توفيق سلطان: خدام فاجأنا بالقول «ياسر عرفات جاسوس إسرائيلي»

السياسي اللبناني روى لـ«الشرق الأوسط» قصة الكراهية المتبادلة بين حافظ الأسد والزعيم الفلسطيني (1 من 2)

TT

توفيق سلطان: خدام فاجأنا بالقول «ياسر عرفات جاسوس إسرائيلي»

كمال جنبلاط وياسر عرفات وتوفيق سلطان (أرشيف توفيق سلطان)
كمال جنبلاط وياسر عرفات وتوفيق سلطان (أرشيف توفيق سلطان)

يسمع الصحافي أحياناً عبارات صادمة فيدفعها إلى صندوق ذاكرته ويحكم إقفاله. ربما لأنها عنيفة. أو مؤذية. أو مكلفة. وربما لأن قائلها سيسارع إلى التبرؤ منها تفادياً لعواقبها.

هذا ما حدث. في الأسبوع الأخير من يناير (كانون الثاني) 1987، عُقدت في الكويت الدورة الخامسة لمؤتمر القمة الإسلامي، وكان بين القادة المشاركين الملك فهد بن عبد العزيز، والرئيس حافظ الأسد، والرئيس أمين الجميل، ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات.

طلبت مقابلة عرفات فاستقبلني. بعد المجاملات جاءت المفاجآت. سألني ماذا يجري في بيروت؟ فأجبت: «أنت تعرف أن البلد منشغل بذيول حرب المخيمات». رد: «لا يا غسان. هذه ليست حرب المخيمات. اسمها الحقيقي الحرب على المخيمات. وهي شُنَّت بقرار شخصي من حافظ الأسد، وللأسف تشارك حركة (أمل) برئاسة نبيه بري في تنفيذ القرار يساعدها للأسف أيضاً اللواء السادس في الجيش اللبناني».

لاحظ عرفات أنني استغربت صراحته، فرفع لهجته غاضباً وقال: «يحاول الأسد استكمال ما بدأه آرييل شارون (وزير الدفاع الإسرائيلي) في غزو 1982 وعجز عن إنجازه. هذا استكمال لمهمة شارون الرامية إلى تصفية منظمة التحرير».

«الأسد تاجر سوق الحميدية»

قلت له إن التهمة خطرة فهي موجهة إلى رئيس سوريا، فتابع منفعلاً أن «الأسد ليس رئيس سوريا. إنه تاجر سوق الحميدية. ليته انشغل باستعادة الجولان بدل الانهماك بمحاصرة القرار الفلسطيني المستقل إرضاء لأميركا وإسرائيل. ستؤكد لك الأيام ما أقوله. حافظ الأسد لا يعترف بفلسطين ولا بلبنان ويكره العراق متغطياً بكراهيته لصدام حسين».

أصابني قدر من الذهول، لكنه تابع. قال: «ما يسمونه انتفاضة في حركة فتح هو مؤامرة حاكها الأسد ويمولها (معمر) القذافي. حلم الأسد الوحيد هو تحويل القضية الفلسطينية ورقة في مساوماته والهيمنة على لبنان». وبعدما انحسر غضب عرفات انتقلنا إلى الكلام في مواضيع أخرى.

لم أشارك أحداً في الكلام الذي سمعت، وهو لم يكن ضمن الحوار الصحافي أصلاً. لكن ما قيل حيّرني. لماذا اختار عرفات صحافياً لبنانياً للتعبير عن مشاعره الحقيقية تجاه الأسد. قلت أستوضح السبب من رجل قريب إلى عقله وقلبه هو محسن إبراهيم، الأمين العام لـ«منظمة العمل الشيوعي».

قال إبراهيم: «حسناً فعلت أنك لم تكشف ما سمعت. لو فعلت لما كان هناك خيار أمامه غير أن ينفي. فمثل هذه العبارات يمكن أن ترتب عقوبات على أفراد ومخيمات». وأضاف: «في أي حال هذه مفيدة لك كصحافي شاب فأنت الآن تتمرس بالكراهيات العربية - العربية والتي تحكمت بمواقف وقرارات. وفي الحقيقة لا يمكنك فهم السنوات الأولى من حروب لبنان من دون أن تلتفت إلى مثلث يضم الأسد وعرفات وكمال جنبلاط. اعتبر الأسد أن عرفات هو العائق الكبير أمام محاولته الإمساك بالورقة الفلسطينية، وأن كمال جنبلاط هو العائق أمام السيطرة المطلقة على لبنان. ومن حسن الحظ أن عرفات لم يواجه مصير جنبلاط». وتابع مازحاً: «للأسف كان حظي أن أقيم داخل هذا المثلث وكيدياته ومعي جورج حاوي وآخرون».

لقاء بين جنبلاط وعرفات بحضور توفيق سلطان وجورج حاوي ومحسن إبراهيم وياسر عبد ربه (أرشيف توفيق سلطان)

حاورت طويلاً محسن إبراهيم حول هذا المثلث وغيره. فاجأني هو الآخر ذات يوم بقصة. قال إنه سأل عرفات عن صدام والأسد، والفارق بينهما، فجاءه الرد: «صدام صعب لكنه يرى فلسطين كقضية. أما الأسد فيعتبرها مجرد ورقة». ونقل عن عرفات قوله: «يقول إعلام الأسد إنني لا أمثل الفلسطينيين. أنا أستطيع خوض انتخابات حرة في أي قرية فلسطينية أو مدينة أو مخيم في الداخل والخارج. هل يستطيع الأسد خوض انتخابات حرة في دمشق أو حمص أو حلب؟ وسنعفيه سلفاً من حماة» التي شهدت أقوى معارضة لحكم الأسد الأب.

قبل أيام قصدت السياسي اللبناني المتمرس توفيق سلطان وهو في الحقيقة ذاكرة لمدينتين. طرابلس مسقط رأسه وبيروت التي عاش منعطفاتها وتحولاتها رفيقاً لكمال جنبلاط ونجله وليد وقريباً من رفيق الحريري ونجله سعد ومقرباً من عرفات وحاضراً في اللقاءات مع الأسد وقيادات عربية أخرى. ذاكرته مثقلة بالعناوين والحكايات خصوصاً حين كان نائباً لرئيس «الحركة الوطنية» التي ضمت القوى اليسارية والقومية وقادها كمال جنبلاط.

بداية شائكة بين الأسد وعرفات

كانت علاقة عرفات شائكة مع دمشق منذ البداية. إثر حادث دموي داخل «فتح» اعتُقل عرفات في دمشق وكان اسم وزير الدفاع حافظ الأسد. بعد ما عاشته عمّان من اضطراب وصدامات بين المنظمات الفلسطينية والجيش الأردني عام 1970، بات الأسد يعتبر وجود المنظمات المسلحة مرادفاً للفوضى.

لقاء بين الأسد وجنبلاط بحضور توفيق سلطان (إلى اليسار) وعبد الله الأحمر (أرشيف توفيق سلطان)

شعر الأسد بشيء من القلق حين انتقلت المنظمات إلى بيروت وأبرمت تحالفاً واسعاً مع الأحزاب اليسارية و«القوى الوطنية» في لبنان. راقب الأسد تحول عرفات اللاعب الأبرز على «الساحة اللبنانية». لم ينجح الحكم السوري في وضع يده على الملف الفلسطيني فنفوذ «فتح» كان طاغياً وبريق عرفات واسعاً، خصوصاً حين صار صاحب القرار في الجانب اللبناني من الحدود مع إسرائيل.

يقول توفيق سلطان: «حافظ الأسد لم يكن لديه في الأساس احترام لشيء اسمه المقاومة الفلسطينية. سمعت منه هذا الكلام وسمعته من أجوائه. كان الرأي السائد لديه أن ليست هناك مقاومة. هناك مجموعات مسلحة تعمل بالتنسيق مع المخابرات. وكان التباعد صريحاً بين الرجلين».

وروى واقعة تعكس هذا التباعد، قائلاً: «ذات يوم قال الأسد لعرفات إنه لا يوجد شيء اسمه فلسطين، بل جنوب سوريا. ورد عرفات بأن ليس هناك شيء اسمه سوريا، بل شمال فلسطين. جرت محاولة لخلط المزاح بالجد. لكن الحقيقة هو أن الأسد كان ينظر إلى المسألة من هذه الزاوية».

وأوضح أن «أنظمة عربية أخرى كانت ترغب في وضع يدها على الموضوع الفلسطيني لتستفيد منه ومن دون تحمل تبعاته. وانطلاقاً من رؤية حزب البعث، كان هناك في بغداد ودمشق من يعتبر أن القضية أكبر من أن تنفرد منظمة التحرير الفلسطينية بامتلاك القرار في شأنها ومستقبلها».

وأضاف سلطان: «كانت العلاقة بين نظام حافظ الأسد ومنظمة التحرير صعبة وكنا نحن في (الحركة الوطنية) في قلب هذه الأزمة أو في الوسط بين الفريقين. كانت لدى المنظمة إذاعة في سوريا. بثت تعليقاً ينقل كلاماً لعرفات وردت فيه عبارة: في فمي ماء، وأشياء أخرى. أرسلت السلطات السورية جرافة واقتلعت المحطة من أساسها واعتقلت عدداً من العاملين فيها. جاء الفلسطينيون ليلاً وطلبوا مني أن أتحدث مع كمال بك في الأمر. قال جنبلاط: علينا أن نحاول ترتيب لقاء مع الأسد. وكان ذلك في رمضان. اتصلت بحكمت الشهابي الذي كان مديراً للمخابرات ويتولى التنسيق معنا.

وصلنا إلى الموعد مع الأسد قرب موعد الإفطار. جلس جنبلاط قبالة الأسد وجلست أنا إلى جانب الرئيس السوري. ساد على الطاولة جو تطاول على شخص عرفات وترددت عبارات من نوع: سنأتي به (أي سنعتقله) وسنقلبه فلق (أي سنضربه أسوة بالمعتقلين).

كان جنبلاط بطبيعته مهذباً لا يحب الكلام الخارج على اللياقة. توقف عن الأكل فطلب مني الأسد أن أتدخل. قلت له: يا سيادة الرئيس رجال المقاومة الفلسطينية ليسوا رفاقنا في المدرسة. نحن ملتزمون حيال القضية الفلسطينية ورمزها اليوم منظمة التحرير ورئيسها ياسر عرفات. وقلت لهم إن رجال المقاومة حساسون بسبب ما مر عليهم من ظروف ومسائل. رد الأسد: والله ما يقوله أبو راشد صحيح. اتفضل كمال بك واعتبرها منتهية. وتم الإفراج عن المعتقلين. نعم كنا نتدخل في مسائل من هذا النوع».

كراهية متبادلة

سألت سلطان إن كانت الكراهية المتبادلة بين الأسد وعرفات واضحة في تلك الأيام، فأجاب: «معلوم (بالتأكيد) معلوم معلوم. كان من وسائل التقرب إلى الأسد التطاول على شخص ياسر عرفات. ذات يوم كنت مع وليد جنبلاط وعاصم قانصوه (المسؤول عن حزب «البعث» في لبنان) في مكتب عبد الحليم خدام. ورد اسم عرفات وإذ بخدام يقول: ياسر عرفات جاسوس إسرائيلي. سكت ولم أعلق. وجه كلامه إليّ فقلت له: سمعتك. ذهب أبعد وسألني: ما رأيك؟ أجبت: أنا أحترم رأيك وهذا مكتبك لكن إن كنت تريد رأيي فسيثير زعلك.

عبد الحليم خدام (رويترز)

كان المناخ حول الأسد معادياً خصوصاً لحركة «فتح». حاولوا بكل الوسائل اختراق «فتح». بعد سنوات تمكنوا من إحداث انشقاقات كان أبرزها ذلك الذي قاده أبو صالح وأبو موسى وأبو خالد العملة. قدموا لهم تسهيلات ومعسكرات. طبعاً كانت لدى سوريا قدرة على تصغير الأحجام أو تكبيرها».

لم يكن ياسر عرفات خصماً سهلاً على رغم معرفته بأن الجغرافيا تُقدم لحافظ الأسد سلاحاً فعالاً في الضغط عليه. كان يرد على رياح الكراهية التي تهب ضده من دمشق بأسلوبه الشهير. يرفع شارة النصر ويتحدث عن «شلال الدم الفلسطيني» و«أطول حرب عربية - إسرائيلية»، في إشارة إلى صمود المقاومة الفلسطينية وحلفائها اللبنانيين إبان الحصار الإسرائيلي لبيروت في 1982 على يد وزير الدفاع الإسرائيلي آرييل شارون.

وساد انطباع في تلك الأيام أن إصرار عرفات على تكرار شعار «القرار الوطني الفلسطيني المستقل» إنما كان موجهاً ضد الأسد قبل أن يكون موجهاً إلى أي جهة أخرى. وفي المقابل كانت دمشق تعتبر أن عرفات يتعمد تجاهل التضحيات التي قدمها الجيش السوري إبان الغزو الإسرائيلي لبيروت، وأنه ينتظر أي فرصة للانضمام إلى مفاوضات سلام مع إسرائيل بعدما تعذر عليه اللحاق بركب أنور السادات في نهايات السبعينات.

عرفات في حديث مع حافظ الأسد خلال احتفالات ذكرى الثورة الليبية في طرابلس عام 1989 (أ.ف.ب)

بعد خروج قوات منظمة التحرير من لبنان إثر الغزو الإسرائيلي، اندلع التمرد في «فتح». في 1983، اتخذ عرفات قراراً يُشبه المجازفة الخطرة. وصل سراً إلى شمال لبنان وأشرف شخصياً على بناء متاريس وتحصينات في محيط المدينة. تصرف كمن يتحدى الأسد في «عقر داره» ويحاول استدراجه إلى الكشف عن دوره المباشر «لتأكيد أن قادة التمرد ومعهم أحمد جبريل (زعيم الجبهة الشعبية - القيادة العامة) ليسوا سوى أدوات في لعبة يديرها الأسد».

سألت سلطان عن تفسيره لعودة عرفات إلى طرابلس في شمال لبنان، فتذكر: «أراد عرفات أن يثبت للعالم كله أن سوريا (في ظل الأسد) هي جزء من مشروع ضرب المقاومة في لبنان. والحقيقة أن الأجهزة السورية لم ترحمهم. اغتالت سعد صايل («أبو الوليد» أحد أبرز القيادات العسكرية في تاريخ الثورة الفلسطينية) واعتقلت «أبو طعان» من قيادات «الكفاح المسلح» وفقأت عينه.

عرفات يستقل السفينة التي أقلته إلى تونس من ميناء بيروت (غيتي)

عاد عرفات ليكشف الأطراف الحقيقية في المواجهة. قام بحركة اعتراضية من خلال «حركة التوحيد» في طرابلس وجهات أخرى. طبعاً لم يكن عرفات يعتقد أن باستطاعته الانتصار على الجيش السوري عبر التحصّن في طرابلس. كان يريد كشف دور النظام السوري. طبعاً للأسف دفعت طرابلس ثمناً غالياً ولا تزال أحياء فيها مدمرة حتى اليوم. حصل الدمار حين تدخل الجيش السوري مباشرة واستخدم المدفعية. نعم الجيش السوري كان الطرف الحقيقي في مواجهة عرفات وما يقولونه عن أحزاب وفصائل كذب».

لم تكن الرعاية السورية لانشقاق تنظيم «الانتفاضة» عن «فتح» في 1982 سراً، واعتبرت محاولة جديدة من سوريا الأسد للإمساك بالقرار الفلسطيني، بذريعة أن عرفات يستعد للدخول في مساومات وتقديم تنازلات. لكن هل كان ما سمعته من عرفات لاحقاً عن دعم مالي من القذافي للتمرد صحيحاً؟ شاءت المهنة أن أحاور لاحقاً أحمد جبريل الذي لم يحاول يوماً إخفاء كراهيته لعرفات.

وكان جبريل اختار باكراً نهج التطابق مع نظام الأسد، مع امتياز إضافي هو العلاقة الوثيقة مع القذافي الذي لم يبخل عليه يوماً بالتسليح والتمويل. أمضيت ساعات مع جبريل في دمشق أقلب معه صفحات ذاكرته، بعد ما يزيد على عقد من «معركة طرابلس» التي اندلعت عام 1983 بين «فتح» من جهة، وسوريا الأسد والفصائل الموالية لها فلسطينياً بدعم من ليبيا القذافي من جهة أخرى. كان صريحاً. كان يفتح الإذاعة يومياً على أمل سماع خبر اغتيال عرفات على يد «إسلامبولي فلسطيني»، على غرار خالد الإسلامبولي الذي اغتال الرئيس المصري أنور السادات.

ولم يتردد جبريل في القول إنه أخذ قادة «الانتفاضة» في «فتح» إلى خيمة «الأخ العقيد» وانتهى الاجتماع بقرار ليبي بتقديم خمسة ملايين دولار شهرياً للانتفاضة الرامية إلى إسقاط عرفات وقد نفذ القذافي وعده.

سألت سلطان عن اتهام عرفات لحافظ الأسد بأنه حاول استكمال ما عجز شارون عن إنجازه، فرأى أن القصة ليست بسيطة على الإطلاق لكن في النهاية «استطاع الأسد أن يضعهم في مركب وأن يراهم يقيمون في فندق في تونس. طبعاً مع الالتفات إلى أن الأسد نجح في تحقيق سيطرة كاملة على لبنان. سيطرة لا سابقة لها. وكلنا نعرف كم رئيساً للجمهورية انتخب في ظل الإرادة السورية وكم حكومة شُكلت بإرادة سورية. لا أقصد القول إن كل من تعاون مع سوريا كان صناعة سورية. تعاونت معها قوى لها حيثية ووجود في الواقع السياسي اللبناني. كان على السياسي أن يختار طريق الواقعية كي لا يواجه مصير العميد ريمون إده الذي مات في المنفى لرفضه التعاون مع السيطرة السورية».

لم تقتصر الكراهيات العربية - العربية على علاقات عرفات مع حافظ الأسد. كان لبنان أيضاً مسرحاً للكراهية التي استحكمت بين «البعثين» العراقي والسوري وخصوصاً بين صدام حسين وحافظ الأسد.

يقول سلطان: «تعامل معنا صدام حسين بصدق. دعم (الحركة الوطنية) في لبنان وكان لفترة الداعم الوحيد لها. خصص لها مبلغ مليون دولار شهرياً كنا ننفقها على جريدة (الوطن) التي كان يرأس تحريرها المرحوم جوزيف سماحة وعلى المؤتمرات وبطاقات السفر والحراسات. طبعاً كان لدى الجانب العراقي برنامج معارض للدور السوري في لبنان. وقعنا في المنتصف بين الدورين. للأمانة نحن لم نتحزب مع العراق ضد سوريا. بقيت علاقتنا مع السوريين ولم يتسببوا في إيذائنا».

حين قال صدام: لا وحدة ولا حرية ولا اشتراكية!

استوقفني ما سمعه سلطان من صدام حسين حين زار وفد من «الحركة الوطنية» قيادة البعث العراقي التي عادت إلى السلطة في 1968. قال: «كان صدام نائباً للرئيس وكانت تربطني صداقة بطارق عزيز. صدام واضح وصريح ومعتد بنفسه وشجاع. قال لي: ما هي مبادئنا في حزب (البعث)؟ وحدة وحرية واشتراكية. وحدة لم نفعلها. الحرية ليست لدينا. أما بالنسبة إلى الاشتراكية كان هناك كم مصنع يعمل وباظت (فشلت). سمعت منه هذا الكلام وكانت المسافة بيني وبينه كالتي بيننا الآن. قال لنا صدام أيضاً: أنتم تتعاملون مع الاتحاد السوفياتي لكنكم لستم نظاماً، فلا تتوقعوا منهم أن يعاملوكم غير المعاملة الحالية.

في رحلة أخرى مع كمال جنبلاط لم يكن صدام موجوداً فالتقينا طه ياسين رمضان عضو القيادة (أصبح نائب الرئيس العراقي لاحقاً). كان غضبهم من سوريا واضحاً إلى حد أن رمضان دعانا إلى إلقاء قنابل المولوتوف على الدبابات السورية. انزعج جنبلاط ولم تكن الزيارة ناجحة».

العلاقة مع القذافي

في 1979 ومع التدهور العلني في العلاقات بين دمشق وبغداد تلقت «الحركة الوطنية» في لبنان أمراً سورياً صارماً مفاده أن الحصول على تمويل من العراق محظور تماماً. ساهمت دمشق في إقناع القذافي بتمويل «الحركة الوطنية»، فبدأ فصل طويل ومثير من العلاقة بين «الحركة» وأحزابها و«الجماهيرية الليبية».

وليد جنبلاط وتوفيق سلطان ومحسن إبراهيم (يسار الصورة) (أرشيف توفيق سلطان)

رحلة سلطان الأولى إلى ليبيا القذافي لم تكن موفقة. كان في عداد وفد صغير ضم أيضاً هاني الحسن عضو اللجنة المركزية لحركة «فتح» والتحق بهم ليلاً ياسر عرفات. قال إنهم التقوا مسؤولاً ليبياً، لكن اللقاء كان محرجاً وفاشلاً. قال: «طريقتهم في الكلام تنم عن استخفاف بكرامات الناس. سمعنا من الليبي عبارات من نوع شو تكونوا انتو؟ شو «الحركة الوطنية»؟ كانت الزيارة سيئة. الغريب أنني كنت في السيارة حين سمعت بياناً رسمياً يقول إن وفد «الحركة الوطنية» أشاد بالإنجازات العظيمة للثورة وإن وجهات النظر كانت متطابقة في المحادثات.

وجّه الليبيون لاحقاً دعوة إلى وليد جنبلاط. كان يعرف أن علاقتي سيئة بهم لكنه أبلغهم بإصراره على مشاركتي. ذهبنا فأنزلونا في باخرة. كان معنا عاصم قانصوه و(السياسيان اللبنانيان) أسامة فاخوري ومنح الصلح. أرادوا نقلنا بالطائرة من طرابلس إلى بنغازي للمشاركة في تظاهرة هناك على أن نعود للمشاركة في تظاهرة أخرى في طرابلس.

تذرّع فاخوري بتناول نوع معين من الدواء والصلح بأوضاعه الصحية. وكان وليد بالغ التوتر. فجأة وصل شخص ليبي وسأل عني فاستقبلته. قال: هناك دعوة إلى العشاء مع العقيد القذافي لوليد جنبلاط ولعاصم قانصوه ولك. ذهبت إلى وليد فقال: أنا لا أريد أن أذهب. اقتنع في النهاية. أخذتنا سيارة إلى ما يشبه حديقة برية في حالة فوضى وأجلسنا في مكان.

على مسافة نحو خمسة عشر متراً كانت هناك شرفة جلس عليها القذافي و(العاهل الأردني) الملك حسين و(الرئيس الإماراتي) الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان و(ولي العهد السعودي آنذاك) الأمير عبد الله بن عبد العزيز. لم يحفل أحد بنا. اغتنمت مناسبة مرور رئيس الأركان الليبي أبو بكر يونس فقلت له: هذا وليد جنبلاط فقبَّله. قلت له: لم يلتق القذافي. أخذنا إلى الشرفة وكانوا يشربون القهوة. أنا توجهت نحو الأمير عبد الله. توجه وليد إلى حافظ الأسد الذي عرّف وليد على الملك حسين. قبّل الأمير عبد الله وليد بصفته نجل صديقه كمال. وتلقى جنبلاط دعوات من الملك حسين والشيخ زايد واهتم به الجميع. بعد الجلسة، قال جنبلاط: «ظبطت معنا»، فأجبته: إذا حملت بندقية وذهبت إلى الصيد يمكن أن تصطاد. أما البقاء في البيت فلا يسمح بالصيد».


مقالات ذات صلة

فرنسا تنظر بإيجابية إلى التحولات الجارية في سوريا

المشرق العربي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ونظيره السوري أحمد الشرع يتصافحان بعد انتهاء مؤتمرهما الصحافي المشترك في قصر الإليزيه يوم 7 مايو الماضي (أرشيفية - أ.ف.ب)

فرنسا تنظر بإيجابية إلى التحولات الجارية في سوريا

بعد عام على سقوط بشار الأسد، تنظر فرنسا بإيجابية للتطورات الحاصلة في دمشق، وتعتبر أن سوريا مستقرة ضرورة للتوازن الإقليمي والدولي.

ميشال أبونجم (باريس)
المشرق العربي وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني (أ.ف.ب)

الشيباني: نشكر كندا على رفع اسم سوريا من قوائم الدول الراعية للإرهاب

شكر وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني «كندا على قرارها رفع اسم سوريا من قوائم الدول الراعية للإرهاب».

«الشرق الأوسط» (دمشق)
المشرق العربي عنصر من القوات السورية الجديدة بالقرب من صورة للرئيس المخلوع بشار الأسد وشقيقه ماهر في مقر الفرقة الرابعة بدمشق يناير الماضي (رويترز)

من منفاهما في روسيا... رئيس سابق للمخابرات السورية وابن خال الأسد يخططان لانتفاضتين

كشف تحقيق عن أن اثنين كانا ذات يوم من أقرب رجال بشار الأسد وفرَّا من سوريا بعد سقوطه، ينفقان ملايين الدولارات على عشرات الآلاف من المقاتلين المحتملين

«الشرق الأوسط» (دمشق)
المشرق العربي مركبة عسكرية إسرائيلية تسير في مرتفعات الجولان السوري المحتل... 18 ديسمبر 2024 (رويترز)

قوة إسرائيلية تتوغل في ريف القنيطرة بجنوب سوريا

قالت «الوكالة العربية السورية للأنباء»، اليوم (الجمعة)، إن قوة تابعة للجيش الإسرائيلي توغلت في ريف القنيطرة بجنوب البلاد.

«الشرق الأوسط» (دمشق)
المشرق العربي السفير الأميركي لدى تركيا والمبعوث الخاص لسوريا توماس براك خلال مقابلة مع وكالة «رويترز» في بيروت - لبنان - 22 يوليو 2025 (رويترز)

براك: على لبنان أن يناقش مع إسرائيل مسألة «حزب الله»

قال المبعوث الأميركي توم براك، اليوم (الجمعة)، إنه ينبغي للبنان أن يناقش مع إسرائيل مسألة «حزب الله»، معبّراً عن أمله في ألا توسع إسرائيل هجماتها على لبنان.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

«أونروا»: تمديد الأمم المتحدة عمل الوكالة يعكس تضامناً عالمياً مع اللاجئين الفلسطينيين

خيام تؤوي النازحين الفلسطينيين وسط الدمار الذي خلفه الهجوم الجوي والبري الإسرائيلي على مدينة غزة (أ.ب)
خيام تؤوي النازحين الفلسطينيين وسط الدمار الذي خلفه الهجوم الجوي والبري الإسرائيلي على مدينة غزة (أ.ب)
TT

«أونروا»: تمديد الأمم المتحدة عمل الوكالة يعكس تضامناً عالمياً مع اللاجئين الفلسطينيين

خيام تؤوي النازحين الفلسطينيين وسط الدمار الذي خلفه الهجوم الجوي والبري الإسرائيلي على مدينة غزة (أ.ب)
خيام تؤوي النازحين الفلسطينيين وسط الدمار الذي خلفه الهجوم الجوي والبري الإسرائيلي على مدينة غزة (أ.ب)

وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة، اليوم (الجمعة)، على تمديد عمل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) لمدة 3 سنوات إضافية، في خطوة قال مفوض الوكالة، فيليب لازاريني، إنها تعكس تضامناً عالمياً واسعاً مع اللاجئين الفلسطينيين.

وقال لازاريني، في منشور على «إكس»، إن قرار الأمم المتحدة «هو أيضاً إقرار بمسؤولية المجتمع الدولي في دعم الاحتياجات الإنسانية والتنموية للاجئي فلسطين، إلى حين التوصُّل إلى حل عادل ودائم لمعاناتهم المستمرة منذ عقود».

وزعمت إسرائيل، أوائل العام الماضي، أن 12 من موظفي «أونروا» شاركوا في الهجوم الذي شنَّته حركة «حماس» على جنوب إسرائيل في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 وأشعل الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة؛ مما دفع دولاً عدة، من بينها الولايات المتحدة إلى تعليق تمويل الوكالة.

وخلصت مراجعة، صدرت في وقت لاحق من ذلك العام أجرتها مجموعة عمل أممية، إلى أن إسرائيل لم تقدِّم أدلةً على مزاعمها بأنَّ موظفين في «أونروا» أعضاء في جماعات إرهابية.

وتأسست «أونروا» في 1949 بعد إعلان قيام إسرائيل على الأراضي الفلسطينية في العام السابق، وتقدم خدمات تعليمية وصحية، ومساعدات للاجئين الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية والأردن ولبنان وسوريا.


تقرير: سفير أميركا لدى الأمم المتحدة يبدأ غداً جولة تشمل إسرائيل والأردن

السفير الأميركي لدى الأمم المتحدة مايك والتز (أ.ف.ب)
السفير الأميركي لدى الأمم المتحدة مايك والتز (أ.ف.ب)
TT

تقرير: سفير أميركا لدى الأمم المتحدة يبدأ غداً جولة تشمل إسرائيل والأردن

السفير الأميركي لدى الأمم المتحدة مايك والتز (أ.ف.ب)
السفير الأميركي لدى الأمم المتحدة مايك والتز (أ.ف.ب)

أوردت وكالة «بلومبرغ» أن السفير الأميركي لدى الأمم المتحدة، مايك والتز، سيبدأ، غداً (السبت)، جولة في الشرق الأوسط تستمر أربعة أيام تشمل إسرائيل والأردن.

وقالت الوكالة إن والتز سيلتقي أثناء زيارته لإسرائيل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو والرئيس إسحاق هرتسوغ.

ويلتقي أثناء زيارته للأردن بالملك عبد الله الثاني ووزير الخارجية أيمن الصفدي لمناقشة دور الأردن في تسهيل دخول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة.


فرنسا: نظرة إيجابية إلى التحولات في سوريا رغم النواقص والصعوبات

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ونظيره السوري أحمد الشرع يتصافحان بعد انتهاء مؤتمرهما الصحافي المشترك في قصر الإليزيه يوم 7 مايو الماضي (أرشيفية - أ.ف.ب)
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ونظيره السوري أحمد الشرع يتصافحان بعد انتهاء مؤتمرهما الصحافي المشترك في قصر الإليزيه يوم 7 مايو الماضي (أرشيفية - أ.ف.ب)
TT

فرنسا: نظرة إيجابية إلى التحولات في سوريا رغم النواقص والصعوبات

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ونظيره السوري أحمد الشرع يتصافحان بعد انتهاء مؤتمرهما الصحافي المشترك في قصر الإليزيه يوم 7 مايو الماضي (أرشيفية - أ.ف.ب)
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ونظيره السوري أحمد الشرع يتصافحان بعد انتهاء مؤتمرهما الصحافي المشترك في قصر الإليزيه يوم 7 مايو الماضي (أرشيفية - أ.ف.ب)

في قراءتها للوضع في سوريا، بعد مرور عام على سقوط نظام الرئيس بشار الأسد وفراره إلى موسكو، تختار باريس المقاربة الإيجابية، رغم وجود تحفظات وعلامات استفهام حول مستقبل البلاد. هي تفضل قطعاً رؤية الكأس نصف الملآنة على الكأس نصف الفارغة. وتريد باريس أن تؤكد، بداية، أنها كانت سبّاقة في مواكبة الوضع في سوريا منذ الأيام الأولى؛ حيث أرسلت وفداً دبلوماسياً إلى سوريا بعد 9 أيام فقط على سقوط دمشق بأيدي فصائل المعارضة السابقة، فيما كان وزير خارجيتها، جان نويل بارو، أول من زار العاصمة السورية (مع نظيرته الألمانية) يوم 3 يناير (كانون الثاني). وكانت المحطة الثالثة في تحرك باريس باتجاه دمشق انعقاد مؤتمر لدعم سوريا في العاصمة الفرنسية بداية شهر فبراير (شباط).

تُوّج الحراك الدبلوماسي الفرنسي بزيارة الرئيس أحمد الشرع إلى باريس يوم 7 مايو (أيار)، وكان الرئيس إيمانويل ماكرون أول رئيس غربي يلتقيه الشرع. وخلاصة كل ذلك أن باريس «قررت الانخراط إلى جانب النظام الجديد في دمشق رغبة منها في التأثير عليه ودفع العملية الانتقالية في الاتجاه الصحيح المتلائم مع مصالح السوريين والمصالح الفرنسية الأمنية والإقليمية». وتشدد باريس على أهمية إضفاء نوع من الشرعية على الشرع من خلال استقباله في قصر الإليزيه ومناشدة ماكرون لرفع العقوبات التي كانت تخنق سوريا.

الأولويات الفرنسية في سوريا

بناءً على ما سبق، دارت الأولويات الفرنسية حول 4 محاور أولها المحور الأمني وأول مكوناته العمل على دفع سوريا إلى الانضمام إلى التحالف الدولي في الحرب ضد «داعش»، الأمر الذي تم رسمياً في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. والغرض من ذلك منع عودة الحركات والتنظيمات المتشددة. ويتوازى ذلك مع اهتمامين: التخلص من الأسلحة الكيماوية التي ما زالت تمتلكها سوريا ومحاربة إنتاج وتهريب المخدرات. ورغم أن هذا النشاط ما زال قائماً جزئياً، فإن باريس ترى أن السلطات السورية حققت «نتائج مهمة» في محاربته.

يتمثل المحور الثاني في دعم العملية الانتقالية، وأبرز معالمها تمسك باريس بأن تشمل جميع المكونات المجتمعية الإثنية والدينية، انطلاقاً من مبدأ قوامه أن الاستقرار «لا يمكن توافره إن لم يشعر كل مكوّن بالأمن ويتمتع بكامل الحقوق». وفي هذا السياق، تؤكد باريس أنها لعبت دوراً مهماً في التقريب بين «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) المُشكَّلة في غالبيتها من الأكراد، وبين نظام الحكم في دمشق، وكان باكورة مساهمتها توقيع اتفاق مارس (آذار) الماضي الذي أُلحق باتفاق آخر نهاية الشهر الماضي. لكن باريس تعترف بأن «الوضع لم يسوَّ» كلياً بين الجانبين، رغم أنه تم تجنب وقوع اشتباكات واسعة بينهما. وتنظر باريس بكثير من الأسى، من جهة، لما حصل في شهر مارس الماضي من انتهاكات في منطقة الساحل العلوية، وما تبعها في يوليو (تموز) في محافظة السويداء ذات الغالبية الدرزية. وفي الحالتين كان هناك دور لعناصر من السلطات السورية في هذه الأحداث التي أدانتها باريس وأكدت ضرورة محاسبة المسؤولين عنها انطلاقاً من مبدأ عدم الإفلات من العقاب.

متظاهرون في مدينة حماة الجمعة 5 ديسمبر بمناسبة الذكرى الأولى لسقوط نظام الرئيس بشار الأسد (رويترز)

ويندرج تحت المحور الأمني الانتهاكات المتلاحقة التي تقوم بها إسرائيل في الأراضي السورية، وهي انتهاكات تدينها فرنسا. وأشارت المصادر الدبلوماسية إلى أن باريس دعمت الجهود الأميركية للتوصل إلى اتفاقات أمنية بين سوريا وإسرائيل، وأنها، لهذا الغرض، استضافت لقاءات متعددة جمعت وزير الخارجية أسعد الشيباني ووزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر، بحضور المبعوث الأميركي توم برّاك. ولا تنسى باريس الدور الذي تقوم به لترسيم الحدود اللبنانية ــ السورية التي لم ترسّم منذ استقلال البلدين عن فرنسا في أربعينات القرن الماضي. يبقى أن باريس تشدد على أمرين إضافيين: الدعم الذي وفّرته للسكان إنسانياً وتربوياً واقتصادياً، من جهة، ومن جهة ثانية تفعيل التعاون الثقافي.

عقدة «المشاركة الجماعية»

رغم النظرة الإيجابية الإجمالية الفرنسية، فإن باريس لا تكتم قلقها سواء بشأن الأحداث الأمنية المتنقلة أو لصعوبة إعادة إطلاق الاقتصاد وعدم اكتمال عملية الانتقال السياسية. كذلك تتوقف باريس مطولاً عند عقدة «المشاركة الجماعية» لكل الأطراف في بنية الدولة السورية الجديدة وعلاقة المكوّنات ببعضها، وهي تنطلق من مبدأ تحديد «المعايير» الواجب الأخذ بها. وبرأيها أن الأخذ بالمعايير الأوروبية يبيّن بلا شك النواقص والعيوب وهذه كثيرة أكان بالنسبة لعلاقة المركز مع الأقليات أو بالنسبة للتعيينات في المراكز الحكومية والعسكرية أو بالنسبة لآلية الانتخاب النيابية والسلطات المعطاة للرئاسة أو لحضور المرأة أو لسيطرة السلطات على الأجهزة الأمنية وكذلك بالنسبة للعمل من أجل العدالة الانتقالية الضرورية.

ورغم ذلك كله تعتبر باريس أن العملية الانتقالية بكل شوائبها جاءت أقل درامية مما كان متوقعاً، وأن المخاوف من قيام «جمهورية إسلامية» لا تحترم الأقليات وحقوق المرأة ولا التوجهات الليبرالية لم تتحقق. والخلاصة التي كونتها باريس هي أنه يمكن النظر إلى الوضع السوري من مختلف الزوايا وهي نظرة تؤكد أن ثمة «أموراً إيجابية في العملية الانتقالية».

وتؤكد المصادر أن باريس على حوار متواصل مع السلطات السورية، بما في ذلك ما يخص استكمال أعضاء مجلس النواب والمقاعد المخصصة للنساء والدستور الانتقالي والعدالة الانتقالية وقانون الأحزاب... وكلها مسائل بالغة الأهمية في نظر فرنسا.

وتنظر باريس بقلق، بحسب المصادر الدبلوماسية، لما تقوم به إسرائيل في سوريا. وتؤكد المصادر أن موقف باريس «واضح ويقوم على دعوة إسرائيل لسحب قواتها من الأراضي التي احتلتها بعد سقوط نظام الأسد والعودة إلى خط فك الاشتباك لعام 1974». وتضيف المصادر أن باريس أعربت مراراً عن قلقها من التطورات الجارية وأن هناك مصادر قلق للطرفين يتعين التعامل معها. وتبدو باريس سعيدة بأن الملف السوري يحظى بنوع من الإجماع الدولي باعتبار أن «سوريا مستقرة تعد ضرورة للتوازنات الإقليمية والدولية». وتبدو باريس كذلك سعيدة بالانخراط الأميركي إلى جانب استقرار سوريا بما في ذلك ما تقوم به إسرائيل في هذا البلد والذي يهدد الحكومة السورية.