من أجل مواجهة «ظروف استثنائية» وتحديات أمنية واقتصادية وصفها بـ«الحادة» أعلن رئيس كوت ديفوار، الحسن واتارا، عزمه الترشح لولاية رئاسية رابعة، في الانتخابات المقرر إجراؤها في 25 أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، مجدداً جدلاً صاحب ولايته الثالثة، ومثيراً تساؤلات حول مستقبل الانتقال السياسي في أكبر دولة منتجة للكاكاو في العالم. واتارا الذي سبق أن تكلم عن «حتمية» انتقال السلطة إلى أجيال أصغر، يبدو أنه ما زال متمسكاً بمقعد الحكم الذي وصل إليه بعد سنوات من الإقصاء بداعي التشكيك في «هويته»، ما حرمه من الترشح للرئاسة مرتين، قبل أن يتمكن من تحقيق حلمه والوصول إلى قصر الرئاسة، عقب جولة انتخابات عام 2010، التي أحدثت توترات أمنية وسياسية في البلاد، وأسقطت آلاف الضحايا.
على امتداد عقود كان اسم الحسن درامان واتارا، أو «آدو» كما يلقب تبعاً للحروف الثلاثة الأولى من اسمه، حاضراً في تاريخ كوت ديفوار (ساحل العاج)، ذلك البلد الواقع في غرب أفريقيا.
الرجل اقتصادي تكنوقراطي، احترف لغة الأرقام، وصاغ بها مشروعه السياسي. واستعان به الرئيس الأسبق ومؤسس كوت ديفوار فيليكس هوفويه بوانيي لإنقاذ الاقتصاد المتعثر.
ولكن رغم ما حققه من نجاحات، كونه «مجتهداً وشغوفاً بالشفافية والحكم الرشيد»، بحسب مراقبين، فإن حياته خارج كوت ديفوار ما تزال تلقي بظلالها على مسيرته. إذ يرى خصومه أنه «غربي الفكر أكثر من اللازم»، ناهيك عن تمسكه بالسلطة الذي يهدد مسار الانتقال الديمقراطي.
حجة الظروف الاستثنائية
واتارا، من جانبه، يدافع عن رغبته في البقاء، بحجة وجود «ظروف استثنائية تمر بها البلاد، وتفرض عليه الاستمرار في القيادة». وفي رسالة مصوّرة نشرها عبر حسابه على منصة «إكس»، معلناً خلالها عزمه الترشح للرئاسة، قال: «ثمة تحديات أمنية واقتصادية ومالية غير مسبوقة تتطلب الخبرة لإدارتها».
وبرّر واتارا تراجعه عن تعهدات سابقة عام 2020 بشأن عزوفه عن الترشح، قائلاً: «الواجب يتجاوز أحياناً وعوداً قُدمت بحسن نية». وأردف: «التفكير العميق في مصلحة البلاد دفعني لإعادة النظر في التزامي السابق بألا أترشح». بعدها أكّد واتارا (83 سنة) أن حالته الصحية جيدة وتؤهله للمواصلة، كما أن «دستور البلاد يسمح له بالترشح مجدداً»، وهو الدستور الذي أدخل عليه تعديلات قبل سنوات، ألغت القيود على عدد مدد الولاية.
أحدث إعلان واتارا جدلاً، وأثار مخاوف بشأن مستقبل البلاد، خصوصاً بعد مظاهرات في العاصمة الاقتصادية أبيدجان احتجاجاً على استمراره في الحكم، ورفضاً لمنع قادة المعارضة من منافسته في الانتخابات الرئاسية. وقال خصمه الأبرز، الرئيس السابق لوران غباغبو، إن «المعارضة مصمِّمة على منع واتارا من الترشح لولاية رابعة».
شخصية تكنوقراطية دولية
ولد الحسن درامان واتارا يوم الأول من يناير (كانون الثاني) 1942 في بلدة ديمبوكرو، وسط البلاد، وهو ينتمي لعائلة ثرية من الشمال ذي الغالبية المسلمة. ونشأ في أسرة تقليدية محافظة، لكنها دفعت بابنها الطموح إلى أبواب التعليم الحديث.
وحقّاً، أمضى معظم سنوات تعليمه الأساسي بين مدارس في كوت ديفوار، وجارتها بوركينا فاسو، ما غذّى لاحقاً اللغط بشأن «هويته». وتعزز هذا مع سفره في ما بعد إلى الولايات المتحدة، حيث حصل على درجة البكالوريوس في إدارة الأعمال عام 1965 من جامعة دريكسل الخاصة بولاية بنسلفانيا. ثم نال الماجستير عام 1967 والدكتوراه في الاقتصاد عام 1972 من جامعة بنسلفانيا، إحدى أعرق الجامعات الأميركية على الإطلاق.
هذا المستوى من التعليم مكّن واتارا من ارتقاء درجات النظام المالي الإقليمي والدولي سريعاً، فعمل خبيراً في صندوق النقد الدولي عام 1968. ثم انتقل إلى البنك المركزي لدول غرب أفريقيا (BCEAO) في باريس، حيث أصبح نائب محافظ البنك، وهو في الأربعين من عمره.
عام 1984، عاد واتارا مرة أخرى إلى صندوق النقد الدولي مديراً لأفريقيا. قبل أن يعين محافظاً للبنك المركزي لدول غرب أفريقيا عام 1988. ولقد ساهم عمله في مؤسسات دولية كبرى في صقل خبراته، واكتساب سمعة طيبة كخبير «يعرف كيف يفرض رأيه بالمنطق والأرقام».
مهمة إنقاذية مع الرئيس المؤسس
عام 1990، استعان به فيليكس هوفويه بوانيي، الرئيس المؤسس لكوت ديفوار، لإنقاذ الاقتصاد وإدارة مرحلة التقشف، وعيّنه رئيساً للوزراء حتى 1993... وعندها دخل معترك السياسة المعقد.
طبّق واتارا وصفات التقشف والتغيير التي أوصت بها المؤسسات الدولية. ورغم قسوة قراراته على الطبقات الوسطى والفقيرة، فإنها أكسبته سمعة التكنوقراطي الصارم والخبير المتمكن.
عقبة الهوية
مع هذا، لم يكن طريق السياسة ممهداً كطريق الاقتصاد. إذ عاش واتارا تجربة قصيرة مع السلطة، قبل أن يصطدم بعقبة «الهوية الإيفوارية»، ما حال بينه وبين قصر الحكم لسنوات. وبينما أكّد دائماً أن والديه من كوت ديفوار، قضت محكمة عام 1995 بأن والدته من بوركينا فاسو المجاورة.
إبّان فترة مرض الرئيس هوفويه بوانيي، تولّى واتارا مهام الرئيس بالإنابة. وبعد وفاته، انتعشت آمال الشمال المسلم بإمكانية تولّي واتارا الحكم. وبالفعل، أسّس واتارا «تجمع الجمهوريين» تحضيراً للانتخابات. لكن سرعان ما تحطمت آماله، حين استخدم هنري كونان بيدييه، رئيس المرحلة الانتقالية، ورقة «الأصل الإيفواري» لعرقلة وصوله كونه «أجنبياً».
في تلك الفترة، طلب كونان بيدييه تعديل قانون الانتخابات، وأضيفت شروط عدة. من بينها؛ أن يكون والدا المرشح من أصول إيفوارية، وألا يكون المرشح قد تنازل في السابق عن جنسيته، وأن يكون مقيماً في البلاد طوال السنوات الخمس الأخيرة السابقة للانتخابات.
منعت هذه الشروط واتارا من الترشح، فبات في صفوف المعارضة، وغادر الساحة عائداً إلى صندوق النقد الدولي نائباً للمدير العام عام 1994. ولكن عام 1999 انتهت علاقته بصندوق النقد الدولي، وعاد لبلاده رئيساً لـ«التجمع من أجل الجمهوريين» المعارض، تزامناً مع أول انقلاب عسكري في تاريخ كوت ديفوار خلال ديسمبر (كانون الأول) 1999 بقيادة الجنرال روبير غي.
غي وغباغبو
عقب الانقلاب، تولّى عدد من أنصار واتارا مناصب في الحكومة العسكرية الجديدة، ما بدا أنه في صالحه، لكن سرعان ما ظهرت نيّات غي، ورغبته في الحكم وإقصاء واتارا مستغلاً مجدداً موضوع «الهوية». وبالفعل، استبعد واتارا من انتخابات ديسمبر 2000، لكن محاولة غي تزوير النتائج انهارت تحت ضغط احتجاجات شعبية، قادها أنصار لوران غباغبو، زعيم المعارضة آنذاك.
ولكن غباغبو، الذي ينحدر من الجنوب المسيحي، لم يكن أفضل من سابقيه، إذ استغل النزعة القومية لمهاجمة واتارا باعتباره رجلاً مسلماً، ومتزوجاً من فرنسية. وشهدت أبيدجان آنذاك هجمات معادية للأجانب.
حرب أهلية
وهكذا، بات الخلاف حول جنسية وتارا رمزاً للتهميش ضد الشمال ذي الغالبية المسلمة، حيث استقر العديد من المهاجرين من الدول المجاورة للعمل في مزارع الكاكاو.
وعام 2002، اندلعت حرب أهلية قسّمت البلاد بين شمال وجنوب، وصوّر غباغبو نفسه كمن يتعرّض لهجوم من قوى أجنبية. واتُّهم واتارا بدعم حركة «القوات الجديدة» المتمردة في الشمال. ورغم نفي واتارا هذا الاتهام، فإنه ظلّ يلاحقه، خاصةً أن المتمردين شكّلوا العمود الفقري لقواته القتالية، عقب توليه الرئاسة لاحقاً. وفي تلك الفترة، تعرّض واتارا لاعتداء مسلح، ما دفعه للسفر مع زوجته سيدة الأعمال الفرنسية دومينيك.
واتارا رئيساً
مهّدت تلك الأحداث لتعديل الدستور، وإلغاء شرط أن يكون والدا المرشح من أصول إيفوارية. هذا فتح الباب أمام واتارا لمنافسة الرئيس غباغبو في الانتخابات التي أجريت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2010. ورغم تأكيد بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام في كوت ديفوار فوز واتارا، رفض غباغبو الاعتراف بالهزيمة، لتبدأ حالة جمود سياسي استمرت أشهراً، وانزلقت إثرها البلاد إلى أزمة مسلحة جديدة، أدّت إلى مقتل 3 آلاف شخص، وتشريد نحو نصف مليون آخرين، وفق «مجلس العلاقات الخارجية الأميركي».
على الأثر، اضطر واتارا لإدارة «حكومة ظل» من أحد فنادق أبيدجان حيث كان محاصراً. لكن أسلوبه المتزن، واستعداده للتفاوض رغم تعنّت غباغبو، ورفضه السماح للقوات المتمردة باقتحام أبيدجان، كانت عوامل أكسبته تقديراً دولياً واسعاً، وتمكن من توجيه ضربة مالية لخصمه غباغبو بقطع وصوله إلى الأموال الحيوية من صادرات الكاكاو والتمويل الدولي.
وبعد دعوات متكرّرة للتدخل العسكري لعزل غباغبو، حرّك واتارا في النهاية قواته المدعومة من المتمردين السابقين في الشمال نحو القصر الرئاسي. وأحكم يوم 21 مايو (أيار) 2011 قبضته على البلاد.
رجل التحديث
إبّان ولاية واتارا الأولى، جرى التركيز على إعادة بناء الاقتصاد، واستعادة ثقة المستثمرين، فتضاعفت معدلات النمو، وأصبح لكوت ديفوار أحد أسرع الاقتصادات نمواً في أفريقيا.
واهتم واتارا بالبنى التحتية، ودشن سدوداً ساهمت في زيادة إنتاج الكهرباء، كما نفّذ تغييرات في قطاع الكاكاو تضمن توزيعاً أفضل للعوائد، وأعاد الاعتبار إلى أبيدجان كعاصمة اقتصادية مزدهرة، حتى لقب بـ«رجل التحديث». لكن نجاحاته في إدارة ملف الإصلاح الاقتصادي ترافقت مع إخفاقات في ملفات العدالة الانتقالية، وملاحقة المعارضين، واستمرار الانقسام العرقي.
الجدل السياسي
وحقّاً، رافق الجدل السياسي محطات عدة في مسيرة واتارا، الذي أُعيد انتخابه في 2015 بنسبة تفوق 83 في المائة، ثم في عام 2020 وسط مقاطعة واسعة وتوترات دامية، ليبدأ ولاية ثالثة، مطعون في شرعيتها، أعادت إحياء الانقسام.
بعدها عمّقت انتخابات 2020 شكوك المعارضين في مسار الديمقراطية، خاصةً أن واتارا اعتمد في تلك الانتخابات على أن تعديلات الدستور عام 2016 أعادت احتساب مدد الرئاسة، ما سمح له بالترشح من جديد. واليوم، بعد 15 سنة في السلطة يترقب الجميع أي صورة سترتبط باسم واتارا... «المنقذ» الذي أعاد إحياء اقتصاد كوت ديفوار، أم «الزعيم الأبدي» الذي يرفض التخلي عن السلطة.


