام إعدام أو مؤبد، بعضهن مع أطفال يدخلون ويخرجون بعيون لا تفهم، وأخريات وحيدات ينتظرن تنفيذ القرار». إحداهن حُكم عليها بالإعدام، فقط لأن زوجها أرسل لها حوالة عبر تاجر صغير في منطقة تغيّرت السيطرة عليها، لم يسلمها المبلغ، بل انتقم منها و«وشى بها على أنها متعاونة» مع العدو.

وطبيبة ظلت 9 أشهر رهن الاعتقال لأن عيادتها كانت في منطقة تحت سيطرة «قوات الدعم السريع». قالت في التحقيق: «أنا أعالج المرضى أياً كانوا، هذا واجبي»، فقيل لها: «تعطيهم الدواء ليرجعوا فيحاربوننا». في لحظة مثل هذه، يتحوَّل الطب إلى تهمة، والواجب المهني إلى دليل على الخيانة.

شهور في العدم

الأطباء أيضاً يتعرضون للاختطاف والتعذيب (منظمة الصحة العالمية)

عند نقطة ارتكاز في مدينة دنقلا بشمال البلاد، أُوقِف 3 شباب كانوا عائدين من عمل شاق في التنقيب عن الذهب في مناجم داخل مصر، تنقلوا بين مراكز اعتقال مختلفة في مدينة مروي. أمضوا 11 شهراً دون محاكمة، ودون استحمام، وصار القمل يسير على أكتافهم، وتقطعت ملابسهم على أجسادهم، حتى استطاع محامٍ لقاءهم.

قال أحدهم وهو ينظر إلى قميصه البالي: «هذه هي الفنيلة - تي شيرت - التي قبضوني بها من 11 شهراً، لم أنزعها أو أغسلها، وأهلي ما عارفين عني حاجة».

لاحقاً ستُلغى الأحكام على الشباب الثلاثة في الاستئناف لغياب البيانات، لكن ماذا بعد الحرية؟ «لا أوراق، لا مال، لا مكان، سينامون في المساجد»، حتى عثروا على رجل تبرع بإعادتهم إلى ذويهم، «سيبقون في ذاكرة مَن رآهم، 3 ظلال خرجت من العدم وعادت إليه».

فائزة وصباح وبشارةفي بلدة القرير أُوقفت الشابة فائزة، وهي عروس جاءت من الخرطوم لتلتقي زوجها بشارة العائد من مصر. أُبلغ زوجها باعتقالها، وعند وصوله عصبوا عينيه هو الآخر، وظلّ حبيساً إلى أن أطلقوا سراحه، وأبلغوه بأن زوجته أُرسلت إلى مكان معين، لكنه لم يجدها فيه.

ذهب إلى سجن مروي حيث نُقلت عروسته إلى هناك، وقبل أن يراها سمع أولاً «صوت الجنازير»، دخلت فائزة ببطء لأن القيود الثقيلة تقيد حركتها. انفجر بشارة بالبكاء وهو يُمسك بيديها التي تكافح الحديد، فتبكي هي الأخرى حتى ينقطع نفسها، وهنا يعلن الحارس انتهاء الزيارة فتجرجر جنازيرها عائدة.

تعرفت العروس في السجن على صباح الممرضة، وزوجها فني الأكسجين، اللذين سبقاها إلى الزنزانة، برّأت المحكمة لاحقاً العروس فائزة والممرضة صباح. خرجت الأولى مع زوجها إلى اللجوء بعيداً، أما صباح فكانت لديها رغبة واحدة: «أن تعرف مصير زوجها.

وظلت تطرق أبواب النيابة، وتسمع أخباراً مطمئنة، ثم يأتي اليوم الذي تُبلَّغ فيه بأن زوجها مات في المعتقلات منذ 6 أشهر. تلتفت من حولها فلا تجد إلا نسوة أخريات ينتظرن أخباراً لا تأتي.

محامية في مرمى الهدف

المحامية ازدهار جمعة وهي مغمى عليها وملقاة على الأرض في الصحراء (متداولة)

تجسِّد قصة المحامية أزدهار جمعة ذروة هذا الخط البياني: «من قاعة الدفاع إلى سرير العمليات، ومن نصّ القانون إلى الاعتراف الجاهز». بدأت حكايتها من قاعدة أصولية حفظها طلاب القانون: «المتهم بريء حتى تثبت إدانته»، واختارت أن تعمل حيث تشتد الريح: «قضايا التخابر وتقويض النظام، الدفاع عن متهمين تصّر النيابة أنهم خطر على الدولة».

تقول لـ«الشرق الأوسط»: «لا أستطيع أن أترك إنساناً في محنة وأنا قادرة على العون. التقاعس خيانة للمهنة». لم يكن هذا النوع من الدفاع مُرحَّباً به، ففي إحدى المرات أصدر شخص أمر قبض بحقها، بعد أن زعموا أن في هاتفها رسائل تدينها، لكن المشكلة أن الهاتف كان قد نُهب منها يوم اختطافها.

في يوم الاختطاف أُغلق الطريق بقوة مسلحة من الجهتين، ضُربت حتى تكسّرت عظام يديها. المهاجمون حاولوا فقء عينيها، ثم رميت في صحراء وسط جبال «وادي الضباع»، وعثر عليها معدّنون أهليون، ثم لفوها ببطانية لنقلها.

تقول: «كان الألم لا يُطاق، كلما احتكّت العظام المكسورة أصرخ»، ثم نقلوها إلى مدينة كريمة «المستشفى الصيني»، وخضعت هناك لعملية استغرقت 12 ساعة. خلال ذلك كانت رسائل تصل إلى بريد النيابة من خاطفيها أنفسهم: «افتحوا ضدها بلاغاً تحت المواد (51/50/26) من القانون الجنائي، وإلا سنقوم بتصفيتها داخل المستشفى».

بعد 8 أيام يصل خطاب يطلب فتح بلاغات ضدها، فتتحرك وكيلة نيابة - من تنظيم إسلامي معروف - لمخاطبة النائب العام برفع الحصانة عنها، ليوافق ويخاطب نقابة المحامين، فتمنح إذن المقاضاة دون أن تكلف نفسها سؤال صاحبة الشأن.

تتوالى المفارقات في حكاية ازدهار، تقول: «الجهاز نفسه الذي غطى على واقعة الاعتداء، بات الآن هو الاتهام، والهاتف المنهوب يعاد للنيابة مع إضافة محتويات تناسب التهمة الملفقة»، ثم يَظهر ضابط سبق أن هدّدها بالتصفية في حوادث كريمة، ليعترف علناً: «هسه بخش بصفيها جوه».

تواجه ازدهار مشهداً دراماتيكياً في المحاكم: «أفراد يملأون القاعات، شهود يُعتَقلون عند الأبواب، محامون يُؤمرون بالجلوس (تحت) في غرف التحقيق، سيارات قتالية مزوّدة برشاشات الدوشكا قبالة السلالم».

وتقول ازدهار: «القانون صار ديكوراً لإخفاء العصا». دفعت أسرة ازدهار أثماناً مركبة: زوج يترك عمله ليلازمها، ابن يودّع دراسة الطيران ليحرسها في الطريق، أخت تُفصَل عن العمل، وأطفال يدخلون ويخرجون في بيتٍ لم يعد بيتاً، ومع ذلك تقول بجملة تكرّرها كثيراً: «انسحاب وين؟ قدّام بس».

التشهير الإلكتروني

في العالم الموازي، حيث تلمع الشاشات الصغيرة، تُدار الحملة بذكاء: حسابات وهمية ترمي الطعم، مؤثرون يلتقطون مقطعاً مبتوراً ويُضيفون عليه قصة جاهزة، صفحات محلية تعيد توزيع المادة 100 مرة، وتكفي عشرات التعليقات التي تكرّر كلمات: «دعامة»، و«خونة»، و«قحاتية»، لتخلق انطباعاً بأن الناس مقتنعون.

يصف مهندس معلوماتية من الخرطوم، طلب عدم ذكر اسمه، المشهد: «هناك منشورات واضحة، ومجموعات ولجان تحرّك الوسوم، لكن الأخطر الحسابات الحقيقية التي ترفع معنوياً وتحفِّز المتنمرين، وتظهرهم كأنهم مقاومة وطنية، وخلط متعمّد بين النقد المشروع والتحريض على الأذى».

ويضيف: «الهدف ليس فقط إحراج الضحية، بل تهيئة الأرضية للاعتقال، وعندما يصل الاستدعاء أو المداهمة يكون الرأي العام قد أُعِد للتقبل سلفاً». ويستطرد: «لن يتعاطف كثيرون مع مَن رأوه لأيام يُجلد على المنصات بالسخرية والتخوين».

إعدامات خارج القانون

مظاهر التسلح تنتشر في العاصمة الخرطوم (أ.ف.ب)

في أواخر مارس (آذار) 2025، وثَّقت منظمات ومحامون عمليات قتل خارج نطاق القضاء في أحياء بري والجريف والصحافات ومايو والكلاكلات في الخرطوم، ومشاهد صادمة في مدن أخرى، من بينها إلقاء شاب من أعلى «جسر حنتوب» في ود مدني وهو مقيّد، ثم إطلاق النار عليه، وجثامين «تشخر» والدم يسيل من أعناقها التي ذبحت ولم يحسن الذبح... وبالطبع هذه مشاهد تجعل من الصمت خياراً «حكيماً».

يقول محامٍ، هذه ليست «فلتات» غضب، بل ممارسة متكررة رافقتها حملة دعائية تبررها. ويتابع: «عند هذه النقطة تتجاوز الانتهاكات عتبة الجريمة الفردية، إلى جرائم حرب وفق اتفاقات جنيف، بل إلى جرائم ضد الإنسانية عندما تصاغ في نمط عام».

مشروع سياسي

يقول الأكاديمي السوداني الدكتور أبو بكر شبو لـ«الشرق الأوسط»، إن ما يحدث ليس انحرافاً طارئاً، بل مشروع يستثمر الحرب، لاستعادة سلطة عرفت كيف تدير المجتمع بالخوف.

ويذكّر بمفاخرة الرئيس المخلوع عمر البشير بأنه صانع «الدعم السريع»، بينما هو ورجال نظامه ينعمون الآن بامتيازات رفاهية، في حين يساق مواطنون بسطاء إلى مشانق ومحاكمات صورية لأنهم «ظلّوا» في بيوتهم عندما تبدَّلت السيطرة.

وبحسب الأكاديمي، فإن هذا التحليل يعطي معنى لاستخدام تعبيرات مثل «قانون الوجوه الغريبة» الذي يعرّفه بأنه «قانون غير مكتوب، لكنه فاعل، يتيح الشك في كل قادمٍ من حيّ أو ولاية، ويُحوّل بطاقة الهوية ومكان الإقامة إلى قرينتين على الولاء». ويقول: «ليس القصد أمناً، بقدر ما هو إرهاب مدنيين ومنع تشكّل كتلة رافضة للحرب».

استراتيجية التخوين

يؤكد بعض علماء النفس أن «الخوف يسبق التفكير»، لذلك عندما يرى الناس محامياً يسحب إلى عربة «بوكس» فقط لأنه دافع عن متّهم، أو شاهِداً يُعتَقل بعد أن قال كلمته في القاعة، أو محاميةً تُكسر ذراعاها وتُرمى في الصحراء، ثم تُلاحق بتهم «تقويض النظام»، يتعلمون الدرس: «ابعد عن الشر وغني له».

وعندما تتكرر هذه اللقطات على «فيسبوك» و«تيك توك» و«تويتر» مصحوبة بضحكاتٍ مكتوبة وإيموجيات ساخرة، يتكون مناخ عام يقول: «أحسن تسكت».

ويقول ناشط: «ينتج وهم الإجماع هكذا... الصامتون - وهم الأغلبية - يُسوَّقون كأنهم مؤيدون. المنخرطون في الحملات الإلكترونية يُقدَّمون بوصفهم صوت الشعب. المعترضون يخوَّنون، والنتيجة السياسية واضحة: إطالة عمر الحرب، وإضعاف أي مبادرة للسلام، وإعادة تدوير سلطات تتغذّى على زمن الطوارئ».

أين العدالة؟

ثمة قضاة شجعان، بشهادات محامين، يتركون للمتهمين مساحة دفاع حقيقية، وتأتي أحكامهم منضبطةً للنصوص، لكن ثمة أيضاً محاكمات تُبنى على أوراق خاوية واعترافات مُنتزعة بالترهيب والتعذيب.

وبموازاة ذلك، يطرح حقوقيون توصيات عملية: «عدم قبول أي اعتراف قضائي بعد احتجاز طويل دون ضمانات، حظر استخدام محتويات الأجهزة المصادَرة ما لم تُراعَ إجراءات السلسلة والحيازة، تمكين المتهم من محامٍ منذ لحظة القبض عليه، حماية الشهود ومنع اعتقالهم بعد الإدلاء بإفاداتهم، وإبعاد المسلحين عن محيط المحاكم».

أما نقابة المحامين فمطالبها أكبر من بيانات، تقول محامية لـ«الشرق الأوسط»: «لا بد من انتخابات حرّة تعيد للنقابة شرعيتها واستقلالها، ومن آلية طوارئ قانونية للدفاع عن أعضاء المهنة الذين أصبحوا هدفاً مباشراً».

درس قصة ازدهار

أرغمت الحرب السودانية آلاف الأسر على الفرار من مساكنها واللجوء إلى المخيمات (رويترز)

تضع قصة ازدهار جمعة كل الخيوط على الطاولة: «محامية تؤمن بأن المتهم بريء، تُدافع عن العروس والممرضة، وتبكي مع الشباب الثلاثة، وتواجه رجالاً يبتسمون أمام صرخات العظام المكسورة، ثم تجد نفسها في قلب ماكينة تريد أن تقنع الناس بأن مَن يُدافع عن القانون عدوّ الدولة».

وقال ناشط حقوقي: «إن لم يقف المدافعون في وجه التخوين اليوم، فلن يجدوا غداً مَن يقف معهم عندما تتبدَّل الأدوار». ويتابع: «إن تُركت الساحة للتنمر الإلكتروني والاعتقالات الاستعراضية، فسيتحوّل المجتمع كله إلى قاعة محكمة ذات قاضٍ واحد وميكروفون مفتوح، مَن يصرخ أعلى يفز».

الخوف أطول عمراً من الرصاص

ما يجري في السودان ليس فقط حرباً على الأرض، بل حرب على الكلمة، تُستعمَل فيها أدوات ناعمة وخشنة: من بوست (منشور) مسيّس إلى حفلة تعذيب، من سيارة بوكس دون لوحات إلى تريند على (تيك توك)، من اتهامٍ بالتخابر إلى رصاصٍ يُطلَق على مقيّد يُرمى من أعلى جسر.

والقاسم المشترك: «إسكات الأصوات وصناعة صمت، يباع للعالم بوصفه تأييداً، ولأن الخوف لا يرى ولا يحصى، فهو أطول عمراً من أي هدنة، وأقوى من أي بندقية».

ويضيف الناشط الحقوقي: «كسر هذه الحلقة يبدأ من الاعتراف بأن التنمر الإلكتروني ليس مزاحاً، وأن التخوين ليس حماساً وطنياً، وأن العدالة ليست ورقة تُملأ، بل شبكة ضمانات تحمي الإنسان عندما يُصبح الجميع ضده».

ويقول محامٍ: «الأمر يبدأ من حماية المحامين والشهود، ومن وضع حدودٍ صلبة لعسكرة القضاء، ومن استعادة النقابات والمجتمع المدني أدواراً أفرغتها الحرب من معناها».

ويتابع: «عندها فقط يمكن أن تعود الكلمات إلى أماكنها، ويصبح الاتهام اتهاماً يُثبت أو يُلغى، والاختلاف يصبح اختلافاً يُحترَم، والسخرية تعود فنّاً لا أداة قتل معنوي». ويستطرد: «عندها فقط يمكن أن تُقاس المعارك بخرائط أخرى، مثل خريطة تُظهر كيف استعاد المجتمع صوته، وكيف صار الكلام - مرة أخرى- حياة».


مقالات ذات صلة

رئيس الوزراء السوداني يطرح «مبادرة سلام» أمام مجلس الأمن

شمال افريقيا رئيس وزراء السودان كامل إدريس (إ.ب.أ)

رئيس الوزراء السوداني يطرح «مبادرة سلام» أمام مجلس الأمن

قال رئيس الوزراء السوداني كامل إدريس أمام مجلس الأمن الدولي الليلة الماضية إن السودان يواجه «أزمة وجودية» بسبب الحرب بين الجيش و«قوات الدعم السريع».

«الشرق الأوسط» (الخرطوم)
شمال افريقيا جنود تابعون للجيش السوداني في شوارع مدينة القضارف شرق السودان في 14 أغسطس 2025 احتفالاً بالذكرى الحادية والسبعين لتأسيس الجيش (أ.ف.ب)

السودان: نزوح من كادوقلي جراء تصاعد العمليات العسكرية

نزحت عشرات العائلات السودانية، من مدن كادوقلي والدلنج في ولاية جنوب كردفان، مع تمدد «قوات الدعم السريع» وسيطرتها على البلدات المجاورة.

محمد أمين ياسين (نيروبي)
خاص روبيو في حديث هامس مع الرئيس ترمب خلال طاولة مناسبات سابقة (أ.ف.ب) play-circle 00:57

خاص 10 أيام فاصلة... ما ملامح خطة أميركا لوقف حرب السودان؟

وضعت واشنطن مدى زمنياً من 10 أيام لتثبيت هدنة إنسانية في السودان، مع بداية العام المقبل وقال وزير خارجيتها مارك روبيو إن 99% من التركيزالآن لتحقيق هذا الغرض

محمد أمين ياسين (نيروبي)
شمال افريقيا خبراء يقولون إن الأسلحة عالية التقنية التي تستخدمها قوات الدعم السريع تحتاج إلى مساعدة خارجية لتشغيلها (أ.ف.ب) play-circle

تقرير: شركات في بريطانيا تجنّد مرتزقة كولومبيين لصالح «الدعم السريع»

كشف تحقيق حصري لصحيفة «الغارديان» عن وجود شركات مسجلة في بريطانيا أسسها أشخاص خاضعون لعقوبات أميركية، يُشتبه في تورطها بتجنيد مقاتلين لصالح «قوات الدعم السريع».

«الشرق الأوسط» (لندن)
شمال افريقيا رئيس وزراء السودان كامل الطيب إدريس خلال إلقاء كلمته حول الأزمة السودانية على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة (إ.ب.أ) play-circle

رئيس وزراء السودان يتوجه إلى نيويورك للقاء مسؤولين في الأمم المتحدة

توجّه رئيس الوزراء السوداني، كامل إدريس، إلى نيويورك للاجتماع بالأمين العام للأمم المتحدة ومسؤولين آخرين ومناقشة سبل تسهيل وصول المساعدات الإنسانية.

«الشرق الأوسط» (بورتسودان)

ليبيا: «مفوضية الانتخابات» تعتمد نتائج «مجالس بلدية»

مركز العد والإحصاء بمفوضية الانتخابات (مكتب المفوضية)
مركز العد والإحصاء بمفوضية الانتخابات (مكتب المفوضية)
TT

ليبيا: «مفوضية الانتخابات» تعتمد نتائج «مجالس بلدية»

مركز العد والإحصاء بمفوضية الانتخابات (مكتب المفوضية)
مركز العد والإحصاء بمفوضية الانتخابات (مكتب المفوضية)

أعلنت المفوضية الوطنية العليا للانتخابات في ليبيا اعتماد نتائج المرحلة الثالثة من انتخابات المجالس البلدية، التي شملت 9 بلديات، كما ألغت نتائج بعضها بعد ثبوت «خروقات ومخالفات».

وقالت المفوضية في بيانين منفصلين، الثلاثاء، إنها اعتمدت نتائج 9 بلديات يقع معظمها في شرق البلاد (طبرق، وقصر الجدي، وبنغازي، وتوكرة، وقمينس، وسلوق، والأبيار)، بينما تقع «سرت» في الوسط، و«سبها» في الجنوب الغربي، وهي مناطق تخضع فعلياً لسيطرة «الجيش الوطني»، بقيادة المشير خليفة حفتر، وحكومة أسامة حماد.

وأوضحت المفوضية أن هذا القرار جاء بعد استكمال مركز العد والإحصاء إدخال استمارات النتائج كافة، الواردة من مكاتب الإدارة الانتخابية، وفق أعلى معايير الشفافية والدقة، وبعد فصل المحاكم الجزئية في الأحكام المتعلقة بالطعون الانتخابية.

كما قررت المفوضية إلغاء النتائج في 4 مراكز اقتراع ببلدية سرت، ومركز اقتراع واحد ببلدية الأبيار، استناداً إلى المادة (34) من اللائحة التنفيذية، بعد ثبوت خروقات ومخالفات في تلك المحطات؛ مؤكدة أن هذا الإجراء يستهدف حماية إرادة الناخبين، وضمان الشفافية وتكافؤ الفرص، مع بقاء نتائج المحطات الأخرى سارية.

في شأن مختلف، أعلنت وزارة العدل بحكومة «الوحدة» المؤقتة أنها بصدد دراسة إغلاق ودمج بعض السجون، في إطار حرصها على متابعة ملف حقوق الإنسان، وترسيخ مبدأ سيادة القانون، ووفقاً لما نصَّ عليه القانون الخاص بمؤسسات الإصلاح والتأهيل.

وأكدت الوزارة في بيان مقتضب، مساء الاثنين، أن هذه الخطوة تأتي ضمن مراجعة أوضاع السجون، وتحسين آليات العمل، بها بما ينسجم مع التشريعات النافذة.

من حملة الانتخابات البلدية (المفوضية)

وعدَّت «المؤسسة الليبية لحقوق الإنسان»، في بيان الثلاثاء، أن هذا البيان «لا يعدو كونه شكلياً». وقالت: «إن المؤسسات الحقوقية تُمنع من إجراء زيارات دورية تفقدية إلى السجون».

وتواجه أوضاع السجون في ليبيا تحديات كبيرة، مثل الاكتظاظ، والانتهاكات الموثقة دولياً، مع سيطرة لوزارة العدل على مرافق عدة تتجاوز 20 سجناً رسمياً وشبه رسمي، إضافة إلى مراكز احتجاز غير رسمية. وتعكس هذه الخطوة استجابة حكومة «الوحدة» للضغوط الدولية، وتتقاطع مع ما ورد في إحاطة المبعوثة الأممية، هانا تيتيه، أمام مجلس الأمن الدولي مؤخراً، التي شدَّدت فيها على أن إصلاح قطاع العدالة ومعالجة الاحتجاز التعسفي يمثلان ركيزتين أساسيَّتين لبناء الثقة والاستقرار.

في غضون ذلك، أعلنت «قوة حماية طرابلس»، أحد التشكيلات المسلحة البارزة في العاصمة، دعمها الكامل لـ«الحراك الشعبي»، الذي انطلق من مدينة مصراتة، ووصفته بـ«الانتفاضة ضد السنين العجاف من الفساد المستشري والمحسوبية والظلم». وحذَّرت «القوة» من أي محاولات لقمع الانتفاضة، مؤكدة أنها ستكون «السد المنيع» لحماية إرادة الشعب.

وتعدّ «قوة حماية طرابلس» تحالفاً مسلحاً تَشكَّل نهاية عام 2018، ورغم غيابها النسبي عن المشهد مؤخراً، فإنها تسعى عبر هذا البيان لإعادة التموضع، وتنشيط دورها في التوازنات الأمنية بالعاصمة.

صورة وزَّعها مجلس النواب لاجتماع لجنته التشريعية لبحث زيادة رواتب «الجيش الوطني» بشرق ليبيا

وفي شأن يتعلق بالمؤسسة العسكرية، ناقشت اللجنة التشريعية والدستورية بمجلس النواب، في اجتماع بمدينة بنغازي، مشروع قانون زيادة رواتب منتسبي «الجيش الوطني» لدعم المؤسسة العسكرية وتحسين أوضاع أفرادها.

وطبقاً لوسائل إعلام محلية، أحال رئيس المجلس، عقيلة صالح، مشروع قانون تعديل مرتبات وعلاوات منتسبي الجيش إلى اللجان المالية والتشريعية والتخطيط؛ لإدراجه بجدول الأعمال في أقرب جلسة نظراً لأهميته.


استقالة الأمين العام لـ«اتحاد الشغل التونسي» قبل إضراب مرتقب

نور الدين الطبوبي الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل (إ.ب.أ)
نور الدين الطبوبي الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل (إ.ب.أ)
TT

استقالة الأمين العام لـ«اتحاد الشغل التونسي» قبل إضراب مرتقب

نور الدين الطبوبي الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل (إ.ب.أ)
نور الدين الطبوبي الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل (إ.ب.أ)

قالت مصادر نقابية تونسية إن نور الدين الطبوبي، الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، ​الذي يحظى بنفوذ كبير في البلاد، قدَّم استقالته، اليوم (الثلاثاء)، وذلك قبل شهر من الإضراب المرتقب على مستوى البلاد؛ بسبب حملة الرئيس قيس سعيد المتصاعدة ضد المعارضة، بحسب ما أورده تقرير لوكالة «رويترز» للأنباء.

وقال الأمين العام المساعد والناطق الرسمي باسم الاتحاد، سامي الطاهري، في تصريح صحافي، إنّ الطبوبي أودع صباح اليوم (الثلاثاء) استقالته بمكتب الضبط، وقد تسلّمها الأمين العام المساعد المكلّف النظام الداخلي، دون أن يقدِّم تفاصيل بشأن دوافع هذه الخطوة.

وبيَّن الطاهري أنّ الاستقالة لا تُفعَّل بشكل فوري، لأن القانون الداخلي للاتحاد ينصُّ على دعوة المعني بالأمر خلال 15 يوماً للاستفسار عن أسباب استقالته، ومحاولة ثنيه عنها، ثم تصبح نافذةً في حال تمسّكه بها.

وأشار إلى أنّ لقاءات عدة ستعقد خلال الأيام القليلة المقبلة داخل الهياكل النقابية لتدارس الخطوات، التي سيتم اتخاذها تباعاً، في ظلّ التطورات الأخيرة.

وكان الصحافي المختص في الشؤون النقابية، سفيان الأسود، قد أكّد أنّ «استقالة الطبوبي أصبحت رسمية باعتبار أنّه قدّمها لمكتب الضبط المركزي، وهي في انتظار أن تأخذ المجرى القانوني، وتفعيلها بالقبول أو بالرفض»، وفق تعبيره.

وأوضح الأسود، في تدوينة نشرها على حسابه الرسمي بموقع «فيسبوك»، أن استقالة الطبوبي تطور لافت في مسار الأزمة التي يعيشها الاتحاد منذ انعقاد المجلس الوطني الأخير بالمنستير. وختم الأسود تدوينته بالتنبيه إلى أن هذه الخطوة مرشحة لتعقيد الوضع أكثر داخل المنظمة، وقد تسهم في تعميق الخلافات والانقسامات داخل هياكلها القيادية.

يشار إلى أنّ الطبوبي كان قد هدَّد بتقديم استقالته منذ مدّة، وأيضاً بعد الاجتماع الأخير للهيئة الإدارية الوطنية. وقد يؤدي رحيل الطبوبي إلى إضعاف الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي ‌يُنظر إليه ‌على نطاق واسع ‌على ⁠أنه ​آخر معقل ‌قوي للمجتمع المدني الديمقراطي في تونس. ولم يصدر «الاتحاد» أي تعليق فوري بعد على ما تردد عن رحيل الطبوبي.

وكان الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي يضم مليون عضو ولعب دوراً رئيسياً ⁠في الانتقال الديمقراطي في تونس بعد عام ‌2011، ينتقد ما يعدّه تحولاً متسارعاً للرئيس قيس سعيد نحو الحكم المتفرد. وقد دعا قبل أيام إلى إضراب في أنحاء البلاد في 21 يناير (كانون الثاني) المقبل، احتجاجاً على حملة الرئيس المتصاعدة ضد منتقديه، والمطالبة بالتفاوض على الأجور. ويقول منتقدو ⁠الرئيس سعيد إن الاعتقالات، التي طالت قادة المعارضة وجماعات المجتمع المدني والصحافيين تؤكد التحول الذي اتخذه الرئيس منذ توليه سلطات استثنائية في 2021 ليحكم بمرسوم. في حين يقول الرئيس سعيد إنه تولى صلاحيات أوسع للقضاء على الفساد المستشري وسوء الإدارة. لكن المعارضة تصف قراراته بأنها «انقلاب». وأدى التضخم المرتفع، ونقص بعض السلع الأساسية، وسوء الخدمات العامة إلى تأجيج الاستياء، ‌واندلاع موجة من الاحتجاجات في الشوارع.


الجزائر: مسؤول يهوّن من المخاوف بشأن «إسقاط الجنسية» عن المعارضين

وزير العدل (وسط) مع البرلماني صاحب مقترح تعديل قانون الجنسية (البرلمان)
وزير العدل (وسط) مع البرلماني صاحب مقترح تعديل قانون الجنسية (البرلمان)
TT

الجزائر: مسؤول يهوّن من المخاوف بشأن «إسقاط الجنسية» عن المعارضين

وزير العدل (وسط) مع البرلماني صاحب مقترح تعديل قانون الجنسية (البرلمان)
وزير العدل (وسط) مع البرلماني صاحب مقترح تعديل قانون الجنسية (البرلمان)

تزامناً مع إعلان البرلمان الجزائري تنظيم جلسة تصويت، الأربعاء، على نصّين يثيران جدلاً واسعاً، يتعلقان بـ«تجريم الاستعمار» و«سحب الجنسية من المعارضين»، هوَّن مسؤول حكومي رفيع من المخاوف المرتبطة بالنص الثاني، مؤكداً أنه «لا يستهدف أصحاب الرأي المخالف»، بل أولئك الذين «تثبت بحقهم تهمة الخيانة العظمى».

وإذا كان الجدل الدائر بشأن مقترح قانون تجريم الاستعمار الفرنسي في الجزائر (1830 - 1962) يثير حفيظة قطاع من الطيف السياسي الفرنسي، لا سيما اليمين التقليدي، فإن هناك إجماعاً واسعاً في الجزائر على تسريع وتيرة إصداره، ونشره في الجريدة الرسمية، في خطوة مرتبطة بالتوترات القائمة مع باريس، التي كانت اندلعت صيف عام 2024 على خلفية اعترافها بسيادة المغرب على الصحراء. وقد شهدت هذه التوترات مع مرور الوقت تصعيداً خطيراً، ظل ملف الاستعمار وما تُعرف بـ«آلام الذاكرة» في صلبه.

البرلمان الجزائري (البرلمان)

وعشية اجتماع مكتب «المجلس الشعبي الوطني» لضبط أجندة التصويت على المقترحَين، سعى وزير العدل، لطفي بوجمعة، في تصريحات أمام النواب، إلى التخفيف من المخاوف المرتبطة بنص تعديل قانون الجنسية الذي تقدم به هشام صيفر، النائب عن حزب «التجمع الوطني الديمقراطي» المؤيد لسياسات السلطة التنفيذية، حيث شدد على أن «المعارضين أصحاب الرأي المخالف للحكومة الذين يوجدون في الخارج، غير معنيين بإجراءات التجريد من الجنسية» المتضمنة في النص الذي يحظى بتأييد غالبية الكتل البرلمانية.

وقال الوزير إن النص، الذي أثار كثيراً من الانتقادات، «يتضمن ضمانات صارمة تهدف إلى تأطير إجراءات إسقاط الجنسية، من خلال تحديد الحالات التي يمكن فيها تطبيق هذا الإجراء بشكل واضح ودقيق». مؤكداً أن التعديلات المقترحة «تنص على تعزيز الإطار القانوني، إذ تشترط توفر أدلة ملموسة ومعطيات ثابتة تثبت ارتكاب أفعال خطيرة».

كما تتناول، وفق قوله، استحداث «لجنة مختصة»، تتولى دراسة ملفات سحب الجنسية «بطريقة موضوعية ومحايدة»، من دون أن يذكر هوية الأشخاص الذين ستُسند إليهم عضوية هذه «اللجنة». وأوضح الوزير أيضاً أن مقترح تعديل القانون يتضمن تدابير «تتيح للشخص الذي أُسقطت عنه جنسيته إمكانية استرجاعها في ظل شروط معينة، بما يمنحه فرصة ثانية قبل أن يصبح القرار نهائياً».

«نظام إنذار» يسبق إسقاط الجنسية

من جانبه، صرَح النائب هشام صيفر بأن المقترح الذي تقدم به «يحترم بدقة (المادة 36) من الدستور، ولا يتعارض مع القانون الدولي». وتفيد المادة الدستورية بأن «شروط اكتساب الجنسية الجزائرية، والاحتفاظ بها، وفقدانها أو سحبها، تُحدَّد بمقتضى القانون».

ووفق صيفر فإنه لا تطبق إجراءات التجريد من الجنسية «إلا على المواطنين الجزائريين الذين تتوفر بحقهم أدلة قوية ومتماسكة تثبت ارتكابهم خارج التراب الوطني أفعالاً خطيرة محددة قانوناً، واستمرارهم في ارتكابها رغم توجيه إنذار رسمي من قبل الحكومة». وأشار إلى أن النص يشمل «نظام إنذار، وهو آلية تتيح للشخص المعني التراجع عن أفعاله، قبل اتخاذ قرار إسقاط الجنسية؛ مما يشكل ضمانة إضافية لتحقيق العدالة»، وفق تصريحات البرلماني، الذي لفت إلى إدراج شرط في النص يقضي بعدم جواز إسقاط الجنسية الأصلية عن أي شخص لا يحمل جنسية أخرى؛ تفادياً لحالات انعدام الجنسية، مع استثناءات محددة تتعلق بالجرائم الخطيرة، مثل الخيانة والتجسس لمصلحة دولة أجنبية، أو حمل السلاح ضد الجزائر.

رئيس «ماك» فرحات مهني مستهدَف بخطوة سحب الجنسية الجزائرية (ناشطون)

ويتضمن المقترح كذلك إنشاء لجنة خاصة تتكفل الدراسة والبت في ملفات إسقاط الجنسية، على أن يحدَّد تنظيمها، وتشكيلها، وكيفيات عملها، بموجب نص تنظيمي.

وبشأن الآثار المترتبة على الأقارب، فإن إجراء إسقاط الجنسية لا يشمل الزوج ولا الزوجة ولا الأطفال القُصّر. كما يمكن للأطفال المولودين بعد صدور قرار إسقاط الجنسية اكتساب الجنسية الجزائرية تلقائياً عن طريق الأم.

وطُرحت فكرة إسقاط الجنسية أول مرة في مارس (آذار) 2025، بمناسبة هجوم حاد من الرئيس عبد المجيد تبون ضد الكاتب الفرنسي - الجزائري بوعلام صنصال، بسبب تصريحات صحافية، زعم فيها أن «أجزاء واسعة من الغرب الجزائري اجتزأها الاستعمار الفرنسي من المغرب». وجره هذا الكلام إلى المتابعة القضائية، حيث أدانه القضاء بالسجن 7 سنوات مع التنفيذ، لكن أُفرج عنه في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، بموجب إجراءات عفو رئاسي بناء على التماس من الرئيس الألماني فرنك فالتر شتاينماير.

الكاتب بوعلام صنصال (حسابات ناشطين متعاطفين معه)

وظلت الفكرة مجرّد اقتراح ذي طابع سياسي تقدّم به النائب صيفر، لكنها عادت بقوة خلال الأيام الأخيرة على خلفية إعلان انفصاليي القبائل الجزائرية من باريس قيام «دولة مستقلة». ويُعتقد أن النص الجديد قد يُطبق ضد عدد كبير منهم، على رأسهم زعيم «حركة تقرير مصير القبائل (ماك)» فرحات مهني.

«أداة للتكميم»

أكدت منظمة «شعاع لحقوق الإنسان»، المهتمة بالأوضاع الحقوقية في الجزائر التي يوجد مقرها في لندن، في بيان، أن التعديل المقترح لقانون الجنسية، «يفتح الباب أمام المساس بحق الجزائريين في جنسيتهم الأصلية، استناداً إلى مفاهيم فضفاضة، من قبيل المسّ بمصالح الدولة أو بالوحدة الوطنية؛ مما يشكل تهديداً مباشراً لحقوق المواطنة، ويكرّس في الوقت ذاته مساراً تشريعياً خطيراً، من شأنه تحويل التجريد من الجنسية إلى أداة لتكميم الأفواه ومعاقبة الرأي المخالف، بدل أن يظل إجراء استثنائياً محكوماً بضوابط صارمة تحمي الحقوق والحريات».

ووفق البيان، «يحوّل المسعى الجنسية من حق أصيل وملازم للشخص، إلى وسيلة ضغط وابتزاز سياسي مشروطة بالولاء للسلطة لا بالانتماء للوطن»، لافتاً إلى أن «تركيز النص على الأفعال المرتكبة خارج التراب الوطني يكشف عن استهداف خاص للجزائريين المقيمين في الخارج، الذين يشكّلون اليوم الفئة الأكثر ممارسة لحقها في انتقاد السلطة، بحكم وجودهم خارج سطوة الاعتقال والسجن، رغم ما يواجهه العديد منهم من متابعات قضائية، وأحكام غيابية قاسية».