في أحد أكثر التصريحات تحفيزاً خلال العقد الأخير، أكد القادة الصينيون استعدادهم لاتخاذ جميع التدابير التحفيزية اللازمة لمواجهة التأثير المتوقع للتعريفات التجارية الأميركية على نمو الاقتصاد في العام المقبل.
وعقب اجتماع كبار مسؤولي الحزب الشيوعي، أعلن المكتب السياسي عن تحول في السياسة النقدية نحو «مرونة مناسبة»، مع تبني أدوات مالية «أكثر نشاطاً»، وفقاً لوكالة «رويترز». جاء هذا التحول بعد فترة من الحذر اتبعها البنك المركزي الصيني على مدار 14 عاماً، شهدت خلالها البلاد زيادة كبيرة في الدين الإجمالي، بما في ذلك ديون الحكومات والأسر والشركات، التي تضاعفت أكثر من خمس مرات، بينما نما الناتج المحلي الإجمالي بثلاثة أضعاف فقط خلال الفترة نفسها.
ورغم أن المكتب السياسي نادراً ما يحدد خطط السياسات بشكل تفصيلي، فإن التحول في نبرته يعكس استعداد الصين لزيادة الاقتراض مع التركيز على تحقيق النمو الاقتصادي، حتى وإن كان ذلك على حساب المخاطر المالية على المدى القصير. وقال شوانغ دينغ، كبير الاقتصاديين لمنطقة الصين الكبرى وآسيا الشمالية في بنك «ستاندرد تشارترد»: «الانتقال من الحذر إلى المرونة المعتدلة يمثل تغييراً جوهرياً، ويوفر مساحة واسعة للتصورات». بينما أضاف تانغ ياو، أستاذ الاقتصاد التطبيقي في جامعة بكين، أن هذا التغيير في السياسة كان أمراً لا مفر منه، لأن النمو البطيء قد يزيد من صعوبة خدمة الديون.
من جانبه، أشار كريستوفر بيدور، نائب مدير أبحاث الصين في «جافيكال دراغونوميكس»، إلى أن الصين تقبل تدريجياً حقيقة أن نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي ستستمر في الارتفاع، قائلاً: «هذه النسبة لم تعد قيداً ملزماً». ومع ذلك، لا يزال من غير الواضح مدى التيسير النقدي الذي قد ينفذه البنك المركزي أو حجم الديون الإضافية التي قد تصدرها وزارة المالية في العام المقبل. ومع ذلك، يرى المحللون أن هذا الوضع يخدم مصالح الصين في الوقت الراهن.
التحديات الخارجية والرد الصيني
ومن المتوقع أن تواجه الصين تحديات إضافية مع عودة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب إلى البيت الأبيض في يناير (كانون الثاني)، بعد تهديده بفرض تعريفات قد تصل إلى 60 في المائة على واردات الولايات المتحدة من السلع الصينية. وسيعتمد الرد الصيني إلى حد كبير على توقيت ومستوى هذه التعريفات، التي توقعت الاستطلاعات أن تبدأ عند نحو 40 في المائة.
وعلّق لاري هو، كبير الاقتصاديين الصينيين في «ماكواري»، قائلاً: «الصين مستعدة لفعل كل ما يتطلبه الأمر لتحقيق أهداف الناتج المحلي الإجمالي». وأضاف أن الإجراءات المستقبلية ستعتمد بشكل كبير على هدف النمو المحدد ومستوى التعريفات الأميركية. ومن المتوقع أن تناقش أهداف النمو والعجز في الموازنة والسياسات الأخرى خلال الاجتماع السنوي لقادة الحزب الشيوعي المعروف بـ«مؤتمر العمل الاقتصادي المركزي». ورغم التحديات، تشير التقارير إلى أن بكين قد تواصل السعي لتحقيق نمو بنسبة 5 في المائة تقريباً في 2025.
تعزيز الاستهلاك في صدارة الأولويات
وفي مواجهة الضغوط الانكماشية الناجمة عن أزمة العقارات وضعف شبكات الأمان الاجتماعي، يعد الطلب المحلي المنخفض أحد المخاطر الرئيسية التي تهدد النمو. وتعهد المكتب السياسي باتخاذ «تعديلات مضادة دورية غير تقليدية» وزيادة كبيرة في الاستهلاك، مما يشير إلى تحول في أولويات التحفيز مقارنة بالدورات السابقة.
وبحسب محللي «غولدمان ساكس»: «ستركز التحفيزات القادمة بشكل أكبر على الاستهلاك، والتصنيع عالي التقنية، واحتواء المخاطر، بدلاً من الاستثمار التقليدي في البنية التحتية والعقارات». ومع ذلك، تبقى السياسات التي سيتبعها قادة الصين لتعزيز الاستهلاك غير واضحة. ويرى المحللون أن التدابير التي تركز على تحفيز الطلب ستكون أساسية لجعل التيسير النقدي أكثر فاعلية في اقتصاد يعتمد تقليدياً على الإنتاج. وقال جوليان إيفانز بريتشارد، المحلل في «كابيتال إيكونوميكس»: «التيسير النقدي في الصين أصبح أقل فاعلية مما كان عليه في السابق». وأضاف: «لا توجد رغبة كبيرة بين الأسر أو القطاعات الخاصة لتحمل مزيد من الديون، حتى بأسعار فائدة منخفضة».
وتشير هذه المعطيات إلى أن تحقيق التوازن بين التحفيز الاقتصادي واحتواء المخاطر المالية سيظل تحدياً رئيسياً أمام صناع القرار في الصين خلال المرحلة المقبلة.
التحديات التجارية مع ترمب وتباطؤ النمو
على صعيد آخر، تباطأت صادرات الصين بشكل حاد وانكمشت الواردات بشكل غير متوقع في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، مما يمثل إشارة مقلقة للاقتصاد الثاني في العالم، خاصة مع عودة ترمب الوشيكة إلى البيت الأبيض وما يحمله ذلك من مخاطر تجارية جديدة.
تأتي هذه الأرقام المخيبة للآمال في أعقاب مؤشرات أخرى تشير إلى نمو متقطع في نوفمبر، مما يدل على أن بكين بحاجة لبذل جهود أكبر لدعم اقتصادها الهش، الذي من المرجح أن يواجه تحديات إضافية في العام المقبل. وأظهرت بيانات الجمارك يوم الثلاثاء أن الشحنات الصادرة نمت بنسبة 6.7 في المائة في الشهر الماضي، وهو ما جاء أقل من الزيادة المتوقعة بنسبة 8.5 في المائة، ومنخفضة عن زيادة بنسبة 12.7 في المائة في أكتوبر (تشرين الأول).
ومما يزيد من قلق السلطات انكماش الواردات بنسبة 3.9 في المائة، وهو أسوأ أداء لها في تسعة أشهر، وهو أقل من التوقعات التي كانت تشير إلى زيادة قدرها 0.3 في المائة، مما يعزز الدعوات لمزيد من الدعم السياسي لتعزيز الطلب المحلي. وهزت تهديدات ترمب المجمع الصناعي الصيني، الذي يبيع سلعاً تزيد قيمتها على 400 مليار دولار سنوياً للولايات المتحدة. وقبل زيادات التعريفات الجمركية المتوقعة، سارع المصدرون إلى تحويل المخزون إلى المستودعات الأميركية في أكتوبر، في انتظار شحنات جديدة بمجرد تعافي الطلب العالمي. ورغم تباطؤ هذا الاتجاه بشكل حاد في نوفمبر، فإن التحميل المسبق قبل فرض التعريفات الجمركية قد يدعم الصادرات.
وقال زيشون هوانغ، الخبير الاقتصادي الصيني في «كابيتال إيكونوميكس»: «نتوقع أن تتسارع الصادرات مرة أخرى في الأشهر المقبلة، بدعم من المكاسب في القدرة التنافسية للصادرات وتصدر المصدرين للتعريفات الجمركية».
ومع ذلك، فإن التوترات غير المحلولة مع الاتحاد الأوروبي بشأن الرسوم الجمركية التي تصل إلى 45.3 في المائة على السيارات الكهربائية المصنعة في الصين تهدد بفتح جبهة ثانية في الحرب التجارية بين بكين والغرب.
ونما الفائض التجاري للصين إلى 97.44 مليار دولار في الشهر الماضي، مقارنة بـ95.72 مليار دولار في أكتوبر.
دعوة إلى التحول
تعد الرسوم الجمركية الأميركية تهديداً أكبر للصين مقارنة بفترة ولاية ترمب الأولى، حيث تعتبر صادرات الاقتصاد البالغة 19 تريليون دولار أحد المحركات الرئيسية للنمو، بينما تضررت ثقة الأسر والشركات بسبب أزمة العقارات الممتدة. ورغم أن المصنعين أبلغوا عن أفضل ظروف العمل في سبعة أشهر في مسح المصانع في نوفمبر، مما يشير إلى أن التحفيز بدأ يؤتي ثماره، فقد حذروا أيضاً من أنهم يتلقون عدداً أقل من أوامر التصدير.
وقد دفعت هذه الاتجاهات المحللين وخبراء السياسة إلى الدعوة للتحول بعيداً عن الاعتماد المفرط على التصنيع والصادرات. وأوصى مستشارو الحكومة بأن تبقي بكين على هدف نمو نحو 5 في المائة في العام المقبل، وتنفذ حوافز أقوى للتخفيف من آثار الرسوم الجمركية الأميركية المتوقعة، من خلال الاعتماد على سوق المستهلك المحلية الضخمة في البلاد.
ويتوقع خبراء الاقتصاد انتعاش واردات الصين في الأشهر المقبلة، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن صناع السياسات يتوقعون أن يعملوا على توسيع الحيز المالي العام المقبل. وقال هوانغ إن «الإنفاق المالي القوي، الذي من المرجح أن يوجه الكثير منه نحو الاستثمار، من شأنه أن يعزز الطلب على السلع الصناعية في الأشهر المقبلة».
وفي السياق ذاته، ارتفعت أسواق الأسهم في الصين وهونغ كونغ يوم الثلاثاء، بعد أن تعهد كبار صناع السياسات بتعزيز التحفيز لدعم النمو الاقتصادي. وارتفع مؤشر «سي إس آي 300» للأسهم القيادية بنسبة 1.9 في المائة بحلول منتصف النهار، مسجلاً أعلى مستوى في نحو شهر، قبل أن يقلص بعض مكاسبه، بعد أن افتتح مرتفعاً 3.2 في المائة. وارتفع مؤشر «شنغهاي» المركب بنسبة 1.6 في المائة.
وكان قطاع العقارات هو الأكثر ربحاً، حيث ارتفع بنسبة 3.2 في المائة، تلاه قطاع السلع الاستهلاكية الأساسية الذي شهد زيادة بنسبة 2.8 في المائة، مما قاد المكاسب داخل السوق.
وفي هونغ كونغ، ارتفع مؤشر «هانغ سنغ» القياسي بنسبة 1 في المائة بحلول الظهر بعد افتتاحه مرتفعاً بنسبة 3.2 في المائة، في حين أضاف مؤشر التكنولوجيا 0.8 في المائة.