لم يكن مفاجئاً البتة ألا ينجح فرنسوا بايرو في الحصول على ثقة الجمعية الوطنية في 8 سبتمبر (أيلول). ومع سقوط الحكومة، صار على إيمانويل ماكرون أن يجد شاغلاً جديداً لقصر «ماتينيون»، تزامناً مع دعوة بعض قوى المعارضة إلى حلّ الجمعية الوطنية وإجراء انتخابات برلمانية مبكرة، بل إن ثمة من يدعو إلى استقالة ماكرون أو حتى عزله دون انتظار الانتخابات الرئاسية في 2027.
من الطبيعي التفكير في المرحلة المقبلة بصورة آنيّة، ومحاولة استقراء السيناريوهات السياسية المحتملة بعد خروج رئيس «الحركة الديمقراطية» من مقر رئاسة الحكومة.
يستطيع ماكرون الذي عرفت خماسيته الرئاسية الأولى ثلاث حكومات؛ ترأس اثنتين منها إدوار فيليب، فيما تعثرت في خماسيته الثانية أربع حكومات حتى الآن، اختيار رئيس وزراء من الحزب الاشتراكي الذي يدعو إلى حكومة يسارية تضم الاشتراكيين والخضر والشيوعيين (من دون حزب «فرنسا الأبية» الذي يتزعمه جان لوك ميلانشون). ويستطيع أيضاً اختيار شخصية تكنوقراطية أو محايدة.
والمهم هو نجاح الحكومة المقبلة في تمرير موازنة 2026. وفي حال الفشل، قد يلجأ ماكرون إلى حلّ الجمعية الوطنية والدعوة لانتخابات مبكرة، بما يوافق رغبة مارين لوبن وحزب «التجمع الوطني اليميني المتطرف.
لكن الأسئلة الحقيقية العميقة تتخطى الواقع الراهن وما بقي من ولاية ماكرون الثانية، ويمكن تلخيصها بالآتي: من يستطيع إنقاذ فرنسا من الإفلاس؟ بمعنى آخر؛ مَن ينجح في وضع موازنة تُرضي القوى السياسية المتناقضة وقواعدها الشعبية؟ وبمعنى أبعد مَن يستطيع إنقاذ فرنسا من نفسها، وهي تبدو كجسم سقيم يهاجمه جهاز مناعته، وهو هنا النظام السياسي للجمهورية الخامسة القائم منذ عام 1958؟

أزمات
أطلق السياسي اليميني رجل الأعمال، فيليب دو فيلييه، عريضة وطنية لفرض استفتاء حول الهجرة. وندّد بأوضاع الجمهورية الخامسة التي قال إنها «على حافة الهاوية»، بفعل العجز السياسي وإفلاس الدولة.
وقال قبل أيام في حديث إلى الصحيفة الأسبوعية «لو جورنال دو ديمانش»: «من بين الأزمات السياسية الكبرى في القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، أرى أننا اليوم في الذروة لأننا نعيش تراكم جميع الأزمات في وقت واحد. فنحن أمام أزمة مالية، وأزمة اقتصادية، وكذلك أزمة سياسية، إذ أصبح البرلمان خاضعاً لحكم الأحزاب العاجزة والثرثارة. السياسيون لا يفعلون إلا الدعاية وممارسة الشعبوية. لدينا أيضاً أزمة ديمغرافية؛ فقد شهدت فرنسا للمرة الأولى في تاريخها تجاوز عدد الوفيات عدد المواليد».
وأكد صاحب كتاب «إبادة شعب» الذي يصدر الشهر المقبل، أن فرنسا «تشهد تغيّراً في تركيبة سكانها». ولذلك أطلق عريضة وطنية لإجراء استفتاء حول الهجرة بهدف إجبار إيمانويل ماكرون على إدراج هذا الموضوع في صلب النقاش السياسي.
وأضاف أن الاقتصاد الفرنسي يتغير، وكذلك الثقافة التي دخلت عليها عناصر عديدة. وكشف أنه في بعض المناطق والأحياء، «يقدم تجار المخدرات للسكان خدمات التوصيل إلى المنزل، والمساعدات المالية، واللوازم المدرسية، أو حتى التسوق لكبار السن»... كأنهم يؤدون مهمات عامة موازية لخدمات الدولة.
ورأى دو فيلييه أن على فرنسا «أولاً استعادة الحدود والضوابط» وإعادة النظر في القوانين، مضيفاً أن «هناك ثلاث خطوات لكسر الجمود: حل البرلمان، واستقالة رئيس الجمهورية، ثم إجراء استفتاء عام» حول الهجرة.
يبدو واضحاً أن دو فيلييه يتبنى رأي اليمين المتطرف الذي يجنح دائماً إلى إلقاء اللوم على «الأجانب»، والمقصود بهم هنا المهاجرون الذي يبلغ عددهم في فرنسا بضعة ملايين.
هي نظرة قاصرة بالطبع، بمعنى أن الخروج «السوريالي» لكل الفرنسيين «غير الأصيلين» من البلاد لن يحل قطعاً أزماتها.

المعضلة الاقتصادية
ليست الأزمة في شخص فرنسوا بايرو ولا سلفه ميشال بارنييه أو سواهما ممن تولوا قيادة سفينة الحكومة. بل هي في واقع اقتصادي مرير.
نعم فرنسا في أزمة اقتصادية تعاني أعراضها الخمسة الكلاسيكية: أولاً، ارتفاع معدلات البطالة، لا سيما بين الشباب (+1.5 نقطة مئوية في عام واحد وفقاً للمعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية)، مع ضعف قطاعات مثل البناء والمطاعم وصناعة السيارات.
ثانياً، ازدياد حالات إفلاس الشركات؛ فبعد فترة ركود أعقبت جائحة «كوفيد»، سجل بنك فرنسا المركزي أكثر من 60 ألف حالة إفلاس في عام واحد (+30 في المائة)، طالت خصوصاً شركات صغيرة ومتوسطة.
ثالثاً، تسود حالة من عدم الاستقرار المالي، إذ تتجاوز معدلات الاقتراض 4 في المائة للشركات، في موازاة تقلبات كبيرة تشهدها السوق. والأمر الأكثر إثارة للقلق في الشأن المالي هو أن تكاليف الاقتراض في فرنسا أصبحت الآن أعلى منها في اليونان المعروفة بأنها «مركز» الهزّات الاقتصادية في الاتحاد الأوروبي.
رابعاً، يسجَّل فقدان للثقة على نطاق واسع، فالأسر تقلل الإنفاق، والمستثمرون يترددون في المغامرة، والشركات الكبرى ترجئ تنفيذ مشاريعها.
خامساً وأخيراً، هناك عجز عام وديون قياسية، إذ يتجاوز الدين العام 110 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي (3.162 تريليون دولار)، مع عجز في مالية الدولة يقارب 6 في المائة، مما يعني أن أي مجال للمناورة في الموازنة يكاد يكون منعدماً.
يحصل كل هذا على خلفية اختلال التوازن الجيوسياسي بسبب السياسة التجارية الأميركية التي اعتمدها الرئيس الأميركي دونالد ترمب بفرضه رسوماً جمركية عالية على كل الواردات تقريباً.
مؤدَّى ذلك أن الأزمة الاقتصادية هي السبب الأول للأزمة السياسية، والشرارة هذه المرة كانت مشروع موازنة 2026 الذي تضمَّن تخفيضات في الإنفاق مقدارها 44 مليار يورو، وإلغاء عطلات رسمية، وتجميد الإنفاق الاجتماعي.
إلا أن الشرارة تُخفي وراءها أزمة تتجاوز بكثير الموازنة، فهناك انهيار للثقة بين الفرنسيين وقادتهم، مما يُؤجج الغضب الذي قد يُعيد رسم المشهد السياسي في الفترة التي تسبق الانتخابات الرئاسية للعام 2027.
المشكلة الهيكلية
سيكلف ماكرون شخصية لتأليف حكومة قد تنال الثقة وتحاول العمل... لكن المشكلة هيكلية. ففرنسا من أكثر الدول الأوروبية فرضاً للضرائب وتكثيفاً للقيود، بما يعوق تنافسية الأعمال ويُثبّط الاستثمار الإنتاجي بشكل كبير. وبينما يحاول الشركاء الأوروبيون تخفيف الضغوط الضريبية ويُشجّعون المبادرات الخاصة، يواصل الواقع الفرنسي خنق الاقتصاد تحت وطأة بيروقراطية قاسية وضرائب «عقابية».
يعتمد الاقتصاد الفرنسي بشكل كبير على قطاع الخدمات (78.8 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي)، مما يعكس تراجعاً مقلقاً في التصنيع. فالصناعة، التي كانت قوة رئيسية في الماضي، لا تُمثل الآن سوى 19.5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، فيما تقلصت حصة الزراعة، الضرورية للأمن الغذائي، إلى نسبة ضئيلة.

هذا الاعتماد المفرط على الخدمات يجعل فرنسا «مدمنة» للاستيراد، ويُضعف موقفها في مواجهة الأزمات الدولية.
والواقع أن هذا الخلل ناتج إلى حد كبير عن عقود من السياسات العامة التي ضحّت بالإنتاج لمصلحة إعادة التوزيع. فبإعطاء الأولوية للإنفاق الاجتماعي على الاستثمار المُربح، ضعفت الصناعة الفرنسية وصارت إدارة الاقتصاد مكلفة جداً.
لا شيء في الأفق ينبئ بأن السنتين الأخيرتين من حكم إيمانويل ماكرون ستشهدان حلولاً تُنهي الأزمة المتمادية، فالدولة الفرنسية ستبقى في دوّامة الإنفاق الذي يفوق المدخول، وقوى اليمين واليسار والوسط ستتصارع لتُسقط إحداها الأخرى، فيما تعجز كلها عن تقديم الوصفات العلاجية الفعّالة.
قد يكون الموعد الحاسم ربيع 2027، موعد إجراء الانتخابات الرئاسية. وقد يكون على الرئيس المقبل أن يقود فرنسا إلى انقلاب سياسي واقتصادي واجتماعي ينتشلها من رواسب الجمهورية الخامسة وينقلها إلى رحاب الجمهورية السادسة.

