مشهد مجلس الشراب في زمن دلمون

جرّة ونديمان وقرص شمسي على شكل دوّار الشمس

مجلس الشراب كما يظهر على ختمين من فيلكا، وختمين من البحرين، وختم سومري من مدينة أور.
مجلس الشراب كما يظهر على ختمين من فيلكا، وختمين من البحرين، وختم سومري من مدينة أور.
TT
20

مشهد مجلس الشراب في زمن دلمون

مجلس الشراب كما يظهر على ختمين من فيلكا، وختمين من البحرين، وختم سومري من مدينة أور.
مجلس الشراب كما يظهر على ختمين من فيلكا، وختمين من البحرين، وختم سومري من مدينة أور.

تتعدّد الشواهد الأثرية الخاصة بحضارة دلمون، وتتنوّع، وأبرزها مجموعات الأختام الدائرية التي عُثر عليها خلال مواسم التنقيب المتواصلة في جزيرة فيلكا الكويتية وجزيرة البحرين. تكمن قيمة هذه الأختام بشكل أساسي في نقوشها التصويرية التي تختزل عوالم مختلفة، تتمثّل في مجموعة من المشاهد تتكرّر في تآليف تتشابه حيناً وتتماثل حيناً آخر. في هذا الميدان، تحضر صور مجالس الشراب في سلسلة جامعة من المشاهد، تتبنّى مجموعة محدّدة من العناصر التصويرية تؤلف معاً قاموساً تشكيلياً خاصاً بها.

تحضر هذه المجالس في نماذج تأليفية عدة، أبرزها نموذج يجمع بين شخصين متواجهين يمسك كل منهما ما يشبه أنبوباً طويلاً ونحيلاً، يخرج من إناء يحتل وسط التأليف. يظهر هذا النموذج في ختم من فيلكا، يعود إلى مجموعة الأختام الهائلة التي عثرت عليها البعثة الدنماركية في مطلع الستينات، خلال أعمال المسح التي قامت بها في التل الشمالي لما بات يُعرف بالقلعة اليونانية. على وجه هذا الختم، يظهر شخصان في وضعية جانبية، يجلس كل منهما على مقعد صغير بلا ظهر، قابضاً بيد على قصبة ينغرس طرفها الأسفل في جرة مستطيلة تقع وسط المقعدين. في القسم الأعلى من التأليف، يظهر نقش مستطيل بين رأسي الشخصين المتواجهين، ويمثل هذا النقش عنصراً تصويرياً غامضاً يصعب تحديد هويته.

يتكرّر هذا التأليف على ختم آخر خرج من الموقع نفسه أثناء أعمال المسح التي أجرتها بعثة فرنسية في منتصف ثمانينات القرن الماضي. يرتدي الشخصان الجالسان زياً واحداً مشتركاً يتمثّل في مئزر طويل تعلوه شبكة من الخطوط المتوازية تحاكي وبر الصوف، وهذا الزي معروف في القاموس الفني، وهو خاص ببلاد ما بين النهرين. في القسم الأعلى يظهر قوس يرتفع فوق عمود صغير يشكل قاعدة له، وبين طرفي هذا القوس تظهر دائرة شمسية يحيط بها سوار من الشعاعات المتوازية. يحضن هذا القوس الهلالي هذا القرص الشمسي، ويشكّلان معاً عنصراً نجمياً معروفاً يتكرّر في أنحاء متفرّقة من الجزيرة العربية، متجاورة ومتباعدة. إلى جانب هذا العنصر التشكيلي المعهود، يظهر استثنائياً طائر صغير يحلّق فوق قمة طرف الهلال اليمنى.

يحضر هذا التأليف بشكل شبه مطابق على ختم من أشهر أختام البحرين، اكتُشف عام 1987 في مقبرة قرية كرانة الأثرية التي تقع في المحافظة الشمالية، وهو اليوم معروض في قاعة باسم دلمون بمتحف البحرين الوطني. كما في الصورة المنقوشة على ختم فيلكا، يرتدي كل من الشخصين المتواجهين مئزراً يغطي الجزء الأسفل من الجسد، ويتقاسمان معاً الشراب من جرة تخرج منها قصبتان طويلتان. يمسك كلّ من الشخصين أنبوباً من هذين الأنبوبين بيد، ويرتشف الشراب من طرف الأنبوب الأعلى. يشكل عمودا الأنبوبين المنغرسين في الجرة مثلثاً يحتضن شمعداناً ذا أربعة أغصان متوازية، يعلوها هلال. ووسط هذا الهلال، يحلّ القرص الشمسي التقليدي على شكل زهرة دوار الشمس.

يمثّل هذا النموذج الصيغة التقليدية المتكاملة لمشهد مجلس الشراب، ويحضر إلى جانب نماذج أخرى متعددة تظهر على عدد كبير من الأختام، منها على سبيل المثل تلك التي خرجت من مقبرة سار في المحافظة الشمالية، غرب العاصمة المنامة، خلال أعمال المسح التي أجرتها بعثة بريطانية في النصف الأول من تسعينات القرن الماضي. على ختم مميز اكتُشف في عام 1990، يظهر شخص يرتشف هنا الشراب بمفرده، يظهر من خلفه شخص يلعب كما يبدو دور النادل، كما يوحي قياس قامته الأصغر حجماً. يجلس السيّد على المقعد الصغير، مرتدياً زي بلاد الرافدين التقليدي، ومعتمراً قبعة مقوسة عالية تنتمي كذلك إلى هذا الزي، ويمتصّ الشراب بواسطة أنبوب طويل يخرج من الجرة المثبتة أمام قدميه. من خلف ظهره، يقف النادل عارياً في وضعية جانبية، كما سيّده، حاملاً بيده أداة مقوّسة غامضة. تحيط بالشخصين مجموعة من العناصر، تتمثل في عقرب وغزال من جهة، ومذبح صغير يعلوه قوس هلالي يحتضن قرصاً شمسياً.

تكشف أختام أخرى من مقبرة سار عن نماذج أخرى تشكل تنويعات لهذا المجلس الواحد. على ختم من هذه الأختام، يجلس رجل يمتص الشراب في الوضعية التقليدية، ويظهر من أمامه رجل يقف في مواجهته، حاملاً بيده تلك الأداة المقوسة الغامضة. على ختم آخر، يظهر رجل يقف على قدميه، ممسكاً بيده اليمنى أنبوباً يخرج من جرة ثُبّتت من أمام قدميه، قابضاً بيده اليسرى على قائمة ثور ينتصب عمودياً من خلفه. ويظهر في الطرف المقابل عقرب يمتدّ عمودياً بشكل متجانس. في تقصٍّ سريع لهذه التقاسيم المختلفة، يظهر رجل يشرب وقوفاً إلى جانب رجل آخر يقف من ورائه، وتحلّ جرتان منفصلتان بدل الجرة الواحدة، ويظهر مُحتسو هذا الشراب تارة بالزي التقليدي وتارة عراة.

يظهر هذا المشهد على ختم أسطواني من مقبرة سار يحاكي في شكله أختام بلاد ما بين النهرين، ويعيد هذا المشهد إلى الذاكرة المشهد التقليدي الأصلي الذي ظهر في بلاد ما بين النهرين وتكوّن فيها. والشواهد عديدة، منها ختم أسطواني من محفوظات المتحف البريطاني مصدره مقبرة الملكة السومرية شبعاد في مدينة أور، يصوّر مأدبة تحوي مشهد شخصين يحتسيان المشروب من آنية كبيرة، وختم آكدي من محفوظات المتحف العراقي في بغداد، يصوّر كذلك شخصين يمتصان الشراب من جرة كبيرة تعلوها نجمة سداسية.

تُظهر الأبحاث الأثرية أن السومريين ابتكروا «شفاطات» الشرب، وصنعوا هذه الأنابيب للنخبة من مواد معدنية ثمينة، واستخدمت هذه الأنابيب للوصول إلى السوائل المحفوظة في أسفل الوعاء، وسمحت بالتجمّع حول الوعاء والاستمتاع بتناول الشراب معاً. ويرى أهل الاختصاص أن هذا الشراب تمثّل بالجعة، المشروب القومي حينذاك، وكان لهذا المشروب معبودة تُدعى «نينكاسي»، كما كتب صموئيل نوح كريمر في كتابه الخاص بتاريخ السومريين وبثقافتهم، واسم نينكاسي يُترجم حرفياً بـ«السيدة التي تملأ الفم»، واللافت أنها ولدت في المياه العذبة المتلألئة، غير أن الجعة كانت حبها الأول. وحسب ترنيمة خاصة بهذه المعبودة، كان الشعير الجديد يُطحن بمجرفة عظيمة، وكانت الجعة المصفاة تُصب من الحافيات وتندفع منها «مثل دجلة والفرات».


مقالات ذات صلة

مذكرات صلاح دياب... إمبراطورية الأعمال والشغف

كتب مذكرات صلاح دياب... إمبراطورية الأعمال والشغف

مذكرات صلاح دياب... إمبراطورية الأعمال والشغف

حين يقرر أحد رجال المال والأعمال العرب أن يكتب مذكراته، عادةً ينطلق من هدف مُعلن مفاده نقل خبراته وتجاربه للأجيال الأحدث، ما يظهر جلياً في مذكرات شخصيات مصرية

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب تجليات حضور الورود... فنياً وأدبياً

تجليات حضور الورود... فنياً وأدبياً

تطوف الكاتبة الصحافية الزميلة منى أبو النصر في كتابها «الحالة السردية للوردة المسحورة» بين فنون شتى، فهي لا تتوقف عند حدود الأنواع الأدبية المعروفة من شعر

عمر شهريار (القاهرة)
ثقافة وفنون التروبادور ينتصرون للحب المستحيل في وجه المؤسسة الزوجية

التروبادور ينتصرون للحب المستحيل في وجه المؤسسة الزوجية

قلَّ أن تمكنت ظاهرة من ظواهر الحب في الغرب من أن تصبح جزءاً لا يتجزأ من الوجدان الشعبي الأوروبي، وأن تصبح في الوقت ذاته محل اهتمام الباحثين والمؤرخين وعلماء الا

شوقي بزيع
ثقافة وفنون مجمّرة ومجسّم من موقع مسافي

الأفعى والجمل قطعتان أثريتان من موقع «مسافي» بإمارة الفجيرة

تحضر الأفعى بأشكال متعدّدة في مجموعة هائلة من القطع الفخارية التي خرجت من مناطق أثرية متفرّقة في الركن الجنوبي الشرقي لشبه الجزيرة العربية.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون ماريو فارغاس يوسا (أرشيفية)

رحيل يوسا يسدل الستار عن الجيل الذهبي الأدبي

توفي الكاتب البيروفي العالمي ماريو فارغاس يوسا، الحائز جائزة نوبل للآداب، في العاصمة البيروفية ليما.

«الشرق الأوسط» ( ليما ــ مدريد)

التروبادور ينتصرون للحب المستحيل في وجه المؤسسة الزوجية

التروبادور ينتصرون للحب المستحيل في وجه المؤسسة الزوجية
TT
20

التروبادور ينتصرون للحب المستحيل في وجه المؤسسة الزوجية

التروبادور ينتصرون للحب المستحيل في وجه المؤسسة الزوجية

قلَّ أن تمكنت ظاهرة من ظواهر الحب في الغرب من أن تصبح جزءاً لا يتجزأ من الوجدان الشعبي الأوروبي، وأن تصبح في الوقت ذاته محل اهتمام الباحثين والمؤرخين وعلماء الاجتماع، كما هو حال ظاهرة الشعراء الجوالين في القرن الثاني عشر الميلادي. فهذه الظاهرة التي ولدت في الجنوب الفرنسي، والتي قامت على التعفف الفروسي والإعلاء المفرط المرأة، ما لبثت أن اتسعت دائرتها لتشمل مناطق أوروبية واسعة، وأن تمسك بناصية الشعر والحب على حد سواء.

وإذا كان في ما قاله المؤرخ سينيوبوس من أن الحب في الغرب هو من مخترعات القرن الثاني عشر، قدر من المبالغة والغلو، فإن نقاداً كثيرين يجمعون على أن فكرة الحب المرتبط بالعفة والهوى والعاطفة المشبوبة لم تأخذ طريقها إلى التبلور ولم تتحول إلى واقع ملموس إلا مع تلك الكوكبة من الشعراء، من أمثال غيوم دي بواتييه وفينتادور وبيار فيدال وديدييه ودورانج وآرنو دانييل وغيرهم. أما تسميتهم بالتروبادور فيردها البعض إلى أصل عربي مشتق من كلمتي «تروبا» وتعني الطرب، و«دور» التي هي مصطلح موسيقي، فيما ذهب آخرون إلى كونها مشتقة من الفعل «تروبار» بالإسبانية، ويعني نظم العبارات الجميلة أو الشعر المبتكر.

ومع ذلك، وأياً كان مصدر التسمية، فقد أجمع الدارسون على أن القرن الحادي عشر للميلاد هو التاريخ الفعلي لنشوء ظاهرة الشعراء الجوالين، الذين راحوا يجوبون أنحاء الجنوب الفرنسي متنقلين من قصر إلى قصر لينشدوا أمام الأمراء والأعيان، والنساء الجميلات والمتأنقات، قصائد وأغنيات ناضحة بالحب والشجن القلبي وآلام الفراق. والأرجح أن تبني إلينور، حفيدة الشاعر الجوال وليم التاسع، وزوجة الملك الفرنسي وليم السابع، وملهمة الشاعر برنارد دي فانتادور، لهذه الحركة، قد أسهم في تكريسها ودعمها وتحويلها إلى تقليد ملكي رسمي. وقد واصلت ماري فرانس، ابنة إلينور، تشجيعها لذلك النوع من الشعر الرومانسي الحالم، وهي التي حضت الشاعر الفرنسي كراتين دي ترويز على تأليف قصة لانسوليت، التي تعكس بوضوح مفاهيم الشعر البروفنسي.

وإذ وقف أدباء الغرب ومفكروه حائرين إزاء المنشأ الحقيقي لهذا التقليد الشعري والعاطفي، أعاده بعضهم إلى الفلاسفة الإغريق من أمثال أفلاطون وأفلوطين، ونسبه بعضهم الآخر إلى الشاعر الروماني أوفيد وتعاليمه المثبتة في كتابه الشهير «فن الهوى»، ورأى فيه البعض الثالث تأثراً بمفهوم العفة والتبتل المسيحيين، وأكد بعضهم الرابع على تأثير الشعر العربي العذري في نشوء تلك الظاهرة، خاصة بعد أن تجاوز العرب حدود الأندلس لتصل جيوشهم إلى قلب الأراضي الفرنسية نفسها.

ولا بد من التذكير بأن تسمية الفرسان بالشعراء الجوالين كانت ناجمة عن الدور القتالي الذي أنيط بهؤلاء الشبان من قبل الأمراء والنافذين، حيث كان عليهم حماية المقاطعات والمناطق والقصور المولجين بخدمتها، من كل خطر داخلي أو خارجي، إضافة إلى مشاركة بعضهم الفاعلة في الحروب الصليبية. إلا أن القواعد والأعراف الاجتماعية التي تم إرساؤها في تلك الحقبة، وصولاً إلى قوننتها في نُظم وأحكام، أخرجت الفروسية من نطاقها القتالي الصرف وحولتها إلى تقاليد متصلة بالشهامة والتسامح والنبل، وما استتبع العشق والوله العاطفي من قواعد ومواثيق.

وقد اعتبر أرنولد هاوزر في كتابه «الفن والمجتمع عبر التاريخ» أن الجديد في شعر الفروسية هو عبادة الحب والحرص عليه، واعتباره المصدر الأهم للخير والجمال والسعادة الحقة، حيث يتم التعويض عن حرقة الفراق بفرح الروح ونشوة الانتظار، مضيفاً أن التروبادور كانوا في الأصل من المغنين الذين يستقدمهم الأمراء إلى قصورهم وبلاطاتهم بهدف الاستئناس بأغانيهم والتخفف من أثقال الحروب والصراعات المختلفة. حتى إذا ما استُحدث تقليد كتابة الشعر في وقت لاحق، طُلب إليهم التغزل بنساء الأمراء وامتداح جمالهن ومقامهن السامي، على أن لا تتجاوز العلاقة بين الطرفين علاقة التابع بالمتبوع والخادم بسيدته، وكان الفرسان ومنشدو البلاط يقدمون فروض الولاء لهذه السيدة المثقفة، الموسرة والجذابة.

أما دينيس دي ريجمون صاحب كتاب «الحب والغرب»، فيستبعد أي دور للعامل الاجتماعي في نشوء ظاهرة التروبادور، لأن وضع المرأة في الجنوب الأوروبي لم يكن أقل ضعة وتبعية من وضعها في شمال القارة. إلا أنه يقيم نسباً واضحاً بين التروبادور والشعراء الكاتاريين، الذين بدا عشقهم للمرأة نوعاً من الديانة الخاصة، معتبراً أن كلاً من الطرفين قد استلهم في تجربته الحركات الصوفية والغنوصية، إضافة إلى الديانات الفارسية القديمة. وفي إطار بحثه عن منشأ تلك الظاهرة، لم يركن المؤلف إلى مصدر واحد، بل قادته الحيرة إلى العديد من الفرضيات، التي تأتي في طليعتها الديانة المانوية القائمة على التعارض الضدي بين الخير والشر، وبين قوى النور وقوى الظلام، والمحكومة على الدوام بالروح الغنائية والقلق الدائم، بعيداً عن أي تصور للعالم، عقلي وموضوعي.

ولأن هذا المعتقد يرى في الجسد عين الشقاء، وفي الموت الفداء الحقيقي لخطيئة الولادة، فقد أكد الباحث الفرنسي بأن التروبادور كالمانويين، قد أنكروا كل حب شهواني محسوس، ورأوا أن العشق المتعفف والزهد بالملذات، هما الطريقة المثلى لخلاص الإنسان. إلا أن دي رجمون الذي لم ير في تجربتهم سوى نبتٍ هجين تتصل جذوره بالديانات الوثنية القديمة، كما بتيارات الزندقة والحركات الغنوصية والصوفية المتطرفة، ما يلبث أن يغادر مربع الحياد البحثي، ليتبنى موقفاً أخلاقياً مفضياً إلى إدانة التجربة العشقية للتروبادور، الأقرب في رأيه إلى الزنا والهوس المرضي بالمرأة، وليقف بشكل حاسم إلى جانب الزواج الديني الشرعي.

ومع أن في قول دي رجمون بأن الهوى الجامح هو المعادل الرمزي للمشاعر القومية والدينية التي غذت الحروب، جانباً من الحقيقة أكدته مشاركة بعض العشاق الفرسان في الحروب الصليبية، فإن الجانب الآخر يؤكد أن هؤلاء الشعراء قد أحلوا الحب محل الحرب، والتزموا في عشقهم بشعائر وطقوس شبيهة بالطقوس والشعائر الدينية. فالمرأة في معادلة العشق التروبادور هي «السيدة» المتعالية التي لا يُفترض بالعاشق أن يغزو حصونها المنيعة بالسلاح، بل بالمديح الشعري والموسيقي النابضة بالرجاء. وكما يقسم الناس لملوكهم بالولاء والطاعة، فإن الشاعر الفارس يقسم راكعاً على ركبتيه، بالإخلاص الأبدي لسيدته، فيما تقوم من جهتها بإعطائه خاتماً من ذهب، طالبة إليه النهوض ومكافئة إياه بقبلة على جبينه.

وبصرف النظر عن اجتهادات الباحثين المتباينة حول الأسباب والعوامل التي أسهمت في نشوء هذه الظاهرة وانتشارها وتألقها، فالثابت أنها استطاعت أن تتحول إلى علامة فارقة في الثقافة الغربية لما يقارب القرون الثلاثة من الزمن، قبل أن يغرب نجم الإقطاع وتتقهقر تقاليد الحب الفروسي. وإذ اعتبرت الكاتبة الأميركية لاورا كندريك في كتابها «لعبة الحب» أن التروبادور قد استخدموا لغة الشعر بطريقة جديدة، ولعبوا بالكلمات كما لو كانت أدوات وأشياء مادية من صنع أيديهم، فإن سلوكياتهم وطرائق عيشهم قوبلت باعتراض صارم من قبل الكنيسة، التي نظرت إلى تلك السلوكيات بوصفها إهانة لتعاليمها وأهدافها الحاثة على الزواج الشرعي. ولأن الكنيسة كانت ترى في كل علاقة تحدث خارج السرير الزوجي، حتى لو ظلت بعيدة عن الترجمة الجسدية، حالة من أحوال الزنا «النظري»، أو إسهاماً في قطع دابر التكاثر، فقد شنت ضد هؤلاء الشعراء العشاق حرباً لا هوادة فيها، إلى أن تمكنت من القضاء على الظاهرة بكاملها في أواخر القرن الثالث عشر. إلا أن زوال العصر الذهبي للتروبادور، لم يفض بأي حال إلى إزالة شعرهم من الخريطة الثقافية الغربية، بدليل أن هذا الشعر قد ترك، باعتراف كبار النقاد، بصماته الواضحة في الشعرية الأوروبية اللاحقة، بدءاً من دانتي وبترارك وتشوسر، وليس انتهاءً بعزرا باوند وت. س. إليوت وكثرٍ آخرين.