تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

من خلفيات التاريخ إلى الدبلوماسية... ومن التجارة إلى الاستثمار

الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)
الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)
TT
20

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)
الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد الخريجي، وترأس الجانب الصيني نظيره نائب الوزير دنغ لي. وبحث الجانبان تطوير العلاقات الثنائية، مع مناقشة المستجدات التي تهم الرياض وبكين. يذكر أن العلاقات السعودية الصينية شهدت تطوراً ملحوظاً خلال السنوات الأخيرة، إذ تعززت الشراكة بين البلدين على مختلف الأصعدة الاقتصادية والسياسية والثقافية. وتعود العلاقات الدبلوماسية بين المملكة العربية السعودية وجمهورية الصين الشعبية إلى عام 1990، عندما افتتحت سفارتا البلدين رسمياً في العاصمتين بكين والرياض. مع أن علاقات التعاون والتبادل التجاري بين البلدين بدأت قبل عقود. وعام 1979، وقّع أول اتفاق تجاري بينهما، واضعاً الأساس لعلاقات قوية مستمرة حتى يومنا هذا.

 

تُعدّ الصين اليوم الشريك التجاري الأكبر للمملكة العربية السعودية، وانعكست العلاقات المتنامية بين البلدين بشكل كبير على التعاون الاقتصادي والتجاري بينهما؛ إذ أسهمت في وصول حجم التبادل التجاري إلى أكثر من 100 مليار دولار أميركي في عام 2023. تستورد الصين النفط الخام من السعودية بشكل رئيسي، وتعدّ المملكة أكبر مورد للنفط إلى الصين، إذ تصدر ما يقرب من 1.7 مليون برميل يومياً. ولقد تجاوزت الاستثمارات الصينية في المملكة حاجز الـ55 مليار دولار. وبحسب تقرير لـ«edgemiddleeast»، ضخّت الصين 16.8 مليار دولار في المملكة في 2023 مقابل 1.5 مليار دولار ضختها خلال عام 2022، استناداً إلى بيانات بنك الإمارات دبي الوطني، وهي تغطي مشاريع في البنية التحتية والطاقة والصناعات البتروكيماوية. وفي المقابل، استثمرت المملكة في عدد من المشاريع داخل الصين، منها الاستثمارات في قطاعات التكنولوجيا والنقل. واستضافت الرياض أيضاً في شهر يونيو (حزيران) من هذا العام «مؤتمر الأعمال العربي الصيني» الذي استقطب أكثر من 3600 مشارك. وبعد أسبوعين فقط، أرسلت السعودية وفداً كبيراً بقيادة وزير الاقتصاد السعودي إلى مؤتمر «دافوس الصيفي» في الصين. وبالإضافة إلى هذا الزخم الحاصل، دعت الصين المملكة العربية السعودية كضيف شرف إلى «معرض لانتشو الصيني للاستثمار والتجارة» الذي أقيم من 7 إلى 10 يوليو (تموز) من هذا العام. وكانت وزارة الاستثمار السعودية حثّت الشركات على المشاركة بفاعلية في المعرض، والجناح السعودي المعنون «استثمر في السعودية». كذلك وقّعت السعودية والصين اتفاقيات متعددة لتعزيز التعاون في قطاع الطاقة، بما في ذلك مشاريع الطاقة المتجددة. وتسعى المملكة لتحقيق «رؤية 2030» التي تهدف إلى تقليص الاعتماد على النفط وتعزيز استخدام الطاقة المتجددة، في حين تسعى الصين إلى تأمين إمدادات الطاقة اللازمة لتنميتها الاقتصادية. وبالفعل، جرى أخيراً توقيع اتفاقية بين شركة «تي سي إل تشونغ هوان» لتكنولوجيا الطاقة المتجددة الصينية، وشركة توطين للطاقة المتجددة، وشركة «رؤية للصناعة» السعوديتين، لتأسيس شركة باستثمار مشترك، من شأنها دفع توطين إنتاج الرقائق الكهروضوئية في المملكة العربية السعودية. ووفقاً للاتفاقية، يبلغ إجمالي حجم الاستثمار في المشروع المشترك نحو 2.08 مليار دولار. التعاون السياسي والدبلوماسي تتعاون المملكة والصين على مستوى عالٍ في القضايا الدولية والإقليمية. وتستند العلاقات السياسية بين البلدين إلى احترام السيادة الوطنية والامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية. كذلك تتبادل الدولتان الدعم في المحافل الدولية، مثل الأمم المتحدة ومنظمة التعاون الإسلامي، ولقد لعبت الصين دوراً محوَرياً في الوساطة بين السعودية وإيران، ما أدى إلى تحقيق نوع من التوافق بين البلدين، أسهم في توطيد الاستقرار، وقلّل من حدة التوترات، وعزّز من الأمن الإقليمي. الزيارات الرسمية والقمم المعروف أنه في مارس (آذار) 2017، قام الملك سلمان بن عبد العزيز بزيارة رسمية للصين حيث التقى الرئيس الصيني شي جينبينغ. وخلال الزيارة، وُقّعت 14 اتفاقية ومذكرة تفاهم، تضمنت التعاون في مجالات الطاقة والاستثمارات والعلوم والتكنولوجيا. وفي وقت سابق، كان خادم الحرمين الشريفين الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز قد زار الصين رسمياً عام 2006، كانت تلك الزيارة بمثابة نقطة تحوّل في تعزيز العلاقات الثنائية، وشملت مباحثات مع القيادة الصينية وشهدت توقيع اتفاقيات عدة في مجالات الطاقة والتجارة والاستثمار. كما زار ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الصين في فبراير (شباط) 2019 كجزء من جولته الآسيوية. خلال هذه الزيارة، وقّعت 35 اتفاقية تعاون بين البلدين بقيمة تجاوزت 28 مليار دولار، وشملت مجالات النفط والطاقة المتجددة والبتروكيماويات والنقل. بعدها، في ديسمبر (كانون الأول) 2022، قام الرئيس الصيني شي جينبينغ بزيارة تاريخية إلى الرياض، حيث شارك في «قمة الرياض»، التي جمعت قادة دول مجلس التعاون الخليجي والصين. وتركّزت هذه القمة على تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية والأمنية بين الجانبين، وخلالها وقّع العديد من الاتفاقيات في مجالات الطاقة والبنية التحتية والتكنولوجيا. من الزيارات البارزة الأخرى، زيارة وزير الخارجية الصيني إلى السعودية في مارس (آذار) 2021، حيث نوقش التعاون في مكافحة جائحة «كوفيد 19» وتعزيز العلاقات الاقتصادية،


مقالات ذات صلة

سارة الزعفراني... مهندسة مخضرمة تترأس حكومة تونسية أولوياتها اقتصادية

حصاد الأسبوع الزعفراني

سارة الزعفراني... مهندسة مخضرمة تترأس حكومة تونسية أولوياتها اقتصادية

بعد نحو ستة أشهر من تعديل حكومي واسع شمل 22 حقيبة وزارية ورئاسة الحكومة، أعلنت رئاسة الجمهورية في تونس عن إقالة رئيس الحكومة كمال المدوري، الخبير الدولي في المفاوضات الاجتماعية والاقتصادية، وتعويضه بوزيرة التجهيز والإسكان في حكومته سارة الزعفراني الزنزري. جاء هذا التعديل، وهو السادس من نوعه منذ يناير (كانون الثاني) 2020، في مرحلة شهدت تعقد الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية التي تمر بها تونس والمنطقة، وخلال فترة عرفت تزايد انتقادات الرئيس التونسي قيس سعيّد لـ«لوبيات» اتهمها بعرقلة مشاريع الإصلاح التي أراد أن يفتتح بها عهدته الرئاسية الثانية. هذه الانتقادات أعادت إلى الأذهان تصريحات وبلاغات إعلامية رئاسية عديدة صدرت خلال الأشهر الماضية عن الرئيس سعيّد ومقرّبين منه تتهم مسؤولين كباراً في الحكومة وفي الإدارة بالسلبية والفشل وسوء التصرف في الأملاك العمومية، وأيضاً في ملفات التضخم وارتفاع الأسعار وتدهور القدرة الشرائية للطبقات الشعبية، بجانب ملفات أمنية عديدة، بينها تدفق آلاف المهاجرين من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء وتمركزهم في تونس بطريقة غير قانونية.

كمال بن يونس (تونس)
حصاد الأسبوع رئيس الدولة قيس سعيّد (رويترز)

صلاحيات رئيسَي الدولة والحكومة في دستور تونس الجديد

فتح التغيير الرابع لرئيس الحكومة التونسية في ظرف ثلاث سنوات ونصف السنة والسادس في ظرف خمس سنوات نقاط استفهام وسط المراقبين داخل البلاد وخارجها. وبرزت مواقف.

«الشرق الأوسط» (تونس)
حصاد الأسبوع ممارسات إسرائيل في الضغة الغربية مصدر قلق بالغ للأردن (آ ب)

الأردن يعيش شهوراً فاصلة بمواجهة الهموم الداخلية والإقليمية

لا يخلو تاريخ الأردن القريب من تحديات مصيرية هدّدت أمنه واستقراره، وسعت للتشويش على استقرار نظامه السياسي. فجملة التحديات التي فرضتها جغرافيا المملكة وتاريخها معاً صارت العناوين ذات الأولوية في مناقشة المصالح الأردنية في المدى المنظور. جولة على هذه التحديات تُمكّن المراقبين من تقدير الموقف الأردني وتعقيداته؛ فعلى جبهة الأردن الغربية عانت البلاد من حالة الطوارئ العسكرية على مدى السنوات والعقود الماضية بفعل الاحتلال الإسرائيلي، والتعامل مع نكبة هجرة الفلسطينيين عام 1948، ونكسة حزيران من عام 1967 التي تسبّبت بهجرة الفلسطينيين الثانية. والحال ليست بأفضل على الجبهة الشمالية مع سوريا، فخلال سنوات الحرب الماضية كانت الجبهة الشمالية ملفاً أمنياً - عسكرياً ساخناً، كما استقبل عبرها نحو مليون لاجئ سوري. وتستمر محاولات عصابات تجارة المخدّرات والسلاح في تهديد الأمن على الحدود في مشهد متكرّر دفع الأردن للقصف بالطائرات عدداً من مصانع المخدرات في الجنوب السوري، التي كانت تابعة لميليشيات محسوبة على «حزب الله» اللبناني وإيران و«الفرقة الرابعة» في الجيش السوري بقيادة ماهر الأسد. وأخيراً لا آخراً، على الشرق هناك الحدود البرية الطويلة مع العراق، وفي آخر 22 سنة ظلت هذه الحدود عنوان تهديد لأمن الأردن، كما حصل في أحداث تفجير الفنادق في العاصمة عمّان عام 2005، بالإضافة إلى محاولات أخرى أُحبطت قبل استكمال أهدافها.

محمد خير الرواشدة (عمّان)
حصاد الأسبوع العاهل الاردني عبدالله الثاني مستقبلاً الرئيس السوري أحمدوالشرع في مطار ماركا بعمّان (سانا)

حرب غزة وفّرت على حكومة حسّان مواجهات قاسية

على مدى شهور العدوان الإسرائيلي على غزة تراجعت أولوية الشأن الداخلي؛ ما أعفى الحكومة الأردنية من مواجهات قاسية مع الشارع والبرلمان. وسمح ذلك لشخص رئيس الوزراء.

حصاد الأسبوع الأمير خالد بن سلمان وزير الدفاع السعودي يتوسط الوزيرين منسى وابو قصرة في لقاء التوقيع بمدينة جدة (واس)

ترسيم حدود لبنان وسوريا يشكّل الاختبار الأول لعلاقاتهما

شكّلت الاشتباكات التي شهدتها الحدود الشرقية للبنان منتصف شهر مارس (آذار) الحالي أول اختبار للدولتين اللبنانية والسورية الجديدتين،

بولا أسطيح (بيروت)

إسرائيل تتوسع في عدوانها... «الحل العسكري لكل المشاكل»

إحدى الغارات الإسرائيلية الأخيرة على سوريا (رويترز)
إحدى الغارات الإسرائيلية الأخيرة على سوريا (رويترز)
TT
20

إسرائيل تتوسع في عدوانها... «الحل العسكري لكل المشاكل»

إحدى الغارات الإسرائيلية الأخيرة على سوريا (رويترز)
إحدى الغارات الإسرائيلية الأخيرة على سوريا (رويترز)

«في الجبهة الشمالية، على الرغم من أن التهديد قلّ، يجب أن نستعد للتطورات المحتملة: تقوية الجيش السوري مجدداً، إنشاء (محور مقاومة) سني أو إعادة إحياء المحور الإيراني. لذا؛ على إسرائيل إنشاء ممرّ في جنوب سوريا من هضبة الجولان إلى المناطق الكردية. إلى الشرق من هضبة الجولان، على طول حدود سوريا - الأردن، توجد نقطة استراتيجية حرجة – التنف. rnهذه الكلمات الواضحة والصريحة،نُشرت أخيراً في موقع «ميدا» الإسرائيلي اليميني، الذي يُعدّ واحداً من مواقع وقنوات عدة أنشأها أنصار بنيامين نتنياهو لمواجهة الإعلام العبري الليبرالي... الذي يعدّونه «يسارياً».nيضيف الموقع: «التنف» وموقعها الفريد عند تقاطع الطرق بين سوريا والأردن والعراق، وعلى الطريق من بغداد إلى دمشق، يجعلها جزءاً أساسياً من أي استراتيجية إقليمية. لهذا السبب أسست الولايات المتحدة قاعدة عسكرية هناك، وأنشأت منطقة منزوعة السلاح في دائرة نصف قطرها 55 كم بدعم من المتمردين المحليين الذين يخضعون لسلطتها. ومع تغير النظام في سوريا، والتهديد المتناقص من (داعش)، وعزوف إدارة ترمب عن التدخل العالمي، ثمة احتمال كبير للانسحاب الأميركي من التنف. في هذه الحالة، ستحتلها الميليشيات الموالية لإيران، أو قوات (داعش) أو قوات المتشدّدين التابعة للنظام السوري الجديد. وهذا سيعرّض خطط إنشاء الممر البرّي من الجولان إلى الأكراد للخطر، ويتيح إعادة بناء الممر البري بين إيران ولبنان أو ممر سني مشابه.

ويتابع الموقع: «من ناحية أخرى، سيسمح الوجود الإسرائيلي في المنطقة، سواء بشكل منفرد أو بالتعاون مع الولايات المتحدة، بربط جبل الدروز بالأكراد، وتوفير قدرة استجابة سريعة ضد التهديدات تجاه الحلفاء – حتى من شرق جبل الدروز – والسيطرة على المحور بين بغداد ودمشق. علاوة على ذلك، فإن نشر سرب طائرات إسرائيلي هناك سيكون عامل ردع فعالاً ضد الميليشيات الموالية لإيران في العراق، ويقصّر المسافات اللازمة للهجوم ضد إيران» حتى لو كان كلّ ما كتب في الموقع يعبر عن رأيه الشخصي، إلا أنه يثبت أنه «بوق» لحزب الليكود الحاكم ولنتنياهو شخصياً. النغمة التي تصدر من بين السطور، هي الأنغام التي يردّدها قادة اليمين باستمرار، وبينهم عدد من الجنرالات السابقين.

بالطبع، لا أحد يصدّق أن إسرائيل مستعدة لخوض حرب في سوريا لأجل الأكراد أو الموحّدين الدروز. فهذه مجرد تقوّلات جاءت لتغطي على الأهداف التوسّعية، وفي بعض الأحيان تُطلَق لغرض التهديد والوعيد. بيد أنها تعكس صورة لمرض الغرور المتغطرس الذي يتحكّم في العقيدة الإسرائيلية منذ عام 1967. فالقيادات الإسرائيلية التي تعيش عقدة السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، لا تريد أن تتعلم الدرس، بل تصرّ على المضي قدماً في عقلية «الحل العسكري لكل المشاكل».

أزمة خالدة

يوم 7 أكتوبر تلقت عقلية الحل العسكري هذه ضربة قاصمة. فإسرائيل، بكل جبروتها العسكري فشلت في رصد هجوم «حماس»، التي تُعدّ تنظيماً مسلحاً صغيراً ومحدوداً، واحتاجت إلى ساعات طويلة حتى تمكّنت من وقفه. ثم دخلت حرباً شرسة، غير مسبوقة للانتقام.

«حماس»، من جهتها، نفذت هجوماً عسكرياً فوجئت هي نفسها بنتائجه. إذ تمكنت في غضون ساعات قليلة من تحطيم الحواجز الحدودية «المحصّنة»، واحتلت 11 موقعاً عسكرياً و22 بلدة مدنية. كذلك خطفت 251 جندياً وضابطاً ومدنياً، وراحت تقاوم الهجوم الإسرائيلي بشبكة أنفاق ضخمة وعمليات عسكرية نوعية.

لكن «حماس» لم تجرِ حسابات صحيحة لهجومها. فقد ترافق أولاً بعمليات قتل وإبادة لعائلات يهودية بأكملها، وخُطف أطفال ونساء. ثم إنها لم تتوقع هجوماً إسرائيلياً بهذه الفظاعة، ولم تُحسن الدفاع عن مواطني قطاع غزة، ولم تأخذ في حسابها ما سيحصل للقضية الفلسطينية من جراء هجومها. بل لم تحسب ما سيجري لمصير معسكرها برمته، الذي يسمى «محور المقاومة».

لم تُحسن قراءة لا الخريطة الإسرائيلية ولا الإقليمية ولا العالمية.

لم تدرك أن في إسرائيل حكومة يمين متطرف تخوض حرباً وجودية، وتواجه أكبر عملية مواجهة لإسقاطها جماهيرياً. بل إن هذه الحكومة كانت تفتّش عن وسيلة تتيح لها إشعال حرب لكي تفلت من قبضة الجمهور المعارض لها. ولم تدرك «حماس» أن الجيش الإسرائيلي، وكل الأجهزة الأمنية، كانوا شركاء في المعركة ضد حكومة نتنياهو. ولذا؛ فإن توجيه ضربة قاسية لها كما حدث 7 أكتوبر، سيُخرج القيادات العسكرية عن طورها ويجعلها تتصرف بمنتهى الجنون والوحشية.

وحتى عندما خاضت «حماس» مفاوضات تبادل الأسرى، لم تقرأ الخريطة الإسرائيلية والعالمية جيداً، فرفضت التوصل إلى صفقة شاملة اقترحها الأميركيون والوسطاء المصريون والقطريون لإنهاء الحرب في نوفمبر (تشرين الثاني) 2023. وراهنت على محكمة لاهاي ومؤسسات الأمم المتحدة وغيرها من الإجراءات الدولية ضد حرب الإبادة والتدمير. وراهنت على مشاركة «حزب الله» في لبنان والعراق والحوثيين في اليمن، وبالطبع، على إيران. وبالنتيجة، استفاد القادة الإسرائيليون من هذا الأداء ليديروا حرباً عدُّوها «وجودية»، وعبَّر عن ذلك رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو عندما بشَّر شعبه بأنه «سيعيش على الحراب أبد الدهر».

خطط إسرائيل وأطماعها

كان أهم هدف للقيادة الإسرائيلية السياسية والعسكرية استعادة الهيبة أمام جيوش العالم. فالجيش الإسرائيلي يعدّ واحداً من أقوى عشرة جيوش في العالم، ويساهم بتدريب 34 جيشاً لمختلف دول العالم ويشارك جيوش الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (ناتو) بتطوير الأسلحة والتكنولوجيا الحربية. وهؤلاء جميعاً لم يستوعبوا كيف يمكن لهذا الجيش أن يسقط في امتحان بسيط مثل هجوم «حماس».

كيف يستعيد الهيبة؟

أولاً، عبر الانتقام بلا رحمة من غزة كلها، بقضها وقضيضها. وحقاً قتلت إسرائيل أكثر من 50 ألفاً، معظمهم أطفال ونساء ومرضى ومسنون. ودمّرت جميع الجامعات ونصف المدارس وثلث المساجد وألحقت أضراراً بالكنائس الثلاث وشلّت كل المستشفيات وهدمت أكثر من ثلثي البيوت والعمارات. وحطمت الاقتصاد، ومارست التجويع والتعطيش واستخدمت في ذلك أفتك أنواع الأسلحة... وأدت خدمات هائلة لشركات إنتاج السلاح في الولايات المتحدة وغيرها، عندما جرّبت أسلحتهم الحديثة على أهل غزة. أيضاً أظهرت إسرائيل قدرات خارقة في التجسّس على «حزب الله» اللبناني وعلى إيران وسوريا، فتمكنت من اغتيال أبرز القيادات على أراضي هذه الدول، ونفّذت عملية تفجير «البيجرز» بعد تمكّنها من بيعها لـ«حزب الله» وقبض ثمنها بالدولارات، ودمرت جزءاً كبيراً من القدرات العسكرية لـ«محور المقاومة» برمته.

ثم إنها مع كل تقدّم في عملياتها، ازداد نهمها فراحت تحتل الأرض وتقيم المواقع العسكرية في الأراضي العربية. وحتى بعد سقوط نظام الأسد في سوريا، احتلت الأرض ودكّت القدرات الهجومية والدفاعية للجيش السوري، كما نفذت غارات على الأراضي الإيرانية وفي اليمن.

وهي، بينما تحاول الآن إقناع واشنطن بأن الفرصة مواتية لتنفيذ هجوم على إيران يشلّ مشروعها النووي، بدأت تتكلّم عن «الإمبريالية التركية الجديدة» و«تهديد الجيش المصري».

المشكلة الكبرى في هذه الأطماع كونها نابعة من قناعات بأن قادة إسرائيل، يقولون صراحة إنهم يريدون أن يدفع العرب ثمن هجوم «حماس» بخسارة الأرض. وفعلاً، طرح بعضهم مشروع التهجير «الطوعي»، ووضعوا مخطّطات عملية، وشكّلوا لجنة حكومية لتنفيذ المشروع. وقسم جدّي منهم يتكلّم عن «الانتصار الكامل» و«تغيير وجه الشرق الأوسط» لصالح إسرائيل.

إنهم يفعلون ذلك بسياسة عربدة لا تعرف الحدود في جبهات عدة. ويقولون إنهم «استخلصوا العبر» من إخفاقات «حماس»، والآن لا يكتفون بسياسة الدفاع والردع والاحتواء، بل ينتقلون إلى المبادرة و«العمليات الاستباقية» والهجوم المباغت.

في كل هذا، هؤلاء القادة يوحون بأنهم لا يحسنون قراءة خريطة المنطقة ولا منطق التاريخ. بل إنهم يعودون لتكرار الأخطاء الجسيمة التي أدت بهم إلى إخفاقات أكتوبر، ليس فقط في 2023، بل أيضاً في 1973، وإلى ما حصل بينهما. وهذه الأخطاء تتمثل في ذلك الجهل البدائي في تلك القراءة. حتى الجنرالات، الذين تعلّموا في المدارس العسكرية الابتدائية بأنه لا بد للحرب من هدف سياسي، ومَن ينهِ الحرب بلا هدف سياسي يحوّل إنجازاته خسارة، نسوا الدرس... فبنوا حربهم على حفر أخاديد جارحة لا تُنسى وبنوا جيشاً من كارهيهم، ليس فقط بين الفلسطينيين والعرب، بل في العالم أجمع. والكراهية وقود حارق لإشعال الحروب القادمة.

هذه الحروب قد لا تنتهي بانتصار، فكيف عندما يكون هؤلاء القادة يفوّتون مرة أخرى الفرصة السانحة لإنهاء الحرب وفتح آفاق سياسية جديدة تغير الشرق الأوسط فعلاً.

آفاق باتجاه تسوية الصراع وتحقيق السلام مع كل الدول العربية والإسلامية، كما يقترح القادة العرب ومعهم عديد من قادة دول الغرب والمجتمع الدولي. بينما تحاول تل أبيب إقناع واشنطن بأن الفرصة مواتية للهجوم على إيران بدأت تتكلّم عن «الإمبريالية التركية» و«تهديد الجيش المصري» القدس: نظير مجلي