كانت البحرين في الماضي مركزاً لإقليم ذي وحدة حضارية وسياسية عُرف باسم «دلمون»، امتد على طول ساحل شبه الجزيرة العربية، من جزيرة فيلكا التي تتبع اليوم دولة الكويت، إلى حدود بلاد مجان التي تُعرف اليوم باسم عُمان. شكّل هذا الإقليم حلقة وصل بين بلاد الرافدين ووادي السند، وعُرف بنشاطه التجاري البحري، بسبب توافر الشروط الاقتصادية والحيوية فيه، وتوافر الخيرات والقدرات الضرورية. الشواهد الكتابية لهذا النشاط كثيرة، وتقابلها شواهد تصويرية فنية، تظهر في مجموعة من الأختام المزينة بالنقوش، عُثر عليها في البحرين وفيلكا.
مع بداية الألف الثالث قبل الميلاد، شكّلت دلمون محطة تجارية رئيسية في الطريق البحرية الممتدة من أقصى شرق بلاد السند إلى جنوب بلاد ما بين النهرين، ففيها كانت السفن تتوقف ثم تواصل رحلتها إلى جنوب العراق، كما أنها كانت تفرغ حمولتها في هذه المحطة، لتُنقل إلى هذه النواحي من طريق سفن دلمونية. برز دور هذه السفن في نهاية الألف الثالث، حيث استغلّت دلمون موقعها الجغرافي المهم، فتحوّلت من محطّة إلى قوة متاجرة تتحكّم في حركة المرور بالخليج، واحتلّت وظيفة السوق التجارية. عمد تجار الجنوب الشرقي الى إفراغ بضائعهم في دلمون، وعمد تجار دلمون إلى نقل هذه البضائع إلى الشمال، وباتوا أسياد تجارة العبور المربحة.
تحوّلت دلمون إلى مركز تجاري احتكاري، وتردّد صدى هذا التحوّل في نص سومري مشهور يعود إلى الألف الثاني قبل الميلاد، يتغنّى بـ«منازل دلمون الطيبة»، وهي المنازل التي يُنقل منها الذهب واللازورد والعقيق الأحمر، وخشب الميس وأخشاب البحر المجيدة، والأحجار الكريمة والبلور، والنحاس العظيم القوة والأبنوس والمعدن الجيد، والحبوب وزيت السمسم، والثياب النبيلة والمجيدة.
من جزيرتي البحرين وفيلكا، خرج كمّ هائل من الأختام الأسطوانية المزينة بنقوش تصويرية تختزل عالماً واسعاً من الدلالات متعددة الوجوه. في مجموعة من هذه الأختام، تحضر صور مراكب صغيرة تشكّل قاموساً تشكيلياً خاصاً يشهد للدور التجاري البحري الذي لعبته دلمون على مدى قرون من الزمن. تعود هذه الأختام إلى ثلاث حقب متلاحقة... تمتدّ المرحلة الأولى من 2050 إلى 1900 قبل الميلاد، وتتبعها مرحلة ثانية تمتد من 1900 إلى 1700 قبل الميلاد، وتمتد المرحلة الثالثة من 1600 إلى 1500 قبل الميلاد، وتتمثّل في مجموعة معدودة من الأختام تعود إلى جزيرة فيلكا، تشهد لتطوّر كبير في المشهد التصويري الدلموني.
من نماذج المرحلة الأولى، يحضر ختمان من البحرين حظيا بشهرة إعلامية واسعة. الختم الأول مصدره مدينة حمد، وهو ختم ذو نقش بسيط يصوّر شخصين ينتصبان في وقفة واحدة وسط مركب صغير يبدو في تكوينه أقرب إلى زورق ذي ظهر مسطّح.
طرف مقدّمة هذا المركب مقوّس، وكذلك مؤخرته، ويُظهر الرسم التوثيقي للنقش اختلافاً في بنية هذا التقويس بين المقدّمة والمؤخرة. يعتمد هذا النقش أسلوباً تصويرياً بسيطاً، يغلب عليه طابع الاختزال والتجريد. يحضر الشخصان في قامتين مجردتين من الملامح والسمات، تقفان في وضعية المواجهة. وسط هذا المركب، وبين القامتين، يرتفع عمود يعلوه هلال. في الجزء الأسفل من الختم، يظهر سطح المياه على شكل خط متعرج. وفي القسم الأعلى، تظهر سعفتان تحتل كل منهما طرفاً من طرفي التأليف.
الختم الثاني مصدره موقع «سار» الأثري في نواحي غرب العاصمة المنامة. يتبع هذا النقش أسلوباً مماثلاً في التصوير، ويمثّل بحّارَين يقودان مركباً صغيراً ذا ظهر مقوّس، يتدلّى من طرفه الأسفل مجذافان. يحدّ طرفي هذا المركب مجسّمان مقوّسان، وفي وسطه، يرتفع شراع على شكل مثلث بسيط. من الجهة اليمنى يقف رجل يمسك طرف مؤخرة المركب بيده اليمنى، وطرف الشراع بيده اليسرى. ومن الجهة المقابلة، يقف بحار يرفع قدمه اليمنى نحو عمود الشراع، ممسكاً بيده اليمنى هذا العمود في حركة موازية. في الجزء الأسفل من التأليف، يحضر عقرب كبير يحتلّ مساحة موازية لمساحة المركب، ويُعدّ هذا الحيوان من العناصر التي تشكّل القاموس التشكيلي الخاص بالأختام الدلمونية.
مع بداية الألف الثالث قبل الميلاد شكّلت دلمون محطة تجارية رئيسية في الطريق البحرية الممتدة من أقصى شرق بلاد السند إلى جنوب بلاد ما بين النهرين
من تلك الحقبة كذلك، يحضر ختم من فيلكا يتبع هذا الأسلوب في النقش والتصوير، ويمثّل رجلين في زورق يتميز بشراع كبير حدّدت مساحته بأربعة خطوط متوازية، تلتقي عند قمّته. تبدو معالم المجسّم الذي يعلو طرف مؤخرة الزورق أكثر وضوحاً، وهي على شكل غزال ذي قرنين، كما يُظهر الرسم التوثيقي للختم. يختلف البحاران من حيث الحجم والقياس. في الطرف الأيمن، يقف البحار الأكبر وهو يدير ذراعيه في اتجاه رفيقه الذي يقف في الطرف المواجه، ويظهر في الخلف، من فوق سطح السفينة، كأنه يحلّق في الفضاء.
من الحقبة الثانية، يحضر ختم ذو حجم مكعب من فيلكا، يشكّل في تصويره امتداداً للأسلوب المتبع في الفترة الأولى. ذكر الباحث سلطان الدويش هذا الختم في كتابه الذي حمل عنوان «المواقع الحضارية على الساحل الغربي للخليج العربي»، ورأى أنه «متأثر بوادي السند»، وقال إنه مثل مركباً «يحمل رجلا عارياً، يتّجه وجهه لليسار، يُمسك بكلتا يديه رايتين تنتهي ساريتاهما بإناء». وأضاف الكاتب: «نُقش على مقدمة السفينة رأس حيوان ذي قرون»، وهذا الحيوان هو الغزال الذي تتكرر صورته على هذه المراكب الدلمونية، كما اتضح في قراءة تحليلية لهذه المجموعة من النقوش.
تكشف أختام أخرى تعود إلى تلك الفترة عن تحوّل في التصوير، ومنها ختمان متشابهان؛ أحدهما من موقع «سار» والآخر من مدينة حمد. على وجه الختم الأول، يظهر بحار يرتدي مزوراً من الصوف، وهو اللباس الذي يُعرف بالطراز السومري. يقف هذا الرجل وسط زورق مقوّس، ويحوط به من جهة غزال ذو قرنين طويلين، ومن الجهة المقابلة سمكة كبيرة بلغ طولها طول هذا الغزال. يتكرّر هذا المشهد على وجه الختم الآخر حيث يظهر مرافق للبحار يرتدي لباساً مماثلاً. تغيب السمكة عن هذه الصورة، ويحضر في الجهة المقابلة غزال يماثل في تكوينه الغزال الذي يظهر على وجه ختم «سار».