ثور دلمون يشبه في تكوينه الثيران السومرية

يغلب عليه الطابع الاختزالي في التجسيم

ثور باربار المحفوظ في متحف البحرين الوطني وختمان من جزيرة فيلكا
ثور باربار المحفوظ في متحف البحرين الوطني وختمان من جزيرة فيلكا
TT

ثور دلمون يشبه في تكوينه الثيران السومرية

ثور باربار المحفوظ في متحف البحرين الوطني وختمان من جزيرة فيلكا
ثور باربار المحفوظ في متحف البحرين الوطني وختمان من جزيرة فيلكا

بدأ استكشاف آثار جزيرة البحرين خلال العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر، حيث توافد تباعاً عدد من البحاثة الأوروبيين الهواة إلى بقاعها بحثاً عن آثارها المجهولة. استمر هذا الاستكشاف المتقطّع خلال النصف الأول من القرن العشرين، وشهد تحوّلا مفصلياً كبيراً مع وصول بعثه دنماركية من متحف ما قبل التاريخ في آرهوس، قَدِمت إلى هذه البلاد في عام 1953 بغية الكشف عن مستوطناتها الأولى. في العام التالي، كشفت هذه البعثة عن موقع أثري استثنائي يقع بالقرب من قرية باربار، شمال غربي مملكة البحرين، في المحافظة الشمالية، وتبيّن لاحقاً أن هذا الموقع يضمّ معبداً يعود إلى حضارة دلمون التي احتار العلماء في تحديد أصولها وفروعها. من بين أطلال هذا المعبد، خرجت مجموعة من القطع واللقى الأثرية، أشهرها قاطبة رأس ثور من البرونز يُعرف اليوم بثور دلمون.

يضمّ معبد باربار في الواقع ثلاثة معابد شُيّد بعضها فوق بعض. بُني المعبد الأول في منتصف الألف الثالث قبل الميلاد، وبُني المعبد الثاني بعد مرور زهاء خمسة قرون على بناء المعبد الأول، وبُني من بعده المعبد الثالث ما بين 2100 و2000 قبل الميلاد. وأظهرت الدراسات أن المكوّنات الهندسية الخاصة بهذا البناء تتبع النمط السومري الذي ساد في بلاد الرافدين، وتجلّى في مواقع عدة، أبرزها معبد تل العبيد في جنوب العراق، والمعبد البيضاوي في خفاجة، على الضفة اليسرى من نهر ديالى. خرج ثور دلمون من المعبد الثاني، وسط مجموعة من اللقى المتعددة الأنواع والأحجام، وتُجمع الدراسات على القول إنه يعود إلى مرحلة تمتد من نهاية الألف الثالث إلى مطلع الألف الثاني. يبلغ طوله 18 سنتيمتراً، ويتميز بقرنين هلاليين ضخمين، يشكلان مساحة دائرية يبلغ قطرها 15 سنتمتراً. أثار هذا الثور فضول الباحثين الذين تناوبوا على دراسته، واختلفت القراءات في تحديد أصوله ووظيفته على مدى خمسة عقود من البحث والتدقيق والتحليل، ولا يزال السجال مفتوحاً في هذا الميدان.

يغلب على ثور دلمون الطابع الاختزالي في التجسيم، وهو أشبه بقطعة معدنية ملساء تخرقها عينان بيضاويان مجوفتان صيغتا بحجم ضخم، ويُوحي هذا التجويف الفارغ بأنهما كانتا مطعّمتين بأحجار من النوع الثمين، أو بمادة أخرى مغايرة للمادة التي صُنع منها الرأس. تحدّ هاتين العينين الهائلتين أفقياً أذنان صغيرتان، صيغت كلّ منهما على شكل نصف دائرة مجرّدة. يحتل الجبين مساحة محدودة من تأليف الوجه، تعلوه مساحة مستطيلة زُيّنت بشبكة من الخطوط المحفورة، اعتمدت في صياغتها عنصراً هندسياً واحداً يُعرف بـ«المُعَيَّن»، وهو شكل رباعيّ الأضلاع، يتكوّن من مثلثين متساويي الساقين، لهما قاعدة مشتركة. يتبع الأنف في صياغته كذلك هذا النسق التحويري الهندسي، وهو على شكل أسطواني، ويحدّ طرفه الناتئ شريط ناتئ يحيط بفتحتيه الكبيرتين. يعلو هذا الرأس قرنان هائلان على شكل هلالين متقابلين في وجهة معاكسة، يلتقي طرفاهما المقوّسان في القمّة. عند طرف كل من الأذنين يظهر ثقب دائري مجوف، ويوحي هذان الثقبان المتوازيان بأنهمّا خصّصا لتعليق هذا الرأس في موقع يصعب تحديده.

احتلّ الثور مكانة رفيعة في فنون الجزيرة العربية، غير أن ثور دلمون يخرج عن هذه الدائرة، فهو يعود إلى مرحلة زمنية موغلة في القدم، سبقت ظهور ثيران جزيرة العرب، ويتبع تقليداً ظهر في نواحٍ عدة من الشرق القديم، وشواهد هذا التقليد نادرة في الجزيرة، منها رأس معدني منمنم خرج من جزيرة تاروت التي تَتْبع اليوم المملكة العربية السعودية، وتشكّل في الماضي جزءاً من العالم الدلموني. في عام 1971 خصّت العالمة الدنماركية إليزابيث دورنغ كاسبرز، ثور باربار بدارسة علمية معمّقة، وقارنت بينه وبين رؤوس ثيران سومرية خرجت من نواحٍ عدة من بلاد الرافدين، ورأت أن ثور دلمون يشابه في تأليفه كما في تكوينه الثيران السومرية دون أن يماثلها. من جهة أخرى، سعت الباحثة إلى تحديد وظيفة هذا الرأس، ورأت أنه خرج من معبد باربار الثاني، ومن الموقع الذي شكّل قدس الأقداس في هذا المعبد، وهو الموقع المخصص للطقوس الدينية المرتبطة بعقيدة المياه والخصوبة، وخلصت إلى القول إن رأس الثور الدلموني كان على الأرجح مثبّتاً على أحد الأعمدة التي تحدّ الطريق المخصّصة للمتعبّدين الهابطين إلى نبع الماء المقدّس في المعبد.

في المقابل، رأى عدد من البحاثة أن الثور الدلموني كان مثبّتاً على الجزء الأعلى من صندوق خشبي خاص بكنارة موسيقية، وفقاً لتقليد مكرّس في العالم السومري، وفنّد الباحث العراقي صبحي أنور رشيد شواهده الأثرية المتعدّدة في كتابه «تاريخ الآلات الموسيقية في العراق القديم». اتضّح أن هذا التقليد كان متّبعاً في العالم الدلموني، كما تشهد صوره التي تظهر على ما تُعرف بالأختام الدلمونية، وهي الأحجار التي تشكل نقوشها موسوعة كاملة خاصة بعالم دلمون، فصورها تحاكي أنماط الحياة الاجتماعية في مختلف وجوهها، وتكشف عن التقاليد المتبعة والعقائد السائدة في هذا العالم. واللافت أن الكنارة المزينة بثور، تحضر على عدد من هذه الأختام، أبرزها ختم من جزير فيلكا الكويتية التي شكّلت في الماضي حاضرة من حواضر دلمون الرئيسية.

راج الحديث عن رأس ثور دلمون بوصفه جزءاً من كنارة بحرينية خلال السنوات الأخيرة، غير أن وظيفة هذا الرأس لم تتضح بعد في الواقع، كما أن مصدره الأصلي لم يتّضح بعد، والأرجح أنه من النتاج المحلّي، كما يميل معظم البحاثة إلى القول في زمننا. تحضر صورة الثور مع الكنارة في نقش يعلو ختماً من فيلكا، كما تحضر صورة رأس الثور بشكل مستقل في مشهد طقوسي يزيّن نقشاً يعلو ختماً آخر من فيلكا، وكل ما يُمكن القول في الخلاصة أن رأس ثور دلمون صُنع ليلعب إحدى هاتين الوظيفتين على ما يبدو.


مقالات ذات صلة

بأية سوريا نحلم؟

ثقافة وفنون سوريون يحتفلون في ساحة المسجد الأموي بدمشق (أ.ف.ب)

بأية سوريا نحلم؟

في فترة قياسية في التاريخ، لم تتجاوز أحد عشر يوماً، سقط أكثر من نصف قرن من نظام استثنائي بقمعه، وأجهزته الأمنية، وسجونه، وسجل ضحاياه.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون هيثم حسين

تأخذ أحلامي شكل الوطن الذي حُرمت منه

أحلم بسوريا جديدة تُعاد صياغتها على أسس المواطنة الحقيقيّة، حيث ينتمي الفرد إلى الوطن لا إلى طائفة أو عرق أو حزب

هيثم حسين
ثقافة وفنون عتاب حريب

حين طلب مني الأمن أن أرسم صورة «المعلم»

في عام 2011 كنت على موعد للحصول على فيزا لإقامة معرض في نورث كارولينا بدعوة من جامعة دافيدسون وحصلت على الفيزا في آخر يوم قبل إغلاق السفارة بدمشق.

عتاب حريب
ثقافة وفنون علياء خاشوق

لن نسمح بعد الآن لأحد أن يسرق الحلم منا

«يسقط الطاغية (الثلج) الآن في مونتريال، والأشجار وقوفاً كالأشجار».

علياء خاشوق
ثقافة وفنون فواز حداد

سوريا بحاجة لاستعادة أبنائها

لدى السوريين عموماً عناوين غير مختلف عليها حول سوريا الجديدة: دولة مدنية. ديمقراطية. سيادة القانون. دستور. انتخابات. تداول السلطة. المواطنة. حرية التعبير والرأي

فواز حداد

بأية سوريا نحلم؟

سوريون يحتفلون في ساحة المسجد الأموي بدمشق (أ.ف.ب)
سوريون يحتفلون في ساحة المسجد الأموي بدمشق (أ.ف.ب)
TT

بأية سوريا نحلم؟

سوريون يحتفلون في ساحة المسجد الأموي بدمشق (أ.ف.ب)
سوريون يحتفلون في ساحة المسجد الأموي بدمشق (أ.ف.ب)

في فترة قياسية في التاريخ، لم تتجاوز أحد عشر يوماً، سقط أكثر من نصف قرن من نظام استثنائي بقمعه، وأجهزته الأمنية، وسجونه، وسجل ضحاياه. ومن الطبيعي أن يكون الفرح مدوِّياً بسقوط هذا النظام الذي كان حتى قبل أيام قليلة أقرب للمستحيل؛ لطول بقائه، وصلادته التي تَبيَّن أنها صلادة خادعة. لكن ماذا بعد ذلك؟ كيف سيكون شكل ولون سوريا؟ ماذا يريدها أبناؤها بعد هذا الكم الهائل من التضحيات والعذاب أن تكون، أو ما ينبغي أن تكون؟

هنا آراء بعض الكتّاب والفنانين السوريين:

تأخذ أحلامي شكل الوطن الذي حُرمت منه... هيثم حسين

حين طلب مني الأمن أن أرسم صورة «المعلم»... عتاب حريب

لن نسمح بعد الآن لأحد أن يسرق الحلم منا... علياء خاشوق

سوريا بحاجة لاستعادة أبنائها... فواز حداد