لماذا تؤثر الطفرات الجينية المسببة للأمراض على بعض الأشخاص دون غيرهم؟

بسبب اختيار الخلايا لجينات الأم أو الأب

لماذا تؤثر الطفرات الجينية المسببة للأمراض على بعض الأشخاص دون غيرهم؟
TT
20

لماذا تؤثر الطفرات الجينية المسببة للأمراض على بعض الأشخاص دون غيرهم؟

لماذا تؤثر الطفرات الجينية المسببة للأمراض على بعض الأشخاص دون غيرهم؟

قلبت دراسة جديدة أجراها باحثون من جامعة «كولومبيا» في الولايات المتحدة مبدأ من مبادئ علم الوراثة رأساً على عقب، وكشفت عن السبب وراء عدم ظهور أي أعراض على بعض الأشخاص الذين يحملون جينات مسببة للأمراض. وقد كشفت الدراسة عن آلية رائدة تفسر لماذا يعاني الأفراد الذين لديهم طفرات جينية متطابقة غالباً من نتائج صحية مختلفة تماماً.

ويلقي هذا الاكتشاف الضوء على أسئلة قديمة حول التنوع الجيني، ويقدم طرقاً واعدة لتطوير التشخيص والعلاج. وقد حيّرت هذه الأسئلة العلماء والأطباء لعقود من الزمن، ماذا يحدث عندما تميل الخلايا أكثر نحو جينات أحد الوالدين أكثر من الآخر؟ ولماذا يظل بعض الأفراد الذين يرثون الطفرات الجينية المسببة للأمراض من والديهم غير متأثرين بينما يعاني آخرون من الطفرة نفسها من أعراض منهكة؟

قد تقدم للدراسة الجديدة التي نُشرت في مجلة «Nature» في 1 يناير (كانون الثاني) 2025، بقيادة دوسان بوجونوفيتش بمركز «كولومبيا للأخطاء الوراثية في المناعة» بكلية «فاجيلوس للأطباء والجراحين»، جامعة «كولومبيا» بنيويورك بالولايات المتحدة الأميركية، وآخرين، بعض الإجابات.

اختيار جين الأب أو الأم

باستثناء الحيوانات المنوية والبويضات، فإن جميع خلايا الجسم الأخرى تحتوي على نسختين من كل جين: نسخة موروثة من كل من الوالدين. وكان من المفترض أن النسختين تلعبان دوراً متساوياً في وظيفة الخلية، إلا أن الأبحاث في السنوات الأخيرة أظهرت أن هذا ليس الحاصل دائماً، فقد تظهر بعض الخلايا تحيزاً، فتقوم بشكل انتقائي بتعطيل نسخة أحد الوالدين من الجين، وعلى الرغم من أن هذه الظاهرة المعروفة باسم التعبير الأحادي الأليل MAE monoallelic expression تم تحديدها لأول مرة منذ أكثر من عقد من الزمان، فإن قدرتها على التأثير على نتائج المرض لم تظهر إلا مؤخراً.

ماذا يعني تعبير الأحادي الأليل؟ كان يُعتقد تقليدياً أن نسختي الجين، واحدة من كل والد، نشطتان بشكل متساوٍ في الخلية. ومع ذلك يحدث التعبير الأحادي الأليل عندما تقوم الخلية بتنشيط نسخة أحد الوالدين من الجين بشكل انتقائي بينما تسكت الأخرى. وهذا التعبير الانتقائي يؤثر على ما يقرب من 5 في المائة من الجينات في الخلايا المناعية، ويختلف حسب نوع الخلية، ويمكن أن يتغير بمرور الوقت. وتقدم هذه الظاهرة تبايناً غير متوقع في كيفية ظهور المعلومات الجينية في الصحة والمرض.

وبناء على ما قاله دوسان بوجونوفيتش سنرى في كثير من الأمراض أن 90 في المائة من الأشخاص الذين يحملون طفرة هم مرضى، لكن 10 في المائة ممن يحملون الطفرة لا يمرضون على الإطلاق. وباستخدام فريق دولي من المتعاونين نظر الباحثون إلى عائلات كثيرة تعاني من اضطرابات وراثية مختلفة تؤثر على أنظمتها المناعية، في كل حالة كانت النسخة المسببة للمرض أكثر عُرضة للنشاط لدى المرضى وقمعها لدى الأقارب الأصحاء الذين ورثوا الجينات نفسها.

ويعد هذا الاكتشاف ذا أهمية، خاصة فيما يتعلق بالأخطاء الخلقية في المناعة inborn errors of immunity (IEIs) وهي مجموعة من الاضطرابات الوراثية التي تؤثر على الجهاز المناعي، مما يؤدي إلى قابلية الإصابة بالعدوى، وأمراض المناعة الذاتية، والالتهابات، والحساسية، والسرطان.

ومع وجود أكثر من 450 جيناً مرتبطاً بالأخطاء الخلقية في المناعة، يختلف طيف الأعراض وشدتها على نطاق واسع، حتى بين الأفراد الذين يحملون الطفرة الجينية نفسها. وعادة ما تُعد الأخطاء الخلقية في المناعة أمراضاً أحادية الجين وناجمة عن طفرة جينية واحدة.

ومن الناحية النظرية، يجب أن يؤدي وجود طفرة إلى نتائج يمكن التنبؤ بها، ومع ذلك في الممارسة العملية يظل بعض الحاملين من دون أعراض، بينما يعاني آخرون من حالات تهدد الحياة، كما يساعد فهم كيفية تأثير التعبير الأحادي الأليل على الأخطاء الخلقية في المناعة في تفسير سبب اختلاف هذه الاضطرابات من شخص لآخر.

أخطاء المناعة الخلقية

تركز الدراسة على الأخطاء الوراثية في المناعة، وهي اضطرابات وراثية تؤثر على الجهاز المناعي. وعلى الرغم من كونها أحادية الجين (ناجمة عن طفرات في جين واحد)، فإن الأفراد المصابين بأخطاء المناعة الخلقية غالباً ما يعانون من مجموعة واسعة من الأعراض من الخفيفة إلى المهددة للحياة. كما تؤثر أخطاء المناعة الخلقية على كيفية التعبير عن جينات معينة مرتبطة بالمناعة، مثل جينات STAT1 وCARD11، فعلى سبيل المثال، أظهر الأفراد الذين لديهم الطفرة نفسها في هذه الجينات أعراضاً مختلفة تماماً بسبب الأليل (الأم أو الأب) النشط، ولا تقتصر أخطاء المناعة الخلقية على الجينات المرتبطة بالمناعة، بل من المرجح أن تسهم الظاهرة في التباين في مجموعة واسعة من الأمراض الوراثية.

ويمكن أن يُساعد تحليل التعبير الأحادي الأليل في الخلايا في فهم شدة الأمراض لدى الأفراد الذين يحملون الطفرات الوراثية نفسها إذا تمكن العلماء من استهداف النسخ الجينية المسببة للمرض، وتثبيطها، أو تعزيز النسخ السليمة؛ إذ قد يؤدي ذلك إلى تخفيف الأعراض، أو منع تطور المرض، وقد يُسهم التعبير الأحادي الأليل في تفسير كيفية تطور الأورام، واختلاف استجابتها للعلاج.

تشير هذه الدراسة إلى أن فهم التعبير الأحادي الأليل يمكن أن يفتح أفقاً جديداً في تشخيص وعلاج الأمراض الوراثية، ويُقدم رؤى حول كيفية تأثير الوراثة والبيئة على الصحة، وبينما يصف بوجونوفيتش هذه النتائج بأنها «مجرد غيض من فيض»، فإنها تقدم دليلاً قوياً على أهمية دراسة كيفية تفاعل الجينات مع البيئة والجسم لفهم الأمراض المعقدة.



التوتر «الجيد» والتوتر «السيئ»... كيف نميّز بينهما؟

التوتر «الجيد» والتوتر «السيئ»... كيف نميّز بينهما؟
TT
20

التوتر «الجيد» والتوتر «السيئ»... كيف نميّز بينهما؟

التوتر «الجيد» والتوتر «السيئ»... كيف نميّز بينهما؟

سواء كنتَ على دراية بأعمال الفيلسوف فريدريك نيتشه أو كنت من معجبي المغنية كيلي كلاركسون، فربما سمعت على الأرجح عبارة «ما لا يقتلك يجعلك أقوى What doesn’t kill you makes you stronger». وعلى الرغم من أن هذه العبارة تبدو كأنها تشجيع على المثابرة في الأوقات الصعبة، فإنها صحيحة علمياً أيضاً، كما يقول جيف كراسنو، مؤلّف كتاب «التوتر الجيد»: «الفوائد الصحية للقيام بالأشياء الصعبة».

التوتر الجيد: التحديات تعزز المرونة والرفاهية

يقول كراسنو: «إن التوتر، سواء كان ناتجاً عن تحديات جسدية مثل الغطس في حمامات الثلج أو الضغوط النفسية مثل تلك التي تحصل في أثناء المحادثات الصعبة، يعزز المرونة والرفاهية على المدى الطويل. المفتاح في ذلك يكمن في التفريق بين التوتر الجيد والتوتر السيئ واستخدام الأول لصالحك». لفهم الفرق بين التوتر الجيد والسيئ، يقدم كراسنو هذا المثال: «إذا كنت تتنزه سيراً على الأقدام وصادفت أفعى مجلجلة على الطريق، فمن المحتمل أن يكون لديك استجابة للتوتر الناشئ تلبي الضرورة البيولوجية للبقاء على قيد الحياة». ويقول: «المشكلة في التوتر المعاصر بالنسبة إلى الكثير من الناس هي أن الأفعى المجلجلة لا تفارق الطريق أبداً».

التوتر السيئ مقابل التوتر الجيد

يعيش كثير منَّا في حالة من «الاِحْتِداد المزمن» الذي يشمل المشقة الشخصية، والإرهاق في العمل، والصدمات السابقة، ووسائل التواصل الاجتماعي التي تعمل على مدار 24 ساعة المصممة لإبقاء الناس في حالة من اختطاف اللوزة الدماغية.

يقول كراسنو: «نحن نعيش في اقتصاد قائم على جذب الانتباه، حيث يتنافس الجميع على خطف تركيزك في كل لحظة من خلال مستويات متزايدة من الإثارة والفضائح والخوف والغضب. وهذا يُبقي الناس في حالة من التوتر المزمن، وهذا في الحقيقة الوقت الذي يكون فيه التوتر سيئاً حقاً».

التوتر الجيد نابع من مشقّات الأسلاف

من ناحية أخرى، ينبع التوتر الجيد من المضايقات التي عانى منها أسلافنا. يقول كراسنو: «لقد تطورنا على مدى مئات الآلاف من السنين كإنسان عاقل بعلاقة مع التوتر في العصر الحجري القديم، مثل ندرة السعرات الحرارية، والتقلبات في درجات الحرارة، والانغماس في الطبيعة، والعيش المشترك، والتعرض للضوء». ثم يضيف فيقول: «لقد شكلت آليات التكيف مع هذه الأشكال من التوتر مسارات فسيولوجية في الجسم عززت طول العمر والقدرة على الصمود». ويقول كراسنو إن المشكلة تكمن في أننا جرَّدنا الحياة من أغلب مسببات التوتر والضغوط التي كانت سائدة في العصر الحجري القديم. على سبيل المثال، لدى الكثير منّا إمدادات لا نهائية من السعرات الحرارية تحت تصرفنا. ونقضي معظم أوقاتنا في حالة من الخمول بصفة عامة داخل بيئات منظمة لدرجة الحرارة، بعيداً عن الطبيعة. ونعتمد على الإضاءة الاصطناعية، مما قد يؤثر على النوم».

عواقب التخلص من التوتر الجيد

إن التخلص من التوتر الجيد لصالح الراحة كانت له عواقب، ويقول كراسنو إن الانتشار المتزايد للأمراض المزمنة ناتج عن السهولة والراحة المزمنة. ويضيف: «لقد خدعنا أنفسنا بالاعتقاد أننا نستطيع الوجود كأفراد منفصلين في منازلنا ذات الأسرّة الواحدة، ونطلب احتياجاتنا من الخدمات طوال اليوم». ثم تابع يقول: «منذ الثورة الصناعية، التي تسارعت وتيرتها بشكل خاص في السنوات الخمسين الماضية، صممنا نمط حياتنا من أجل مزيد من الراحة والسهولة والرفاهية».

استحداث التوتر الجيد

وازِنْ التوتر السيئ بإدخال التوتر الجيد بالقدر المناسب. قال الطبيب السويسري باراسيلسوس في أوائل القرن السادس عشر: «الجرعة وحدها هي التي تسبب قوة السم». ويقول كراسنو إن الجرعة الصحيحة من الانزعاج الذي يفرضه المرء على نفسه، مثل الأنشطة الشاقة وتنظيم درجة الحرارة، يمكن أن تجعلك أقوى. ولكن من المهم أن تبدأ ببطء». ويضيف كراسنو: «لا أنصح أبداً أي شخص لم يسبق له أن غطس في الثلج من قبل أن يدخل حماماً ثلجياً لأول مرة. ادخل في حمام ثلج بدرجة قليلة لترى كيف يكون شعورك. ابحث عن حدود الانزعاج الذي تشعر به وانغمس فيه وكن فضولياً بشأن ما يوجد على الجانب الآخر منه، لأنه أمر جيد للغاية بشكل عام».

استحداث التوتر الاجتماعي

ويدعو كراسنو أيضاً إلى الميل إلى التوتر الاجتماعي، ويقول: «أسميه الغوص في الحمام الثلجي للمحادثات الصعبة والمجهدة، وأن نصبح أكثر ارتياحاً حيال انزعاجنا ولو بدرجة بسيطة، حتى نتمكن من التخلص من الكثير من العلل».

وبصفته مقدم بودكاست «كوميون»، حيث يتحدث عن الصحة والعافية، يصادف كراسنو بانتظام أشخاصاً لا يتفقون مع وجهات نظره، ويرسلون إليه رسائل إلكترونية أو يعلقون على منشوراته. وبدلاً من تجاهلهم أو عدم موافقتهم علناً، يدعوهم إلى المشاركة في مكالمة عبر تطبيق «زووم». وأغلبهم يتهرب منه، لكن بعضهم يقبل المكالمة. لقد تمكن من خلق بيئة آمنة، وتصرف بأدب جم وانفتاح وفضول.

الانزعاج.. عن طريق الانفتاح الذهني

يقول كراسنو: «نحن نبني جهازنا المناعي الفسيولوجي من خلال التعرض منخفض الدرجة لمسببات الأمراض والفيروسات والبكتيريا. وقد تمكنت من خلال إجراء هذه المحادثات من بناء ما أسميه جهاز المناعة النفسي».

وبالإضافة إلى ذلك، كما يقول، فإنها تمرين على التواصل والاستماع النشط والانفتاح الذهني، وأتاحت فرصة للنمو الشخصي. ويوضح قائلاً: «لقد عززت آرائي الخاصة، لأنني اضطررت وللمرة الأولى إلى التفكير في أفضل جوانب الرأي المعارض».

يحصر الناس أنفسهم داخل القصة التي يروونها لأنفسهم عن أنفسهم، لكن كراسنو يقول إن التغيير ممكن إذا كنت على استعداد للميل إلى عدم الراحة.

ويضيف: «بمجرد أن تدرك بالفعل عدم الاستمرارية لديك، يمكنك أن تتحكم في مسار حياتك، وأنَّ تقبُّل الانزعاج سوف يُغيّر مسار حياتك. فالبشر مجرد عملية وليسوا منتجاً. نحن نتحرك بشكل ديناميكي عبر هذا الطيف من الكمال إلى المرض والكوارث. ويمكنك كذلك التحرك نحو الكمال كعملية أيضاً. فلديك القدرة على التحكم في مسار تلك الرحلة».

* مجلة «فاست كومباني»، خدمات «تريبيون ميديا».