بعد سنوات من التوتر والصراع مع حركة «طالبان»، بدأت روسيا في تغيير موقفها تجاه الحركة، وذلك من خلال رفعها القيود القانونية وتسوية العلاقات، وهي تحركات تثير تساؤلات كثيرة حول الأسباب والدوافع وراء هذا التقارب الجديد.
ويقول الصحافي كيريل كريفوشيف في تقرير نشرته «مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي»، إنه قبل «منتدى سانت بطرسبرغ الاقتصادي الدولي» لهذا العام، والذي حضرته وفود من حركة «طالبان» منذ عام 2022، قدم الكرملين انتصاراً دعائياً لحكام أفغانستان، فقد قدمت وزارتا الخارجية والعدل في روسيا اقتراحاً رسمياً للرئيس فلاديمير بوتين لإزالة «طالبان» من قائمة المنظمات الإرهابية المصنفة في روسيا. وكانت «طالبان» على هذه القائمة منذ عام 2003، بجانب جماعات مثل «القاعدة»، لدعمها الانفصاليين في شمال القوقاز في ذلك الوقت. وكانت روسيا عززت في السنوات الأخيرة روابطها مع «طالبان». واستقبلت عشرات الوفود التي تمثل الحركة في مناسبات عدة.
على خطى موسكو
واتخذت كازاخستان قراراً مشابهاً في ديسمبر (كانون الأول) 2023، على الرغم من أنها بدأت في إزاحة الستار عنه علناً في يونيو (حزيران). وفي دولة أخرى رئيسية في آسيا الوسطى، وهي أوزبكستان، لم تصنف «طالبان» أبداً كمنظمة متطرفة. وفي الواقع، اضطلع الدبلوماسيون الأوزبكيون بدور قيادي في الدفع نحو الاعتراف بـ«طالبان» كقوة إقليمية.
وشدد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في 28 مايو (أيار) 2024، على أن «طالبان» أضحت تسيطر على أفغانستان، وتمثل السلطة الفعلية حالياً بالبلاد؛ ولذلك من الضروري بناء علاقات معها، ومن ثم، يُظهر هذا التصريح أن موسكو لم تَعُد تتعامل مع «طالبان» باعتبارها جماعة متشددة تُمثل تياراً استحوذ على الحكم لفترة، بل بصفتها سلطة فعلية ستتحوَّل بمرور الوقت من حكومة أمر واقع إلى حكومة معترف بها. ومن جانب آخر، تعتمد وجاهة هذا الطرح على تراجع القدرات الأمنية والتشغيلية للجيش الأفغاني، وكذلك باقي القوى الداخلية مقابل القدرات العسكرية لحركة «طالبان»؛ إذ تمثل قدرة أدوات السلطة على السيطرة على الأوضاع مدخلاً لقبول الحكومات التعاطي معها بناءً على قدراتها في الحفاظ على التزاماتها الخارجية وحماية مصالح شركائها.
وعندما دخلت «طالبان» كابل في أغسطس (آب) 2021 وسط خروج فوضوي للقوات المسلحة الغربية، تساءل الكثيرون عما إذا كانت الحركة ستكون قادرة على إدارة البلاد. وعلى الرغم من تحقيق نوع من الاستقرار، فإن ذلك يعود بشكل أقل إلى مهارات إدارة «طالبان» وأكثر إلى حقيقة أن مليارات الدولارات من المساعدات الإنسانية ما زالت تتدفق إلى أفغانستان. وبالإضافة إلى ذلك،
إجراءات أمنية صارمة
وعزلة «طالبان» واستعداد جيران أفغانستان للحفاظ على السيطرة على حدودهم المشتركة دون استقبال اللاجئين قد ساعد في ضمان بقاء مأساة البلاد قضية داخلية. ولم تتحقق أيٌّ من التطورات التي كانت تخشى في المنطقة، مثل أن تنشئ جماعات إرهابية جديدة نفسها في أفغانستان، أو أن تلهم شعبية «طالبان» المتزايدة إسلاميين آخرين، أو أن تزدهر تجارة المخدرات. وهناك عدد قليل من المؤيدين الأجانب لـ«طالبان»، وحتى بالنسبة لأخطر المتطرفين، فإن أفغانستان ليست مكاناً مغرياً للإقامة. وفي حين أن إنتاج الأفيون ازدهر عندما كانت «طالبان» تبسط سيطرتها على البلاد، فقد انهار ذلك عندما تم تبني إجراءات صارمة.
«داعش - ولاية خراسان» تزداد قوة
ويقول الصحافي كريفوشيف في تقرير نشرته «مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي»، إنه صحيح أن خلايا تنظيم «داعش - ولاية خراسان» التي تتخذ من أفغانستان مقراً لها قد ازدادت قوة، على الرغم من وجود خلاف حول ما إذا كانت «طالبان» مسؤولة عن ذلك. وأظهر الهجوم المميت على قاعة كروكوس سيتي هول في موسكو في مارس (آذار) مدى الانتشار الدولي لتنظيم «داعش - ولاية خراسان».
وبينما يلقي الكرملين رسمياً اللوم على كييف في ذلك الهجوم، فإن تواصل موسكو المتكرر مع «طالبان» وإزالة «طالبان» من قائمة المنظمات الإرهابية يشير إلى أنها تسعى لتعاون أوثق مع كابول في معركتها ضد تنظيم «داعش». ولكن سيكون من الصعب تحقيق ذلك، لا سيما أن «طالبان» تنكر وجود أي مسلحين على أراضيها. كما أن منع تحول البلاد منصة تهديد لمصالح موسكو، بات يُمثل متغيراً جدياً في السياسات الروسية؛ نظراً إلى تصاعد المخاوف إزاء احتمالات توظيف «داعش» في حروب بالوكالة لحساب جهات مُعادية؛ وهو ما ظهر في اتهامات بعض المسؤولين الروس لأوكرانيا بالتورط في الهجوم الإرهابي.
تطوير علاقات اقتصادية مع «طالبان»
وبعيداً عن القضايا الأمنية، تأمل موسكو أيضاً في تطوير علاقات اقتصادية مع «طالبان». وبدأ المسؤولون الروس مرة أخرى في الحديث عن استخدام أفغانستان محور عبور لتصدير الغاز الطبيعي الروسي إلى الهند، ونقل بضائع أخرى إلى موانئ في باكستان. ومع ذلك، يتطلب هذا بناء خط أنابيب غاز عبر الجبال، وتمديد خط السكة الحديد الذي ينتهي حالياً عند مزار الشريف على الحدود الأوزبكية.
ويرى كريفوشيف أنه رغم أن ممر الشمال - الجنوب من روسيا إلى المحيط الهندي عبر أذربيجان وإيران أمامه فرصة للتحقق، فإن خط السكك الحديدية من أفغانستان إلى باكستان هو حلم بعيد المنال يتم السعي لتحقيقه من قِبل الجميع (أوزبكستان روسيا وكازاخستان وأفغانستان)، ولكنه في الواقع لا يتم تحقيقه من قِبل أحد.
وهناك الكثير من الأمور التي لا تزال مجهولة عندما يتعلق الأمر بالعلاقات الاقتصادية لأفغانستان مع جيرانها. ووفقاً للبنك الدولي، بلغت واردات أفغانستان 7.8 مليار دولار في عام 2023، بينما بلغت صادراتها 1.9 مليار دولار، وهي كميات ضئيلة بالنسبة لدولة يزيد عدد سكانها على 40 مليون نسمة.
ويقدر المركز الروسي للأعمال في أفغانستان أن حجم التجارة بين روسيا وأفغانستان يبلغ نحو مليار دولار (أكثر من خمسة أضعاف ما كان عليه في عام 2021). وقد أعطى نائب رئيس الوزراء الروسي أليكسي أوفرشوك رقماً أكثر تواضعاً يبلغ 560 مليون دولار. ومن المستحيل تقييم مدى موثوقية هذه الأرقام، ليس فقط لأن بيانات الجمارك الروسية سرية، ولكن أيضاً لأن الكثير من التجارة مع أفغانستان يشمل عبور الحدود مرات عدة وتتم تسويته نقداً.
ومع ذلك، توفر بيانات أوزبكستان، النافذة الرئيسية للعالم على أفغانستان، بعض الوضوح. وبلغت تجارة أوزبكستان مع جارتها 784 مليون دولار فقط في عام 2023، ومن غير المرجح أن تكون التجارة مع روسيا أعلى من ذلك.
ولا يزال مدى العلاقات الاقتصادية بين كازاخستان وأفغانستان غير واضح أيضاً. وبينما تدعي أستانا أن تجارتها مع أفغانستان تبلغ قيمتها بالفعل مليار دولار، ذكرت «طالبان» أن البلاد تلقت فقط بضائع بقيمة 340 مليون دولار من كازاخستان في السنة الممتدة من مارس 2022. ومع ذلك، يبدو المستقبل أكثر إشراقاً لكازاخستان وأفغانستان مقارنة بروسيا وأفغانستان.
وفوق كل شيء، يحتاج الأفغان إلى الدقيق (الطحين) والحبوب ومنتجات النفط، ويمكن لكازاخستان توفير هذه المنتجات بسرعة وبتكلفة أقل من روسيا.
ويقول كريفوشيف إنه سيكون من الغريب أن تستثمر روسيا في أفغانستان أكثر مما تستثمر الصين؛ نظراً لأن الأخيرة لديها موارد أكثر، وتشارك أيضاً حدوداً برية مع أفغانستان. ومع ذلك، حتى بكين كانت مترددة في ضخ الأموال في أفغانستان في السنوات الأخيرة. والاستثمار الصيني الكبير الوحيد المعروف هو الـ49 مليون دولار التي أنفقتها شركة نفط وغاز آسيا الوسطى الصينية لتطوير حقول النفط بالقرب من هرات. ولا شك أن هذا مشروع كبير لأفغانستان، لكنه مبلغ صغير بالنسبة للصين.
وبحسب الصحافي كريفوشيف، لا يزال الاستثمار يمثل تحدياً في أفغانستان؛ لأنه على الرغم من وجود «طالبان» في السلطة لمدة ثلاث سنوات، فإنها لم تنشئ مؤسسات حكومية فعالة، ولا يزال من غير الواضح من يدير البلاد، ويشاع أن الزعيم الأعلى لـ«طالبان» هبة الله أخوند زاده قد مات. وعلى الرغم من الوعود بنهج أكثر ليبرالية، حافظت «طالبان» على قيود صارمة على النساء وعلى فرصة الفتيات بالنسبة للتعليم.
ومع ذلك، ليس أمام روسيا وكازاخستان والدول الأخرى في آسيا الوسطى خيار يذكر سوى رفع القيود المفروضة على «طالبان»، وهي ليست وحدها في ذلك. ووزير داخلية الحركة سراج الدين حقاني مطلوب من قِبل مكتب التحقيقات الاتحادي، الذي يعرض ما يصل إلى 10 ملايين دولار مقابل معلومات عن مكان وجوده. ومع ذلك، رفع مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في وقت سابق من هذا الشهر قيود السفر عنه وعن ثلاثة قادة آخرين من «طالبان» للسماح لهم بالسفر دون عوائق.
وبعد الاهتمام الدولي الكبير في عام 2021، اختفت أفغانستان من العناوين الرئيسية. وأصبح من غير المناسب الآن الاحتفاظ بتصنيف التطرف لحكام البلاد الفعليين. ومع ذلك، فإن إضفاء الشرعية على «طالبان» من قِبل جيران أفغانستان لا يضمن بالضرورة اندفاع المشروعات الاقتصادية المشتركة أو ازدهار العلاقات الثنائية.