فعل الكتابة شريك في فهم الدراما النفسية للشخوص

نورا ناجي في «بيت الجاز»

فعل الكتابة شريك في فهم الدراما النفسية للشخوص
TT

فعل الكتابة شريك في فهم الدراما النفسية للشخوص

فعل الكتابة شريك في فهم الدراما النفسية للشخوص

في روايتها «بيت الجاز» تولي الكاتبة والروائية المصرية نورا ناجي اهتماماً بإيجاد فضاء مكاني مُهمش يتسع لطرح تساؤلات محورية حول الموت المجاني، ومواجهة الواقع المرفوض، فيما يبدو السقوط وكأنه «رحلة» طويلة مُمتدة في حياة البشر، لا تنتهي بلحظة الارتطام بالأرض، أو الوقوف على الحافة، والنظر إلى الهاوية من منظور أبعد من كل التصورات عن الخوف من المجهول، بل يبدو الأمر أكثر واقعية من الواقع نفسه.

صدرت الرواية أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة، وفيها يتفرع السرد إلى ثلاثة فصول ومسارات رئيسية، تمثل معاً «ضفيرة» العمل: (الكاتبة - الرِواية - الحقيقة)، تنهض على خلفية جريمة إلقاء طفل حديث الولادة من شبَّاك مستشفى في مدينة طنطا المصرية، بما يُلقي بظلاله على بطلات الرواية الرئيسيات؛ «رضوى» الكاتبة التي تبحث عن سلام مفقود، و«يمنى» الطبيبة التي تواجه واقعاً مُركباً، و«مرمر» الطفلة التي سُلبت منها طفولتها قسراً قبل أوانها.

وعبر 202 صفحة، تربط الرواية بين قصص بطلاتها عبر تقنية من التوازي بين ما هو واقع ومُتخيّل، والمساحات المهمشة والضائعة بينهما، تمهد الكاتبة لذلك على لسان «رضوى» بطلة الرواية: «ظلّت هذه الأقصوصة من صفحة الحوادث ماثلة أمام عينيّ رضوى بطلة الرواية ثلاثة عشر عاماً. تحفز الحادثة المروعة فتخوض رحلة تنقيب عن قصة أم هذا الطفل وملابسات تلك الفاجعة، لتُفجر تلك القصة (المُختبئة) آلاماً شخصية مطمورة داخلها، وتقودها إلى رحلة كتابة يتحوّل فيها الواقع إلى واقع آخر مُتخيّل، في تخليق سردي يبدو أقرب لخروج رواية من (رحِم) رواية أخرى».

تقمص روائي

أيضاً يبدو «الرحِم» أحد مفاتيح الاقتراب من العالم النفسي للرواية، بداية من توظيفه كمجاز لفكرة المهد الأول أو «البيت» الذي يشهد على مناخات طفولة غائمة وسنوات نشأة مُعقدة لبطلات الرواية الثلاث بطرق مختلفة، وصولاً لصورته المادية حيث تقترب الرواية من مأساوية واقع الإجهاض، بما يحمله من لحظات انكسار مضنية لا تتجاوزها النساء بسهولة، ولعل المشهد الرئيسي الصادم لسقوط جنين من شباك مستشفى جامعي على رأس رجل، يظل شبحاً يُلاحق بطلة الرواية «رضوى»، التي بدا لها هذا الحادث أعمق من مجرد «مادة» روائية جذابة، حيث يُعيد تعريفها على عالمها المُظلم وهي تتقمص مشاعر بطلاتها اللاتي استلهمتهن من تتبع هذا الحادث، فتقترب من تلك المشاعر التي كانت تتحاشاها بتناسيها عمداً، بما يلقي الضوء على «الكتابة» بوصفها فعل تحرير وتطهير، وكذلك فعل مُكاشفة مرأوي، حيث تبدو الكاتبة وكأنها مُتورطة في مأساة شخصيات روايتها، وكأنها جزء من تركيبة زمنها الروائي الذي تخلقه، دون أن تتخذ مسافة آمنة من عالمها الموحش.

تُسيّج نورا ناجي عالم روايتها بمحيط منطقة «بيت الجاز» بروائحه النفاذة، يعززها مجاورته للمقابر، ومستشفى «الجذام» القديمة، وهي بؤرة لا تكف عن بث مشاعر عارمة من الانقباض على مدار العمل: «بين الفقر والمرض والجلود الذائبة أو المتغضنة أو المجذومين الصامتين، في الشوارع المتربة والنساء اللاتي يرتدين السواد، وعربات الكارو وأكوام القمامة والشجر المصفر على جانبي الطريق»، هكذا تلقي الرواية بظلالها على العالم الذي تخرج منه «يمنى» الطبيبة التي تعمل بالنهار في مستشفى الجذام، وفي عيادة تجميل بالليزر ليلاً، لتبدو حياتها سلسلة من التناقض والانفصال، والبطلة الثانية «مرمر» ابنة «بيت الجاز»، التي ما إن تفتّح جسدها من مكمن الطفولة إلى عتبات الأنوثة حتى تلفها دوائر من الحيرة، فتبدو البطلتان وكأنهما تشاطران معاً رحلتهما صوب «السقوط»، الذي دعم السرد تقديمه بصورة فنية وكأنهما ظِل لامرأة واحدة حتى في مآلات مصيرهما، إنه السقوط الذي كانت تتقمصه بطلة الرواية «رضوى» خلال كتابتها لقصة بطلتيها: «كلما أغمضت عينيها ترى العالم يهوى. ليست هي من تسقط في رؤاها المُتخيلة، بل العالم من حولها».

أزمنة مشتركة

تتبنى الرواية منظوراً يُوسّع من تأمل الحكاية وعدم إغلاقها على بطلاتها، بما يجعل فعل الكتابة نفسه شريكاً في فهم الدراما النفسية والاجتماعية وراء هذا الحادث: «الحياة أرحم من الكتابة، لأنها في الكتابة لن تفكر كثيراً في الطفل، بل ستبحث عن أصل الحكاية، عن الجذر المُتخفي داخل الأرض، عن القسوة التي أدت للفعل، عن البطن التي لفظت، واليد التي ألقت، والأرجل التي ركضت هاربة، ستتقصى رضوى عن الهشاشة، عن الشر الذي يُغلّف العالم مثل غلالة رقيقة. شر البشر يدفعها للتعاطف، الشر يخفي كل اليأس».

ويتسلل من خلال صوت «رضوى» خيط خفي يصل بين أصوات الكاتبات عبر أزمنة وعوالم مختلفة، كأنه تحية روائية لتلك الآصرة النِسوية، فالبطلة تتلمس على امتداد حياتها طيف الكاتبة «رضوى عاشور»، وتُلّمِح إلى «فيرجينيا وولف» التي تتحدث عنها بلسان حفيدة صارت «تملك غرفة تخصها للكتابة» بعد سنوات طويلة من الكفاح، وتسرد «قائمة الخسارات» المُشتركة لدى الكاتبات، وذلك الجانب المُعتم في حياتهن حيث «الكتابة هي الألم»، فتصفها بأنها: «حُمى راسكولنيكوف بعد قتله للمرابية العجوز، وهي دموع السيد أحمد عبد الجواد بعد موت ابنه، وهي خوف شهرزاد كل ليلة، وهي السماء التي تحتوي قمرين».


مقالات ذات صلة

كنوز غزة.... قصة القطع الأثرية التي نجت من الدمار

ثقافة وفنون تدمير المسجد العمري

كنوز غزة.... قصة القطع الأثرية التي نجت من الدمار

قبل أن تشرح السيدة إلودي بوفار، المشرفة على معرض «كنوز غزة التي أنقذت، 5000 سنة من التاريخ»، أهمية هذا الحدث الثقافي الذي يحتضنه معهد العالم العربي في باريس

أنيسة مخالدي (باريس)
ثقافة وفنون وفود من المدارس المغربية تزور المعرض

«معرض الرباط للنشر والكتاب»... اللقاءات الفكرية حظيت بالحضور الأكبر

شهد معرض الرباط الدولي للنشر والكتاب هذه السنة إقبالاً واسعاً من الزوار الذين توزعوا على أروقته طيلة هذا الأسبوع. قُرّاء من مختلف الفئات العمرية والطبقات الاجتم

عمر الراجي (الرباط)
ثقافة وفنون «إنهم حقاً رجال شرفاء»... الشيخوخة من منظور نسائي

«إنهم حقاً رجال شرفاء»... الشيخوخة من منظور نسائي

تتناول رواية «إنهم حقاً رجال شرفاء» الصادرة أخيراً عن دار «الكرمة» بالقاهرة للكاتبة ابتسام شوقي قصة سيدة عجوز تعيش وحيدة معزولة عن الآخرين،

«الشرق الأوسط» ( القاهرة)
ثقافة وفنون البابا في العراق (أ.ب)

أنوار البابا الطيب

لماذا ننعته بـ«الطيب»؟ لأنه جعل من الانفتاح على الإسلام والمسلمين أحد المحاور الأساسية لعهدته البابوية. وقد لقيتْ مبادراته أصداء واسعة

هاشم صالح
ثقافة وفنون محمود البريكان... الشعر في ضوء متغيّرات العالم

محمود البريكان... الشعر في ضوء متغيّرات العالم

كل قراءة أو «إعادة» قراءة لشاعر هي قراءة جديدة. ما مِن إعادة بمعنى التكرار إزاء النصوص المخترقة لزمنها، المتقدمة عليه.

باسم المرعبي

كنوز غزة.... قصة القطع الأثرية التي نجت من الدمار

تدمير المسجد العمري
تدمير المسجد العمري
TT

كنوز غزة.... قصة القطع الأثرية التي نجت من الدمار

تدمير المسجد العمري
تدمير المسجد العمري

قبل أن تشرح السيدة إلودي بوفار، المشرفة على معرض «كنوز غزة التي أنقذت، 5000 سنة من التاريخ»، أهمية هذا الحدث الثقافي الذي يحتضنه معهد العالم العربي في باريس إلى غاية نوفمبر (تشرين الثاني) 2025، بدأت بالتذكير بأن «الأولوية هي لإنقاذ الأرواح البشرية قبل القطع الأثرية، لكن مساعينا انطلقت من الرغبة في إعادة الاعتبار لتراث غزة الذي طوته المأساة، نريد أن يرى العالم الوجه الآخر لغزة، المدينة الحضارية الغنية بتراث عمره أكثر من خمسة آلاف عام».

هذا الحدث الذي يسعى إلى إحياء الذاكرة الثقافية للمنطقة وإبراز عمقها الحضاري الذي طمرته الحرب هو الأول من نوعه في فرنسا بشهادة رئيسه جاك لانغ، وهو يعرض أكثر من 130 قطعة أثرية تشهد على تاريخ غزة الطويل الممتد على مدى ثماني حضارات مختلفة. المجموعات المعروضة مستمدة من التنقيبات الأثرية لفرق فرنسية وفلسطينية عملت معاً في غزة منذ 1995 بإشراف عالم الآثار الفرنسي القس الدوميناكي جان باتيست همبير (84 سنة). أقدمها تعود إلى العهد البرونزي، أي 3200 سنة قبل الميلاد، وأحدثها من العهد العثماني في نهاية القرن التاسع عشر: منها التماثيل والأحجار والجرار والقطع النقدية، ومنها ما يحمل قيمة تاريخية كبيرة كوعاء فخاري يعود إلى أربعة آلاف عام وفسيفساء بيزنطية تعود إلى القرن السادس وتمثال لأفروديت كشاهد على التأثيرات الهلنستية في المنطقة.

المعرض رفع النقاب أيضاً عن القصة المذهلة لهذه القطع الأثرية التي حلّت في باريس قادمة من سويسرا، حيث ظلّت عالقة في منطقة جنيف الحرة لمدة تناهز 17 سنة في انتظار عودتها إلى موطنها الأصلي بعد أن عُرضت في متحف جنيف في 2006. القطع التي لم يعرض منها في باريس سوى 150 من أصل 529 لم تتمكن من العودة إلى غزة بسبب الحصار وعرقلة السلطات الإسرائيلية، يومية «لوتون» السويسرية كانت قد وصفتها بـ«الكنوز التي أصبحت عبئاً»، وكان مصممو المعرض قد اختاروا عرضها في قواعد معدنية مثبتة على عجلات وكأنها مستعدة للرجوع إلى الوطن في أي لحظة في مفارقة محزنة بين النفي القسري الذي تعرضت له هذه الكنوز الأثرية التي تنتظر في المنفى منذ 17 سنة.

تضمن المعرض أيضاً جولة افتراضية ثلاثية الأبعاد داخل دير القديس هيلاريون، الذي شُيّد عام 329 ميلادياً، ويُعد من أقدم الأديرة في الشرق الأوسط، وقد أُدرج على قائمة الممتلكات الثقافية المحمية دولياً من قبل «اليونيسكو» في يوليو (تموز) 2024. وإن كان من الصعب إجراء جرد دقيق لكل المعالم الأثرية التي تعرضت للدمار منذ بداية الحرب على غزة إلا أن منظمة الأمم المتحدة للتربية والتعليم والثقافة (اليونيسكو) رصدت استناداً إلى صور الأقمار الاصطناعية الأضرار التي لحقت بأكثر من 94 موقعا أثريا في القطاع.

من هذه المعالم المسجد العمري الكبير، الذي شُيّد عام 700 ميلاديا على أنقاض كنيسة بيزنطية، وتحول لاحقاً إلى كنيسة في عهد الصليبيين ثم أعيد مسجداً في زمن المماليك، قبل أن يتوسع في الحقبة العثمانية، حيث تعرض للقصف مراراً، وكان آخرها في نوفمبر عام 2023، حيث تعرضت مئذنته لأضرار جسيمة، إضافة إلى متحف قصر الباشا الذي يضم قطعاً من العهود اليوناني والروماني والبيزنطي والإسلامي، وتعود بنيته إلى القصر المملوكي في زمن الظاهر بيبرس، ويعرف أيضا باسم «قلعة نابليون» لأن نابليون بونابرت أقام فيه ثلاثة أيام خلال رحلته لمصر. وقصفته قوات الاحتلال الإسرائيلي ودمرت أجزاء كبيرة منه في ديسمبر (كانون الأول) 2023، إضافة إلى تدمير الكنيسة البيزنطية وكنيسة القديس برفيريوس ثالث أقدم كنيسة في العالم.

وإن كانت الأولوية منذ بداية الحرب هي لإنقاذ الأرواح البشرية إلا أن كثيرا من المبادرات عرفت النور في محاولة لإنقاذ التراث أيضاً. فقد تم نقل مجموعات من متحفين إلى مناطق آمنة داخل قطاع غزة بدعم مالي من التحالف الدولي لحماية التراث (Aliph) الذي خصّص لها مبلغ 602 ألف يورو، كما تم أيضاً تدريب حوالي ستين محترفاً (عبر الإنترنت) من أجل التدخل الطارئ لحماية القطع أو استخراجها من الأنقاض. تشرح السيدة الودي بوفار المشرفة على معرض «كنوز غزة»: «لا نستطيع التدخل قبل وقف التدخل العسكري وترتيب الوضع الإنساني، وأول ما يمكن القيام به هو تأمين المواقع من أخطار الألغام ثم تفقّد حجم الأضرار والبدء في عمليات الجرد والتوثيق لإعادة بناء المواقع وترميمها».

وقد لاحظ رينيه إيلتر عالم الآثار في جمعية الطوارئ الدولية ومدير برنامج الحفاظ على دير سانت هيلاريون أن سكان غزة واعون بقيمة تراثهم وضرورة حمايته وهو مصدر فخر كبير، حيث أقيم مخيم للاجئين في محيط موقع دير سانت هيلاريون لكن السّكان لم يسعوا أبدا إلى دخوله، متهماً في نفس الوقت الجيش الإسرائيلي بسرقة المجموعات التي كان يحتويها متحف الباشا، حيث أردف: «أفضل القطع كانت في هذا المتحف، بعد القصف ذهب بعض زملائنا الفلسطينيين لتفقد الوضع فاكتشفوا أن الجنود الإسرائيليون قد فتحوا الصناديق وأخذوا منها بعض المقتنيات».

وكان مدير الآثار الإسرائيلي ايلي اسكوسيدو قد نشر تسجيلاً يظهر جنودا إسرائيليين محاطين بأوان فخارية قديمة من مستودع المدرسة الفرنسية للكتاب المقدّس والآثار بعد اقتحامه، مما أثار ردود أفعال منددة بسرقة التراث الفلسطيني.

إن قصة اكتشاف التراث التاريخي لغزة تعود إلى السنوات التسعين من القرن الماضي، فبعد إمضاء معاهدة أوسلو قامت السلطات الفلسطينية بإنشاء دائرة الآثار التي كانت تعمل بالتعاون مع المدرسة الفرنسية للكتاب المقدّس والآثار في التنقيب عن الآثار، وأسفرت الأبحاث عن العثور على الكثير من القطع الأثرية الثمينة، هذه الجهود لقيت أيضاً مساندة من قبل رجل الأعمال والمجمع الفلسطيني جودت الخضري الذي قام بشراء آلاف القطع الأثرية لحمايتها من التهريب والتجارة، بعضها كان معروضاً في «فندق المتحف» الذي أسّسه في 2008 وكان يضم قطعا نادرة من العصور الكنعاني والروماني والإسلامي قبل أن يدمره الاحتلال الإسرائيلي بالكامل في الـ3 من نوفمبر 2023.