رغم تعهّد النقيب إبراهيم تراوري، رئيس بوركينا فاسو، بألا يبقى في السلطة، فإنه مدّد فترة الحكم الانتقالي خمس سنوات إضافية، راهناً إجراء الانتخابات التي كان من المقرّر عقدها في يوليو (تموز) الماضي، بـ«سماح الظروف الأمنية». تراوري كان قد تولّى السلطة عبر انقلاب عسكري في سبتمبر (أيلول) 2022، متعهداً بـ«إنقاذ البلاد»، غير أنه لا يزال يخوض وجيشه «حرباً شرسة» ضد الجماعات «الإرهابية» المتطرّفة، التي تشن هجمات شِبه يومية على مناطق عدة من البلاد. وهذا، وسط مخاوف من أن «يرسّخ تراوري حكماً عسكرياً في بوركينا فاسو - التي كانت تُعرَف سابقاً باسم جمهورية أعالي الفولتا - يعزّز حالة اللااستقرار السياسي والأمني»، التي تشهدها بلاده الحبيسة والواقعة في الغرب الأفريقي، منذ استقلالها عن فرنسا عام 1960.
وُلد إبراهيم تراوري يوم 14 مارس (آذار) عام 1988، لعائلة مسلمة من شعب الديولا «الجولا»، تقطن بلدة بوندوكوي، الواقعة في محافظة موهوم، شمال غربي العاصمة واغادوغو. ولقد نشأ في بيئة ريفية متواضعة، حيث أنهى تعليمه الابتدائي ثم الإعدادي في بلدته الريفية الصغيرة بمدرسة بوندوكوي الابتدائية العامة، قبل أن ينتقل إلى بوبو ديولاسو، ثاني كبرى مدن بوركينا فاسو؛ لإكمال تعليمه الثانوي في مدرسة ليسيه ميكست داكارت.
في عام 2006 التحق تراوري بجامعة جوزيف كي زيربو «جامعة واغادوغو سابقاً»، حيث حصل على درجة البكالوريوس في الجيولوجيا عام 2010.
بيد أن طموح ذلك الشاب كان أبعد من الجيولوجيا، إذ التحق، في العام نفسه، بأكاديمية جورج نامونو العسكرية، حيث تخرَّج بعد سنتين برتبة ملازم ثان.
في الواقع، لا تذكر سيرة تراوري الذاتية، المنشورة على موقع الرئاسة البوركينية، كثيراً عن تلك الفترة، إلا أن تقارير محلية وغربية عدة نقلت عن مقرَّبين منه، خلال مرحلة الدراسة العسكرية، وصفهم إياه بأنه كان تلميذاً «خجولاً ومتحفظاً وذكياً في آن».
التدرّج العسكري
انضمّ تراوري إلى الجيش، وبدأ رحلة صعود وتدرُّج سريعة داخل صفوفه، إذ خدم، فور تخرجه في المنطقة العسكرية الأولى بمحافظة كايا، لمدة سنتين حتى عام 2014، ثم رقّي إلى رتبة ملازم أول.
سنوات خدمة تراوري العسكرية الأولى تركّزت في المناطق المتضررة من «الإرهاب». وفي عام 2019 شارك في عملية أطلق عليها مسمى «سحب النار» ضد الجماعات المسلَّحة في المناطق الشرقية والشمالية الشرقية من البلاد. وعلى الأثر، رقّي إلى رتبة نقيب عام 2020، لكن نشاطه العسكري لم يقتصر على العمليات الداخلية، بل شارك في عمليات دولية، ضمن إطار قوات الأمم المتحدة لحفظ السلام، كما التحق بدورات تدريبية عسكرية عدة، مِن بينها تدريب متخصص في الدفاع الجوي بالمغرب. ومع أن الرجل لا يحمل أوسمة عسكرية، فإنه وفْق الإعلام المحلي، معروف في أوساطه بأنه «قوي وشجاع».
داميبا... من الشراكة إلى الانقلاب
في يناير (كانون الثاني) 2022، شارك إبراهيم تراوري في انقلاب عسكري قاده العقيد بول هنري سانداوغو داميبا، وأطاح بنظام الرئيس المدني المنتخَب روك كابوري.
وفي مارس من العام نفسه، عيّن تراوري قائداً لفيلق «فوج المدفعية»، المتركز في كايا بالمنطقة الشمالية الوسطى، وهو موصوف بأنه «فيلق قوي جداً ومحترف»، لكن الأمور لم تستقرَّ طويلاً، إذ بعد نحو تسعة أشهر، قاد تراوري انقلاباً عسكرياً ضد داميبا في سبتمبر (أيلول).
وعقب نجاح الانقلاب، ألقى خطاباً قال فيه إن «هدفه إنقاذ البلاد من الأوضاع الأمنية المتدهورة»، بعد «فشل» القيادة السابقة في حماية البلاد من الإرهاب. وفي 21 أكتوبر (تشرين الأول) 2022، أدى تراوري اليمين الدستورية رئيساً للبلاد، ليصبح، وفق مراقبين، «أصغر» رئيس دولة في العالم. ويومذاك، قال تراوري، مخاطباً مسؤولي حكومة بوركينا فاسو: «أعلم أنني أصغر سناً من معظمكم هنا. نحن ما كنا نريد ما حدث، لكن لم يكن أمامنا خيار».
حازم وجادّ
كثيرون شبّهوا تراوري بزعيم بوركينا فاسو الثوري الراحل توماس سانكارا، ونقلت الـ«بي بي سي» عن وسائل إعلام بوركينية محلية قولها إن «تراوري تولّى زعامة البلاد بعد انقلاب عسكري، وهو نقيب بالجيش يبلغ من العمر 34 سنة، تماماً مثل سانكارا».
وبالفعل، يستخدم الإعلاميون المحليون أوصافاً عدة لتراوري؛ بينها «الحَزم»، و«الجِدية»، والقدرة على تحفيز الجنود، وأحياناً الجرأة والعنف. ويروون عنه - موقع «أفريكا ريبورت» - أنه عندما كان قائداً لوحدة عسكرية، قال لجنوده: «الجهاديون لا يرتدون سترات واقية من الرصاص، لذا نحن لا نحتاج إليها أيضاً».
والواقع أنه منذ تولَّى تراوري السلطة، ركّز على تعزيز قدرات الجيش عبر تدريبه وتجهيزه بأحدث المُعدّات، والتعاون إقليمياً ودولياً بهدف مكافحة «الإرهاب»، ثم إنه وضع «خطة وطنية للتحول الاقتصادي» تُشدد على تنويع مصادر الدخل، ودعم قطاعات مثل الزراعة والطاقة. واجتماعياً، أطلق تراوري برامج لدعم تمكين المرأة، وزيادة مشاركتها في الحياة السياسية والاقتصادية.
الحرب على الإرهاب
تأتي رئاسة تراوري في فترة تُواجه خلالها بوركينا فاسو تحديات أمنية وإقليمية، بعدما فقدت السيطرة على نحو 40 في المائة من مساحتها، للجماعات المسلّحة. لذا لا تخلو خطابات تراوري من تأكيد «أهمية تعزيز القدرات العسكرية لمواجهة التهديدات الأمنية». ومن جهة ثانية، تُعدّ بوركينا فاسو «نموذجاً مصغّراً» للأزمات العميقة الجذور المتعلقة بالحكم وتوطيد أركان الدولة، التي تتكرر في جميع أنحاء غرب أفريقيا ومنطقة الساحل. وهذه أزمات استبعد «مجلس العلاقات الخارجية الأميركي»، في تقرير له نُشر عام 2022، امتلاك تراوري الأدوات الكافية لحلها.
إعادة هيكلة الجيش... والتعبئة العامة
للتذكير، فور وصول تراوري إلى الحكم أعلن أن هدفه الوحيد هو الانتصار على «الإرهاب». وفي هذا السياق أعاد هيكلة الجيش، وأعلن «تعبئة عامة» يوم 19 أبريل (نيسان) 2023، مدَّدها أخيراً لمدة سنة أخرى. و«التعبئة العامة» تشبه «حالة الطوارئ»، وتنص على «استدعاء الشباب من سن الـ18 سنة فما فوق، والذين يتمتعون باللياقة البدنية، إلى التجنيد، وفقاً للاحتياجات التي تُعبر عنها السلطات المختصة».
لكن، بينما يقود تراوري حرباً على الإرهاب، ثمة ملامح أزمة تتفاقم بصمت، ذلك أن فترة حكم تراوري القصيرة نسبياً لتاريخه تُواجه انتقادات بسبب «تعزيز قبضة الجيش على السلطة»، وتأجيل الانتخابات التي تستهدف إعادة الحكم المدني. ففي مايو (أيار) الماضي، مُدّدت فترة الحكم الانتقالي خمس سنوات إضافية، وزعم تراوري أن «التمديد ضروري لإعادة بناء الدولة على أسس قوية، وضمان الاستقرار قبل العودة إلى الحكم المدني». وأضاف أن «الانتخابات ستُجرى عندما تسمح الظروف الأمنية بذلك».
الواقع أن ملامح الأزمة ظهرت عبر بيانات متكررة أعلنت فيها الحكومة عن محاولات انقلاب تدّعي أنها «مموَّلة ومدعومة من الخارج». و«كشفت» أولى تلك المحاولات بعد سنة من تولّي تراوري الحكم يوم 27 سبتمبر 2023. ومع أن المحاولات «كلها باءت بالفشل»، فإنها أثارت مخاوف بشأن استقرار الحكم.
بل أثّرت هذه المحاولات على تراوري إلى درجةٍ دفعت البعض للقول إنه «بات مهووساً بالمؤامرات المحتملة ضده، ومقتنعاً بضرورة مراقبة الجميع». وبالفعل، اتخذ الرجل إجراءات أمنية «صارمة» لحماية حكمه وأركانه، وكفَّ عن الخروج ليلاً، وقلَّص دائرة خُلصائه لتنحصر في إخوته وبعض المقرَّبين.
«حليف روسيا»
تقارير غربية عدة تُصنّف تراوري، اليوم، «حليفاً لروسيا»، وبخاصة أنه طالب القوات الفرنسية، في مارس 2023، بالانسحاب من البلاد، ما دفع البعض للقول إنه يسعى لقطع علاقاته مع باريس، مقابل تعزيزها مع موسكو، في سياق الصراع بين الدولتين على النفوذ بأفريقيا.
لكن تراوري أكد، في تصريحات صحافية، أنه «لا قطع للعلاقات الدبلوماسية، ولا حقد تجاه دولة معينة». ونفى وجود ميليشيا «فاغنر» الروسية في بلاده، قائلاً: «نسمع مراراً أن (فاغنر) باتت في واغادوغو... هذه الشائعة خُلقت لكي ينأى الجميع بأنفسهم عنا». وجاء النفي رغم تأكيده «تعزيز العلاقات مع روسيا»، وقوله، عام 2022، إن «بلاده ترتبط بعقد عسكري مع روسيا، وتستخدم عتادها بكثرة».
أيضاً «فاغنر» نفسها أكدت وجودها، في تصريحات تزامنت مع إعلانها، يوم 30 أغسطس (آب) الماضي، رحيل جزء من قواتها في بوركينا فاسو، ونقلت «وكالة الصحافة الفرنسية» عن قائد «لواء الدببة» الروسي، فيكتور يرمولاييف، في مقابلة عبر تطبيق «تلغرام»، أن «نحو مائة من أصل نحو 300 مرتزق روسي غادروا بوركينا فاسو». في المقابل، ووفق «أ.ف.ب»، أكد يرمولاييف «بقاء بعض القوات»، قبل أن يوضح: «لدينا قواعد وممتلكات ومُعدات وذخيرة. لن نعيد كل شيء إلى روسيا».
وما يستحقّ هنا أنه كان لإحباط محاولة الانقلاب على تراوري، في سبتمبر 2023، «دور في تسارع التقارب بين واغادوغو وموسكو»، إذ «أرسلت روسيا بعدها، عشرات من الأفراد العسكريين والمرتزقة إلى بوركينا فاسو، بعضهم توجَّه مباشرة إلى مقر الرئاسة»، وفق موقع «أفريكا ريبورت» الذي أشار إلى «نشر نحو 200 شخص، ضمن إطار الشراكة الروسية الجديدة مع أفريقيا». ونقل الموقع عن مصدر عسكري بوركيني قوله إن «القوات الروسية شكّلت نوعاً من الفقاعة الأمنية ذات الدوائر المتداخلة حول تراوري لحمايته».ختاماً، يرى مراقبون تراوري نموذجاً متناقضاً ومعقّداً، بين قائد عسكري شاب بادر لتولّي زمام أمور بلاده بهدف «إنقاذها» و«إصلاحها»، ورئيس يسعى لترسيخ نظام حكم عسكري فردي، مؤجِّلاً أي خيارات لحكم مدني ديمقراطي. وتثير مسيرته العسكرية القصيرة جدلاً وتساؤلات بشأن قدرته على تحقيق الاستقرار في بوركينا فاسو، وما إذا كان سيقود البلاد نحو المدنية أم نحو حكم عسكري طويل الأمد.