إذا كانت هناك حاجة إضافية لتبيان المرحلة الحرجة التي دخلتها فرنسا بعد الإعلان عن نتائج الدورة الثانية للانتخابات البرلمانية، يتعين النظر إلى طلب الرئيس إيمانويل ماكرون من غابرييل أتال، رئيس حكومته، البقاء في منصبه «في الوقت الحاضر من أجل المحافظة على استقرار البلاد».
أتال تصرف وفق العرف المعمول به في فرنسا الذي يقول باستقالة الحكومة بعد حصول الانتخابات التشريعية أياً تكن نتائجها. وسارع الأخير إلى قصر الإليزيه قبيل ظهر أمس الإثنين لتقديم كتاب استقالته الذي كان من المفروض أن يقبله رئيس الجمهورية، وأن يكلفه بتصريف الأعمال حتى ولادة حكومة جديدة. والحال أن هذه الولادة ستكون، بسبب النتائج التي أفضت النتائج النهائية، عسيرة، بالتالي يرجح أنها لن ترى النور قبل أيام أو حتى أسابيع. والحال أن فرنسا مقبلة على استحقاق عالمي عنوانه استضافة الألعاب الأولمبية، ولأسبوعين، بدءاً من 26 من الشهر الحالي، وبعدها استضافة الألعاب الأولمبية الخاصة بالمعاقين (البارا - أولمبية) في شهر سبتمبر (أيلول) المقبل، وبالتالي ونظراً للتحديات الأمنية ووجود عشرات القادة الدوليين وتوافد مئات الآلاف من الزوار، فإن على الحكومة الحالية أن تبقى في مكانها لإدارة هذا الحدث الحيوي.
نفق مظلم
حقيقة الأمر أن نتائج جولة الإعادة حملت مجموعة من المفاجآت، أهمها، قطعاً، فشل اليمين المتطرف، رغم الدينامية الاستثنائية التي استفاد منها في الجولة الأولى، والتي مكنته من الحصول على 33.4 بالمائة من الأصوات، وعلى 10.3 مليون صوت. والحال أن نتائج جولة الإعادة وضعته في المرتبة الثالثة بعد «الجبهة الشعبية الجديدة» (تحالف اليسار والخضر) الذي فاز بـ182 مقعداً، وحل وراءه «ائتلاف الوسط» (معسكر الرئيس ماكرون) الذي نجح في احتلال 168 مقعداً، أما «التجمع الوطني» فحصل على 143 مقعداً في البرلمان الجديد بينما كان يطمح للفوز بالأكثرية المطلقة (289 مقعداً)، وأن يفرض بذلك نفسه لاعباً أساسياً مؤهلاً لحكم فرنسا. وسبق لرئيسه جوردان بارديلا أن دأب في الأسابيع الثلاثة التي جرت خلالها الحملة الانتخابية على تقديم نفسه رئيساً للحكومة الجديدة.
العبرة الأولى التي يمكن استخلاصها من هذه النتائج مزدوجة: الأولى، أن فرنسا، رغم هبّة اليمين المتطرف وفوزه في الانتخابات الأوروبية وفي الجولة الأولى من البرلمانية، ليست جاهزة حتى اليوم لتسليم عنانها لليمين المتطرف على غرار ما فعل الإيطاليون والهولنديون والمجريون. والعبرة الثانية عنوانها نجاح «الجبهة الجمهورية» المشكلة من تحالف اليسار ومن معسكر ماكرون في قطع طريق السلطة على «التجمع الوطني» من خلال انسحاب 220 من مرشحي المجموعتين في الدورة الثانية لتسهيل فوز معارضي مرشحي اليمين المتطرف، الأمر الذي حرمهم من عشرات المقاعد. فقبل الانسحاب، كانت استطلاعات الرأي تفيد بأن مارين لوبان، زعيمة اليمين المتطرف، ورئيس حزب «التجمع الوطني»، يتأهبان لتسلم السلطة. وكررت لوبان أن حزبها «جاهز» لتسلمها، لا بل إن بارديلا ربط هذه الخطوة بحصول حزبه على الأكثرية المطلقة لتنفيذ برنامجه في الحكم. وبعد النتائج سارع بارديلا إلى التنديد بما أقدم عليه منافسوه، معتبراً أن ما قاموا به «مغاير لسنة الطبيعة». وعلى أي حال، تتعين الإشارة إلى أن «التجمع الوطني» زاد عديد نوابه من 89 في برلمان عام 2022 إلى 143 نائباً في البرلمان الجديد ما يُبين أن زحفه متواصل وإن لم يكن كاملاً هذه المرة.
المفاجأة الكبرى
لم يكن أحدٌ يتوقع، بما في ذلك استطلاعات الرأي، أن يحل تحالف اليسار المشكل من الاشتراكيين والشيوعيين و«حزب فرنسا الأبية» والخُضر في المقدمة. وخلال أسبوعين كاملين كانت سهام ائتلاف الوسط واليمين بجناحيه التقليدي والمتطرف تستهدف التحالف الذي لم يكن أحد يتوقع ولادته بسبب الانقسامات العميقة آيديولوجياً وسياسياً وبرامجياً بين مكوناته. وعلى رأس المستهدفين حزب «فرنسا الأبية» ورئيسه جان لوك ميلونشون المتهم بمعاداة السامية والترويج للفوضى وضرب قيم الجمهورية... ورغم ذلك، نجح قادته في التوافق على برنامج مشترك وتشكيل كتلة موحدة وخوض الانتخابات بها، كما نجح ميلونشون في أن تكون له مجموعته النيابية الأكبر داخل تحالف اليسار ما يمكنه من أن يكون في موقع الطرف القوي.
قطعاً، استفاد تحالف اليسار من الانسحابات المتبادلة. بيد أن المستفيد الأكبر هو «ائتلاف الوسط» أو معسكر ماكرون الذي كان مقدراً له أن يخرج مثخناً بالجراح من المنافسة الانتخابية. وبالطبع، تقلص عديد نوابه من 245 نائباً إلى 156 نائباً، لكنه في المقابل حافظ على نواة صلبة ستمكنه من أن يبقى لاعباً رئيسياً في المعركة المقبلة الخاصة بتشكيل تحالف حكومي باعتبار أن أي مجموعة من المجموعات الثلاث لا تتمتع بالأكثرية المطلقة، وأن التفاهم مع اليمين المتطرف مستبعد تماماً، بحيث لا يبقى في الميدان سوى تحالف اليسار ومعسكر ماكرون. صحيح أن الأخير «هزم» مارين لوبان مرة ثالثة بحرمانها من حكم فرنسا (بعد أن هزمها في المنافسة الرئاسية عامي 2017 و2022)، إلا أنه أدخل البلاد في متاهة لا قعر واضحاً لها.
وذهبت صحيفة «لو فيغارو» اليمينية في عددها يوم الاثنين إلى اعتبار أن «حكم التاريخ سيكون قاسياً»، واصفة حل البرلمان بأنه «عمل جنوني»، مضيفة أن ماكرون «سعى لتوضيح الوضع السياسي» في البلاد، لكن ما حصده هو برلمان «يصعب التحكم به» بسبب تفتته إلى ثلاث مجموعات متناحرة. ماكرون خسر «الأكثرية النسبية» التي حكم بواسطتها طوال عامين. وبسبب «نرجسيته ومزاجه» حل البرلمان فأخطأ الحساب، بحيث إن مركز السلطة ومصدر القرارات سوف ينتقل من قصر الإليزيه إلى البرلمان. وفي أي حال، فإن نتائج التشريعيات الثلاث تبين تراجع شعبيته وقوته الحزبية وقدرته على التحكم بالبرلمان. ففي عام 2017، كانت له كتلة نيابية من 350 نائباً، وتراجعت في عام 2022 إلى 249 نائباً لتهبط الأحد الماضي إلى 156 نائباً. وإذا كان ماكرون سعى لتجنب وصول حكومة من اليمين المتطرف تتقاسم معه حكم البلاد في إطار «نظام التعايش»، فإن عليه، منذ اليوم، أن يتعايش في المرحلة المقبلة مع اليسار.
أي حكومة لفرنسا؟
كان ميلونشون أول من علق على نتائج جولة الإعادة. وبالنظر لتقدم جبهة اليسار، فقد سارع إلى المطالبة بتعيين رئيس للحكومة لتنفيذ برنامج الحكم الذي وضعته. وذهب ميلونشون إلى تحذير ماكرون من «التلاعب»، وتنادت الأحزاب الأربعة لعقد أول اجتماع تنسيقي جرى ليل الأحد - الاثنين، وستعقبه اجتماعات متلاحقة في الساعات والأيام المقبلة للاتفاق على اسم مرشحها لرئاسة الحكومة وعلى الاستراتيجية التي سيعملون على هديها. ومن الأسماء المطروحة رئيس الجمهورية السابق الاشتراكي فرنسوا أولاند الذي فاز بمقعد نيابي، وأوليفيه فور، الأمين العام للحزب الاشتراكي، والنائبة الاشتراكية السابقة فاليري رابو، ومارين توندوليه زعيمة حزب الخضر. وقالت الأخيرة، الاثنين، لإذاعة «آر تي أل» إنه «وفقاً لمنطق مؤسساتنا، يجب على إيمانويل ماكرون اليوم أن يدعو الجبهة الشعبية الجديدة رسمياً لترشيح رئيس للوزراء». وأضافت: «هل سيفعل ذلك أم لا؟ بما أن هذا الرئيس مليء بالمفاجآت دائماً، سنرى». أما ماتيلد بانو، رئيسة مجموعة «فرنسا الأبية» في البرلمان السابق، فرأت أن ميلونشون «مؤهل لتسلم رئاسة الحكومة»، بينما شركاؤه في تحالف اليسار لا يرغبون به باعتباره شخصية تثير تحفظات كثيرة.
تقول أوساط الإليزيه إن ماكرون غير مستعجل لتسمية رئيس جديد للحكومة، وأنه ينتظر التشكيلة النهائية للمجموعات البرلمانية. بيد أن الهدف الحقيقي الذي يسعى إليه هو محاولة إحداث انشقاق داخل جبهة اليسار بإبعاد الاشتراكيين والخضر عن «فرنسا الأبية»، ومحاولة اجتذابهم للدخول في حكومة ائتلافية تذهب من اليمين الكلاسيكي وحتى اليسار الاشتراكي، وتضم، بطبيعة الحال، وزراء من معسكره.
وقالت مارين توندوليه، زعيمة حزب الخضر لإذاعة «فرانس إنتر»، الاثنين: «لن يكون الأمر بسيطاً، ولن يكون سهلاً، ولن يكون مريحاً... وسيستغرق بعض الوقت». والسبب الرئيس في ذلك الاختلافات الجوهرية بين المطالب والبرامج، إن بالنسبة لمستقبل قانون تعديل سن التقاعد، أو تجميد قانون الهجرات، ورفع الحد الأدنى للأجور، وإعادة فرض ضريبة الثروة، فضلاً عن علاقات فرنسا مع الخارج، بما في ذلك حرب أوكرانيا، وحرب غزة، حيث يدعو اليسار إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية من غير تأخير.
ليس هناك ما يؤشر إلى إمكانية التفاهم على حكومة تجمع الأضداد، خصوصاً أن فرنسا لم تعتد على قيام حكومات ائتلافية على غرار ما يحصل في بلجيكا وإسبانيا أو إيطاليا. لذا، فإن الخروج من المأزق المؤسساتي قد يكون بالذهاب إلى حكومة من التكنوقراط، أي غير سياسية، وبرئيس تقبله كل الأطراف، مع التعهد بعدم إسقاطها في البرلمان لمدة سنة يمكن بعدها لرئيس الجمهورية أن يحل البرلمان مجدداً، ويدعو لانتخابات تشريعية أخرى.
يبقى أن أمراً كهذا يتطلب من ماكرون أن يغير النهج «العمودي» الذي اتبعه في الحكم منذ سبع سنوات. الوضع السياسي تغير جذرياً، ولن يكون مستقبلاً «الحاكم بأمره»، بينما فرنسا دخلت مرحلة من المطبات الهوائية الخطرة.