سيكون التركيز منصبّاً خلال الأسبوع المقبل على أداء السندات الفرنسية والأسهم المصرفية قبل الجولة الأولى من انتخابات الجمعية الوطنية في فرنسا في 30 يونيو (حزيران).
لقد كان الحل غير المتوقع للبرلمان الفرنسي، وما ترتب عليه من دعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، لإجراء انتخابات مبكرة (في 30 يونيو و7 يوليو - تموز) بعد تصدر حزب «التجمع الوطني» اليميني المتطرف في الانتخابات الأوروبية، سبباً في هز الأسواق المالية خلال الأيام الماضية. إذ أثرت حالة عدم اليقين السياسي، التي يُتوقَّع استمرارها حتى الانتخابات، على أداء الأسهم والسندات الفرنسية وكانت لها ارتداداتها الأوروبية.
وعلى الرغم من أن نظام الانتخابات في فرنسا يقوم على جولتين -وهو ما يجعل من الصعب التنبؤ بالنتيجة- فإن الخبراء يحاولون استشراف التأثير الذي قد تُحدثه كل نتيجة محتملة على الأسواق.
وتتنافس 3 أحزاب رئيسية في هذه الانتخابات، وهي «التجمع الوطني» اليميني المتطرف بزعامة جوردان بارديلا ومارين لوبان، وتحالف «الجبهة الشعبية الجديدة» اليساري الأخضر، وحزب «النهضة» بزعامة ماكرون (وتغير اسمه رسمياً من «الجمهورية إلى الأمام»).
وأظهر استطلاع أن حزب «التجمع الوطني» قد يتصدر الجولة الأولى بنحو 35 في المائة من الأصوات، فيما حلَّت «الجبهة الشعبية» في المركز الثاني، واكتفى حزب ماكرون» بالمركز الثالث.
لماذا تفاعلت الأسواق؟
لقد أثار الإعلان المفاجئ للرئيس الفرنسي إجراء انتخابات مبكرة، تقلبات كبيرة في سوق الأسهم الفرنسية دفعت الشركات إلى خسارة ما يقرب من 258 مليار دولار من قيمتها السوقية خلال الأسبوع الماضي فقط.
وانخفضت أسهم البنوك الكبرى التي تحتفظ بديون حكومية كبيرة، بنسبة تزيد على 10 في المائة، ومحا مؤشر «كاك 40» الفرنسي جميع المكاسب التي حققها خلال عام 2024، وعكس مساره بشكل حاد بعد أن كان قد وصل إلى مستويات قياسية قبل شهر واحد فقط.
والعنصر الأبرز أيضاً هو ارتفاع الفارق في العائد بين السندات الحكومية الفرنسية والألمانية إلى أعلى مستوى منذ الخطاب الذي ألقاه رئيس البنك المركزي الأوروبي ماريو دراغي، في يوليو 2012 في ذروة أزمة الديون في منطقة اليورو.
وكان احتمال زيادة الإنفاق -أياً تكن نتيجة الانتخابات- سبباً في إثارة فزع الأسواق المالية التي تشعر بالفعل بالقلق إزاء حجم العجز السنوي في موازنة فرنسا وارتفاع دينها الوطني.
ففي العام الماضي، سجَّلت فرنسا عجزاً بنسبة 5.5 في المائة. وعلى الرغم من بعض تخفيضات الإنفاق المخطط لها من حكومة ماكرون، فإن هذا العجز لن يتراجع إلا بشكل متواضع على مدى السنوات القليلة المقبلة.
وتشير تقديرات صندوق النقد الدولي إلى أن العجز سيظل بحلول عام 2027 عند مستوى 4.5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي -وهو معدل مرتفع للغاية في نظر بروكسل.
وقد دفعت مستويات العجز المرتفعة هذه المفوضية الأوروبية إلى تصنيف فرنسا من ضمن الدول الخاضعة لإجراء تأديبي لفشلها في الالتزام بقواعد الموازنة الصارمة للاتحاد الأوروبي التي تنص على أن تتحمل الدول الأعضاء عجزاً في الموازنة لا يزيد على 3 في المائة من دخلها السنوي.
ويفرض ميثاق الاستقرار في الاتحاد الأوروبي مبدئياً عقوبات مالية تصل إلى 0.1 في المائة من إجمالي الناتج المحلي سنوياً للدول التي لا تتخذ الإجراءات التصحيحية اللازمة، أي نحو 2.5 مليار يورو في حالة فرنسا.
ويقول صندوق النقد الدولي إن فرنسا بحاجة إلى جرعة جديدة من التقشف لـ«إبعاد بروكسل عن ظهرها».
كانت المالية العامة الفرنسية تخضع أصلاً للتدقيق. ففي 31 مايو (أيار)، خفَّضت وكالة «ستاندرد آند بورز» التصنيف السيادي لفرنسا إلى «إيه إيه–» بسبب المراجعة التصاعدية للعجز. في حين أكدت وكالة «موديز» أن التكلفة المرتفعة لخدمة الدين العام تهدد استدامة المالية العامة الفرنسية.
وحسب مصرف «إي إف جي» السويسري، يعكس رد فعل السوق ثلاثة مخاوف: الافتقار إلى الانضباط المالي المتوقع من الأحزاب المفضلة في الانتخابات الفرنسية؛ والزيادة المتوقعة في الضرائب على الشركات، خصوصاً على القطاع المالي، وإضعاف الاتحاد الأوروبي.
وتنطوي جميع السيناريوهات الأكثر ترجيحاً بشأن نتائج الانتخابات على مخاطر عالية بحدوث انزلاق مالي.
البرامج الاقتصادية للأحزاب
لا شك أن تكلفة المعيشة التي تؤرق الفرنسيين سوف تكون الشغل الشاغل للناخبين الذي سيتوجهون إلى صناديق الاقتراع لاختيار أحد من المتنافسين الثلاثة.
النبأ السار بالنسبة إلى الناخبين هو أن الثلاثة يقترحون توفير إعانات من تكاليف المعيشة. ففي مسألة تكاليف الكهرباء مثلاً، يقترح الثلاثة خفض الأسعار وإنْ بنسب متفاوتة بين كل حزب. فيما تقول «الجبهة الشعبية الجديدة» إنها ستخفض الأسعار عن طريق إزالة ما تسميها «ضريبة ماكرون»، وهي في الواقع الضريبة الداخلية على الاستهلاك النهائي على الكهرباء التي عُلقت عام 2022 ثم أُعيد العمل بها في يناير (كانون الثاني) 2024.
ولكن قد لا يكون هذا الأمر ممكن التنفيذ لا سيما أنه مرتبط بارتفاع في العجز. ففرنسا ملتزمة توفير 20 مليار يورو في عام 2024 و30 مليار يورو في عام 2025 من أجل إبقاء تكلفة الاقتراض تحت السيطرة. وبالتالي فإن قدرتها على المناورة ضئيلة نسبياً.
وفي جانب آخر، يثير احتمال وصول «التجمع الوطني» أو الائتلاف اليساري لـ«الجبهة الشعبية» الجديدة إلى السلطة، قلق أوساط الأعمال من تدهور الوضع الاقتصادي في البلاد، لا سيما بعد الكشف عن برامجهما الاقتصادية.
فـ«التجمع الوطني» تعهد بالإلغاء «الكامل» لضريبة على الإنتاج تؤثر في الشركات، وخفض مساهمة فرنسا في موازنة الاتحاد الأوروبي بملياري يورو، فيما يعتقد معارضوه أن هذا الإجراء سيؤدي في نهاية المطاف إلى «خروج فرنسا من الاتحاد الأوروبي».
من جانبها، وعدت «الجبهة الشعبية الجديدة» بإدخال تغييرات جوهرية، كتجميد أسعار المواد الغذائية والطاقة والوقود، وسحب إصلاح المعاشات التقاعدية، وزيادة الحد الأدنى للأجور أو حتى بدلات السكن، طارحةً «قطيعة تامة مع سياسة ماكرون». وهو ما عدَّه الأخير يحمل «مخاطر كبرى» لفرنسا، على غرار برنامج «التجمع الوطني». وقال ماكرون: «هناك اليوم كتلتان متطرفتان اختارتا برنامجين اقتصاديين لا يدخلان في إطار أخلاقيات المسؤولية ويَعدان الناس بهدايا لا تجد تمويلاً».
وتقترح «الجبهة الشعبية الجديدة» بعض تدابير التمويل، مثل إعادة فرض ضريبة الثروة وزيادتها، وإعادة فرض ضريبة على الأغنياء الذين ينقلون موطنهم الضريبي إلى الخارج، وزيادة ضريبة الدخل والمساهمات الاجتماعية لأصحاب الدخل الأعلى.
كان ماكرون قد أبقى تركيزه على الادِّخار طويل الأمد من خلال إجراء إصلاحات مواتية للنمو في مجالات المعاشات التقاعدية وقوانين العمل ونظام الرعاية الاجتماعية رغم إنفاق حكومته مبالغ هائلة لحماية الأسر والشركات من تداعيات الجائحة وآثار انتقال الطاقة. وانخفضت البطالة في فرنسا بشكل ملحوظ في أثناء تولى ماكرون منصبه، وأثبت النمو الاقتصادي مرونة أكبر في مواجهة الأزمات مقارنةً بدول أوروبية أخرى.
لكنَّ نهج ماكرون واجه مقاومة متزايدة، سواء في البرلمان أو عبر الاحتجاجات في الشارع. وبعد خسارته أغلبيته المطلقة في الجمعية الوطنية 2022، كان الرئيس الفرنسي يعاني بالفعل لتمرير التشريعات عبر البرلمان دون اللجوء إلى أداة دستورية لتجاوز التصويت.
ويرى مصرف «إي إف جي» أن الحكومة الفرنسية المقبلة بقيادة «التجمع الوطني» أو «الجبهة الشعبية الجديدة» تخاطر بإضعاف العديد من المؤسسات الأوروبية.
فيما أشارت «موديز» إلى أن «الاستقطاب السياسي المتزايد والنفوذ المتزايد للأحزاب المناهضة للاتحاد الأوروبي... يهددان بعرقلة فعالية مؤسسات الاتحاد الأوروبي».
والمجالات الأكثر عرضة للخطر هي موازنة الاتحاد الأوروبي والتمويل المشترك حول قضايا مثل الدفاع وتحول الطاقة، وكذلك السياسة الخارجية.
في الختام، فإن الانتخابات المقبلة في فرنسا تخاطر بعواقب على الأصول المالية الأوروبية. ويبدو من غير المرجح أن تتحسن معنويات السوق كثيراً حتى يصبح موقف الحكومة الجديدة أكثر وضوحاً بشأن القضايا الأكثر حساسية للأسواق.