شي جينبينغ... الإمبراطور الجديد ابن الأرض الصفراء

الصحافي البريطاني شيريدان يتناول شخصيته في الوقت المناسب

شي جين بينغ في إحدى الاجتماعات الرسمية
شي جين بينغ في إحدى الاجتماعات الرسمية
TT
20

شي جينبينغ... الإمبراطور الجديد ابن الأرض الصفراء

شي جين بينغ في إحدى الاجتماعات الرسمية
شي جين بينغ في إحدى الاجتماعات الرسمية

مع عودة الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى البيت الأبيض زعيماً لدولة العالم العظمى، يبدو مسرح السياسة الدّوليّة خالياً من شخصيات يمكن أن تكون نِدّاً تاماً له، باستثناء الرئيس الصيني شي جينبينغ، الذي يقود ثاني أكبر اقتصاد في العالم والمنافس الرئيس للولايات المتحدة.

لكن بينما يملأ ترمب الدنيا ويشغل الناس، ويتابع الملايين في الولايات المتحدة وحول العالم يومياته وتصريحاته وتغريداته، فإن هنالك الكثير عن الزعيم الصيني شي غير متداول، ولا توجد مصادر حديثة عنه تتوفر للقارئ العادي المعاصر، ولذلك؛ فإن كتاب الصحافي البريطاني مايكل شيريدان الجديد «الإمبراطور الأحمر: شي جينبينغ والصين الجديدة» يأتي في وقت مناسب لإلقاء الضوء على الشخصيّة التي ستكون الثقل المقابل لـ«الرجل البرتقالي» طوال السنوات الأربع المقبلة.

النفَسُ الحاكم للكتابِ، المنسوجِ على خط التقاطع بين النص الأكاديمي والتغطية الصحافيّة، يقدّم الزعيم شي بوصفه شخصيّة شديدة التعقيد ورجلاً عنيداً وصلباً، لكنّه عانى مع ذلك من تجارب قاسية في مرحلة الطفولة، وقائداً براغماتياً لا يزال يحتفظ بتقدير عميق للآيديولوجية الماركسيّة - اللينينية، وصعد إلى أعلى مراتب القيادة في الحزب الشيوعي الصيني الحاكم مع أنّه تعرّض هو ووالده - شي تشونغشون - لاضطهاد السلطات الشيوعية إبان مرحلة الثورة الثقافيّة (1966 - 1976).

يكرّس شيريدان كثيراً من الاهتمام لـ«شي» الأب الذي كان شريكاً للرئيس ماو تسي تونغ، وترقى إلى رتبة نائب رئيس الوزراء قبل تطهيره في عام 1962، حيث سُجن وأُجبر على القيام بنقد ذاتي، وكُلّف بعمل يدوي في مصنع للجرارات، فقضى 16 عاماً متتابعة متوارياً عن أضواء السياسة، قبل أن يعاد تأهيله السياسيّ في عام 1978 ويستأنف نشاطه الحزبي.

في تلك الأثناء وجد شي الابن نفسه منفياً إلى قرية فقيرة في الريف لمدة 7 سنوات يمارس العمل الشاق في الحقول مع المزارعين، فتذوق طعم الفقر والإذلال العلني - بصفته ابناً لمسؤول كبير فقد ثقة الحزب - بعيداً عن رعاية والديه. على أن أقسى لحظاته على الإطلاق كانت خلال عقد قلاقل الثورة الثقافية، عندما دشّن الزعيم الصيني ماو تسي تونغ «ثورة البروليتاريا الثقافية الكبرى» ضد من سماهم «ممثليّ البورجوازية» الذين اخترقوا الحزب الشيوعي، معلناً أنه سيعمل على اجتثاثهم؛ إذ خضع شي المراهق وقتها لأكثر من 12 «جلسة مراجعة»، كانت نوعاً من الإذلال العلني للأشخاص الذين عُدّوا «أعداء طبقيين». وقد سُجن حينها أيضاً، وأصيب بالجوع، وغزت ثيابه البراغيث. ويروي شيريدان أن «شي نجح في الفرار من السجن في إحدى الليالي المظلمة، وركض عبر أزقة بكين الغارقة في الأمطار إلى منزله متأملاً الحصول على وجبة ساخنة، وملابس نظيفة جافة. لكن والدته؛ التي ارتجفت هلعاً على سلامة أشقائه، رفضت استقباله، وأبلغت السلطات عن هروبه؛ لأنها كانت تعلم أن منزلها مراقب، وعقوبات لا نهاية لها ستطولها وأسرتها».

يقول المؤلف إن هذه المرحلة من حياة شي؛ على دورها التأسيسي لشخصيته لاحقاً بصفته زعيماً سياسياً لدولة عظيمة، لم تكن سوى واحدة من كثير من المحن التي مرّ بها في عصر التقلبات الثوريّة، والتي صقلت عناده، وشكلّت مرجعيات أدائه المهني. ولاحقاً تبدو مرحلة انهيار الاتحاد السوفياتي في عام 1991 حدثاً تأسيسياً آخر له، وهي لحظة من التاريخ ترددت أصداؤها في أروقة «الحزب الشيوعي الصيني» أكثر من غيره، وعدّها شي نتاج هفوات في اتباع الآيديولوجيّة الماركسيّة من قبل الرّفاق في موسكو، قائلاً، وفق محضر اجتماع رسمي طبق وثائق الحزب: «كان أحد الأسباب المهمة هو أن الصراع في الإطار الآيديولوجي كان شديداً للغاية، حيث نُفي تماماً تاريخ الاتحاد السوفياتي، ونُفي تاريخ الحزب الشيوعي، ونُفي لينين، ونُفي ستالين، وخُلقت عدمية تاريخية وتفكير مشوش». ويزعم شيريدان أن جوزيف ستالين؛ الزعيم البلشفي الذي تولى حكم الاتحاد السوفياتي بعد فلاديمير لينين، يمتلك التأثير الأكبر على شي وكثير من الشيوعيين الصينيين؛ إذ بالنسبة إليهم كان هو باني الجسر الذي نقل الماركسية اللينينية إلى رفاقهم مؤسسي «الحزب الشيوعي الصيني»، والاتحاد السوفياتي في عهده (1922 - 1953) يعدّ نموذجاً ملهماً للثورة والمقاومة والبقاء.

يرى شيريدان أن الحلقة الأعلى دراميّة في سيرة شي ربما تمثلت في قراره عام 2014 إطاحة تشو يونغ كانغ، الذي أصبح أعلى مسؤول يجري إسقاطه بسبب الفساد منذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية في عام 1949. فالرجل كان مديراً لوكالة الأمن الصينية الهائلة وعضواً في المكتب السياسي لـ«الحزب الشيوعي»؛ أي نواة القوّة الحاكمة في الصين، مما أثار لدى اعتقاله موجة من الذهول على كل المستويات. لكن تبين في المحاكمات أنّه استغل منصبه لمآرب جنسيّة، وصودرت أصول امتلكها بطرق ملتوية تزيد قيمتها على 10 مليارات دولار أميركي؛ بما في ذلك مئات الشقق والعقارات، و60 سيارة فاخرة، ومقتنيات من الذهب، والفضة، والمجوهرات، والتحف، واللوحات، والمشروبات الكحوليّة المعتّقة، ناهيك بمبالغ نقدية ضخمة بعملات أجنبية. وبينما حُكم على تشو بالسجن مدى الحياة، تكرّست زعامة شي، في المقابل، شعبياً ورسمياً.

يقدّم الكتابُ الزعيمَ شي بوصفه شخصيّة شديدة التعقيد ورجلاً عنيداً وصلباً... لكنّه عانى من تجارب قاسية في مرحلة الطفولة

شيريدان، الذي كان مراسلاً لـ«صنداي تايمز» البريطانية من الشرق الأقصى لنحو 20 عاماً، واستفاد من هيوارد تشانغ، الرئيس السابق لـ«الخدمة الصينية» في «بي بي سي» للوصول إلى مواد قد لا تتوفر للعموم باللغة الصينية، كما من علاقات واسعة متشعبة له مع خبراء غربيين وصينيين عملوا في الغرب، وضباط استخبارات، أضاء على حياة شي الشخصيّة والمهنية، متجنباً بحذق السقوط في شرك التحليل النفسي وفرض المواقف الذاتية للمؤلف كما في كثير من الكتب الغربيّة عن قادة الصين. على أنّ السرد لا يتصدى على نحو كافٍ لتوصيف المزاج الفكريّ للرئيس شي، ربما انعكاساً لفهم خاطئ متفشٍّ في بعض الدوائر الغربيّة عنه بوصفه سياسياً براغماتياً مع قليل من القناعات الآيديولوجية.

ولكن الحقيقة أن ثمة فلسفة مؤدلجة تحكم أداء شي العام منذ توليه عام 2012 المنصب الأهم في هيكلية القيادة بالصين ضمن ثلاثية «الحزب والدولة والجيش»، وهي أقرب ما تكون إلى نسخة قومية صينية من «الماركسيّة - اللينينية»، تمنح الزعيم الحافز والدافعية لقيادة نهضة جديدة لبلاده على أسس تعزيز المركزية في صنع القرار، ودور الدّولة الرئيس في توجيه الاقتصاد وتنظيم الأسواق، وتدعيم قدرة الجيش على مواجهة التحديات الغربيّة في إطار نهج من السياسة الخارجية الأشد حزماً وتقبلاً لفكرة «التصادم مع الأعداء إن تطلب الأمر».

بالاعتماد على القصص المتداولة في العالم المغلق للعائلات الرائدة في الصين، كما وثائق وسجلات لا تتوفر للأكثرية من المراقبين، يقدم كتاب «الإمبراطور الأحمر» بانوراما غنيّة عن تاريخ الصين المعاصرة، وسياساتها في العقد الأخير، عبر سيرة وافية لشخصية زعيم كبير يدرك تماماً طبيعة لعبة السلطة، ويمتلك سلطات نافذة على شؤون 1.4 مليار من البشر؛ مما يدفع القارئ إلى الاستنتاج أنّه خلف واجهة «الحزب الشيوعي الصيني» اليوم ثمة «سلالةٌ حديثةٌ» لديها شعور عميق باستحقاق حكم البلاد - بناء على انتصارات أسلافهم - والأهم «إمبراطورٌ جديدٌ»، ابن للأرض الصفراء، قد عقد العزم على أن تتبوأ الصين دور الهيمنة على الشرق.

The Red Emperor: Xi Jinping and His New China» by Michael Sheridan, Headline Press, 2024»


مقالات ذات صلة

عمر بن أبي ربيعة شاعر الأنوثة الهاربة والعبث المأساوي

ثقافة وفنون عمر بن أبي ربيعة شاعر الأنوثة الهاربة والعبث المأساوي

عمر بن أبي ربيعة شاعر الأنوثة الهاربة والعبث المأساوي

قلّ أن ارتبط اسم شاعر عربي عبر العصور بالمرأة والحب، كما هو حال عمر بن أبي ربيعة.

شوقي بزيع
ثقافة وفنون تمثال أنثوي من محفوظات متحف البحرين الوطني في المنامة

دمية جنائزية من مقبرة الشاخورة الأثرية في البحرين

تحوي مملكة البحرين سلسلة من المقابر الأثرية، من أبرزها مقبرة تُعرف باسم الشاخورة، نسبةً إلى القرية التي تجاورها.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون محفوظ يكشف عن مزاجه وعلاقته بالموسيقى... والخريف

محفوظ يكشف عن مزاجه وعلاقته بالموسيقى... والخريف

لأول مرة، يجمع عمل واحد كل ما قاله نجيب محفوظ حول أسرار فن الكتابة لديه وطقوس الإبداع، من واقع تجربته العملية الخاصة،

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون حاجتنا إلى الفن

حاجتنا إلى الفن

لا توجد لحظة أفضل للتأمل في معنى الفن وحاجتنا إليه من لحظة غيابه الكامل عن جهاتنا الحسيّة، عندما تجلس وحيداً في صمت،

خالد الغنامي
ثقافة وفنون رواية تمزج تقاليد الأدب الروسي بالحداثة الفرنسية

رواية تمزج تقاليد الأدب الروسي بالحداثة الفرنسية

تتميز تجربة الكاتب جايتو جازدانوف «1903 - 1971» بسمات وخصائص عدة فريدة من نوعها، فهي تمزج تقاليد الأدب الروسي العريقة بالحداثة الفرنسية،

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

طهران تواجه لحظة الحقيقة

محسن ميلاني
محسن ميلاني
TT
20

طهران تواجه لحظة الحقيقة

محسن ميلاني
محسن ميلاني

في قلب المشهد الجيوسياسي الملتهب في الشرق الأوسط، ثمة قوة إقليمية تبدو موجودة دائماً، بشكل أو بآخر، في خلفية الحدث اللحظي: إنها إيران. فسواء كنا نتحدث عن هجوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) (2023) وما تلاه من عدوان واسع النطاق على قطاع غزّة، أو عن الاعتداءات الإسرائيلية التي لا تتوقف على مواقع الفصائل الفلسطينية في الضفة الغربيّة المحتلة، أو الحرب الإسرائيلية الأحدث على «حزب الله» في لبنان، أو الصدام الأميركي - الإسرائيلي مع الحوثيين عبر البحر الأحمر، أو الانقلاب الصاعق في سوريا الذي أطاح حكم الرئيس الأسد حليف طهران العريق، فإن الجمهوريّة الإسلاميّة دائماً في مكان ما من الصورة. وتكتسب الحكاية الآن زخماً أكثر، مع عودة الرئيس الجمهوري دونالد ترمب مجدداً إلى البيت الأبيض، بسياسته الأكثر ميلاً إلى المواجهة مع طهران، وتقاربه مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي يحلم بألا ينهي عهده بعد عشرين عاماً في السلطة إلا وإيران قد جُرّدت من القدرة على إنتاج السلاح النووي.

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

ولذلك؛ فإن فهم مسار صعود النفوذ الإقليمي لإيران وخلفيات مأزقها الاستراتيجي الحالي ممر أساسي لكل ممارسي السياسة في الشرق الأوسط، ومادة لا غنى عنها للمعنيين بتفكيك خطوط الوقائع ورسم تصورات حول السيناريوهات المستقبلية التي تواجهها دول المنطقة وشعوبها. لكن الحقيقة أن فهماً دقيقاً لهذه الصورة الشديدة التشابك من خلال المقالات والتحليلات الصحافية والبرامج الإخبارية على الشاشات يبدو متعذراً؛ نظراً للانحيازات الكثيرة والمواقف المسبقة لمختلف الأطراف ذات العلاقة، والمنهجيّة الاستشراقيّة التي تحكم خطاب الغرب عن الإقليم، ناهيك عن المضامين الآيديولوجيّة التي قد تحمّل بها آراء أصحاب الرأي، في حين تتسم الكتابات الأكاديمية المحض بكثير من التجريد والتعقيد؛ ما يبعدها عن متناول القارئ غير المتخصص.

وهذا كلّه يجعل من صدور كتاب الباحث والمدير التنفيذي لمركز الدراسات الاستراتيجية والدبلوماسية محسن ميلاني عن «صعود إيران وتنافسها مع الولايات المتحدة في الشرق الأوسط - 2025*» مدعاة للاحتفاء، حيث يقدّم فيما يقرب من 350 صفحة تأريخاً مكثفاً لنشأة النفوذ الإيراني وصعوده خلال السبعين عاماً الأخيرة، والآفاق التي انتهى إليها في منعطف تبادل السلطة بين الديمقراطيين والجمهوريين في واشنطن.

يركز الكتاب بشكل أساسي على العقود التي تلت ثورة 1979، لكنّه يغطي أيضاً، وإن بإيجاز، فترة حكم الشاه محمد رضا بهلوي خلال الفترة (1941 - 1979)؛ ما ينبّه إلى أن الكثير من تحالفات إيران الإقليمية استمرت عبر العهدين. ويقول ميلاني إن نظام الشاه توجه خلال الستينات من القرن الماضي إلى تمكين الشيعة المهمشين بصفتهم قوةً مضادة ضد ازدهار القومية العربية في لبنان، كما مدّ يد المساعدة العسكرية إلى الملكيين المناهضين لجمال عبد الناصر في الحرب الأهلية في شمال اليمن (1962 - 1970).

ويصف المؤلف بالتفصيل دور الحرب العراقية - الإيرانية خلال عقد ثمانينات القرن الماضي في تثبيت أسس النظام الإسلامي الجديد في طهران؛ إذ رغم الخسائر الفادحة التي تكبَّدها الإيرانيون في ثماني سنوات من القتال الدموي، فإن الناس احتشدوا للدفاع عن بلادهم وراء النظام الجديد حينها، كما تكرّست مكانة «الحرس الثوري»، الذي كان له دور كبير لاحقاً في تأسيس ودعم الميليشيات الدينية في العراق، ولبنان، واليمن، وفلسطين، وغيرها.

وبحسب ميلاني، فإنه مع حلول مطلع القرن الجديد كانت القوة الإقليمية للجمهورية الإسلامية قد بلغت ذروتها؛ إذ كان العراق ضعيفاً بعد الحروب المتعددة وسنوات الحصار الدّولي، في حين كانت العلاقة مع سوريا قوية، وأصبح «حزب الله» قوة فاعلة سياسياً وعسكرياً في لبنان، وأمدت طهران بالمال والسلاح مقاومين فلسطينيين في الضفة الغربيّة وقطاع غزة كاسرة حدود الآيديولوجيا بين الشيعي والسنيّ.

ويجادل المؤلف بأن حدثين مفصليين بينهما عشرون عاماً تقريباً شكَّلا فضاء هذه القوة تمدداً وتقلصاً: الأول كان الغزو الأميركي للعراق في عام 2003 والإطاحة بعدو إيران الرئيسي، صدام حسين، وما أعقبه من فوضى طويلة الأمد أصبحت خلالها إيران لاعباً أساسياً مؤثراً في الشأن العراقي، وشريكاً ضمنياً للولايات المتحدة في دعم النظام الجديد في بغداد الذي نشأ على أنقاض حكم البعث. أما الحدث الآخر الحاسم، والذي بدا أنّه نقطة التحوّل النوعي نحو انكماش النفوذ الإيراني في المنطقة – وهو مسار بدأ مع اغتيال الجنرال قاسم سليماني في بغداد بمسيَّرة أميركية عام 2020 - فقد كان الهجوم الذي نفذته حركة «حماس» المدعومة من طهران على المواقع الإسرائيلية في غلاف غزّة، الذي كان لحظياً بمثابة نجاح تكتيكي مبهر، قبل أن يتسبب بكارثة هائلة لسكان قطاع غزة و«حماس»، وفتح بوابة جحيم أدت فيما أدت إليه من تحجيم قوة «حزب الله» في لبنان بعد حرب الشهرين الأخيرة مع الجيش الإسرائيلي، والتدخل الأميركي والبريطاني للحد من هجمات الحوثيين على الملاحة المتجهة إلى إسرائيل في البحر الأحمر - وتالياً سقوط النظام في دمشق، وإن كان الكتاب أُرسل للطباعة قبل الحدث المفاجئ في ديسمبر (كانون الأول) العام الماضي ولم يتسن تغطيته ضمن النص -.

ويبدو أن الدّولة العبرية مصممة الآن على استغلال لحظة الانكماش الإيراني هذه لتطهير حدودها نهائياً من الميليشيات المدعومة من طهران، وتدفع حليفتها، الولايات المتحدة، للعمل سويّة على تنفيذ ضربة عسكرية استباقية مشتركة لتدمير منشآت إيران النووية تحت الأرض.

ميلاني الذي كان زميلاً باحثاً في جامعات هارفارد (الولايات المتحدة) وأكسفورد (بريطانيا) وفوسكاري (إيطاليا) يدفع القارئ إلى الاستنتاج بأن إيران اليوم أضعف مما كانت عليه خلال مرحلة الحرب العراقية - الإيرانية، في حين تواجه الآن مع ولاية الرئيس دونالد ترمب الثانية معضلة استراتيجية هائلة في مسرح انقلب عليها كليّة: فهل تتقبل خسارتها وتسعى إلى صفقة جديدة مع (الشيطان الأكبر) تحفظ النظام وتطيل عمره ولو على حساب إعادة صياغة كليّة لطبيعة دورها الإقليميّ، أم تخاطر بتسريع برنامجها النووي والصاروخي لامتلاك أدوات ردع تسمح لها بحماية النظام ذاتياً، وتكسبها مكاناً على طاولة الشرق الأوسط المزدحمة باللاعبين الكبار؟

يشدد ميلاني على أن الأولوية القصوى لقادة إيران في مواجهة هذه المعضلة تظل الحفاظ على النّظام، على الرغم من تآكل تأييد الشعب الإيراني له. يقول: «اليوم، أصبحت الجمهورية الإسلامية منفصلة بشكل متزايد عن حياة الإيرانيين العاديين، وتبدو الدولة وكأنها تسير في اتجاه لا مستقبل له» في ظلّ التطورات في الإقليم والعالم، وإن استمرار النظام في استراتيجيته الإقليمية لأسباب آيديولوجية قد يمدّد من سيطرته على البلاد، لكنه لن يصبّ في مجرى المصالح الوطنية الإيرانية على المدى البعيد. ولعل هذه النقطة تحديداً هي نقطة ضعف في طرح الكتاب؛ إذ إن العنوان الذي اختاره يشير إلى نوع من صراع النفوذ والتنافس الجيوستراتيجي مع الولايات المتحدة في الإقليم، لكن الواقع، وهو ما يظهره المؤلف نفسه في نقاط مختلفة، بأن تمدد إيران في الإقليم أقرب إلى سياسة دفاعيّة تستهدف منح نظام رجال الدين شرعيّة السلطة في دولة يبلغ تعداد سكانها نحو تسعين مليون نسمة، غالبيتهم الحاسمة وُلدوا بعد الثورة، ولم تعد تعنيهم تلك التجربة التاريخيّة كثيراً في مواجهة ظروف الحصار الاقتصادي الخانق الذي تعيشه بلادهم منذ أكثر من أربعة عقود.

Iran’s Rise and Rivalry with the US in the Middle East by Mohsen M Milani 2025 Oneworld Publications