الدفء الذي تبثُّه المخرجة الأميركية ماري فالنتين ريغان في فيلمها «عدنان: الوجود والزمان» لم يكن بعيداً عن روح الفنانة التي يتناولها. بدا امتداداً لها، إذ شَعَر به الحضور الذي ملأ صالتَي سينما «متروبوليس» في بيروت خلال الأمسية الافتتاحية لمهرجان «شاشات الواقع» في دورته العشرين. وقبل بدء العرض، ذكَّرت مؤسِّسة هذه السينما، هانية مروّة، أنّ الاستمرار في بلد مثل لبنان على مدى عقدَيْن متواصلَيْن ليس أمراً يسيراً، فكلّ دورة هنا هي مواجهة مع واقع مُتحوّل، ومرآة لهواجس السينمائيين والسينمائيات.

حين أُعطيت الكلمة للمُخرجة الضيفة، التي تزور بيروت للمرة الأولى، أسرها حجم الجمهور الذي جاء ليُشاهد فيلماً يُقدّم صورة تعبيرية لفنانة استثنائية. اكتفت بكلمات قليلة لكنها صادقة، كافية لأن تُشعر الحاضرين أنّ فيلمها ليس عملاً تقنياً بارداً، وإنما تجربة قلبيّة نابعة من علاقة حميمة مع إيتيل عدنان بدأت بمصادفة حين اكتشفت أنها ابنة تلميذة لهذه الفنانة قبل نصف قرن، ثم تحوَّلت إلى صداقة أليفة فتحت لها أبواب المنزل والذاكرة والروح.

هكذا، تعمَّدت ألا تُقدِّم فيلماً يكتفي بأن يكون بورتريهاً لأعمالها التشكيلية والشعرية. أرادته مساحة إنسانية تُضيء على فلسفة عدنان ونظرتها للوجود. فهي التي لم تؤمن يوماً بالهويات الضيّقة، رأت أنّ الحياة تُقاس بأسئلتها لا بانتماءاتها: ما معنى أن تكون موجوداً؟ أن تواجه الكارثة؟ أن تعيش الزمن في جريانه القاسي؟ تحلّى الفيلم بحساسية عالية، مُتحوّلاً من لقاء شخصي إلى سَفَر بصري في المناظر الطبيعية وفي الإدراك العميق للزمن والوعي.

داخل منزلها الباريسي، حيث رحلت عام 2021 عن 96 عاماً، التقطت الكاميرا تفاصيل المكان الذي يُشبهها: الريشات والألوان المُبعثرة، رائحة الزيت، دفء الجدران، والخصوصية التي تُغلّف المساحة كما لو أنها امتداد لجسدها. بلُغتها الإنجليزية المُطعَّمة بالفرنسية، تحدَّثت عدنان بينما ترسم وتأكل وتُشارك الأصدقاء، من بينهم رفيقة العُمر، الرسّامة سيمون فتّال، لحظات مكثَّفة، كأنها تريد للمُشاهد أن يخترقها عوض الاكتفاء بتأمّلها من بعيد. 70 دقيقة يمتلئ خلالها الفيلم بروحها قبل أن يمتلئ برسومها، وبحضورها الإنساني والعاطفي قبل الحضور الفنّي.

قدَّمتها المخرجة كما هي: إيتيل التي يسند ظهرها المنحني عمرٌ طويل وأسفارٌ وتجاعيد، والتي تحمل في نظرتها للوجود عمقاً يتجاوز الزمن. إيتيل التي تأكل بشهيّة، وتُطفئ شموع عيد ميلادها مثل طفلة تحتفل بالحياة، وترى في الطبيعة والجبال تمجيداً للجمال اللامتناهي. لم تُخفِ الكاميرا لُهاثها وهي ترسم، كأنّ الريشة سباق مع العمر. لكنّ ذلك اللُّهاث تحوَّل إلى موسيقى داخلية تُعلن عن حيوية فكرية لا تخبو، وعن عقل كتب قبل أن يرسم، وقصيدة سبقت اللون وأكملته.

ولم يكن مُمكناً أن تُختَزل سيرة عدنان بحدود لبنان وحده، وإن كان هو مكان ولادتها والشاهد الأول على انفتاحها على الشمس والبحر وأشجار البرتقال. فهي أيضاً ابنة باريس التي احتضنتها، وابنة كاليفورنيا حيث وجدت سماء أخرى، وابنة لغات متعدّدة رأت فيها مادة تُكوِّن البشر. عالمُها خُلِق من أمكنة مرَّت بها وأمكنة ابتكرتها بخيالها، من ذاكرة وصور ولغات، ومن انتماء لا ينغلق في وطن ليتَّسع للكون.

عندما سُئلت عن أهم شخص التقت به في حياتها، أجابت بلا تردُّد: «الجبل»! ولعلَّ الجبال التي أحبَّت شملت أيضاً جبل لبنان الذي طبع شبابها وأعطاها أول درس في الخلود والسكينة، حيث فهمت أنّ الطبيعة أعمق من البشر، وأنّ الجبل هو المُعلِّم الأكبر. وروت كيف ناقشت أندريه جِيْد في بيروت وهي في العشرين ضمن حوار ثقافي شكَّل وعيها المبكر. هذه اللحظات الحميمية هي ما يمنح الفيلم قوته، إذ تجعله أقرب إلى بوح شخصي من أن يكون وثائقياً جامداً.
بين الشِّعر واللوحة، والقصيدة واللون، عاشت إيتيل عدنان على إيقاع زمني خاص، لا يخضع للسنوات بقدر ما يخضع لامتلاء اللحظة. ظلَّت مثل ريشة في مهبّ الريح، خفيفة ومشحونة بالجمال، عصيّة على الاحتواء في مكان أو هوية. وكان الجبل الذي أحبَّته شاهداً على أن روحها حلَّقت أبعد من الجغرافيا، نحو ما لا يُطال ولا يُرى.



