عجلت المؤسسات اليهودية في فرنسا في فتح النار على الاتفاق السريع الذي توصلت إليه أحزاب اليسار من أجل تشكيل «جبهة شعبية» تخوض الانتخابات النيابية، المقررة يومي 30 يونيو (حزيران) الحالي و7 يوليو (تموز) المقبل، وأعلنت حرباً لا هوادة فيها ضد أحد المكونات الجديدة في هذه الجبهة؛ وهو حزب «فرنسا الأبية» الذي يتزعمه المرشح الرئاسي السابق جان لوك ميلونشون الذي ما فتئ يندد بـ«حرب الإبادة» التي تقوم بها إسرائيل ضد غزة. ودرجت هذه المؤسسات على استهداف ميلونشون، وأيضاً المحامية الفرنسية ــ الفلسطينية ريما حسن التي انتخبت نائبة في البرلمان الأوروبي الجديد على لائحة «فرنسا الأبية».
ولادة «مبدئية» لـ«الجبهة الشعبية»
قرار الرئيس إيمانويل ماكرون حل البرلمان أوجد حالة من «الهستيريا» السياسية، ودفع الأحزاب كافة إلى التعجيل في ترتيب أوراقها وتحالفاتها بسبب المهلة القصيرة للغاية التي تفصل فرنسا عن الاستحقاق الانتخابي الرئيسي، الذي سيرسم الصورة السياسية للبلاد للسنوات المقبلة.
والمسألة الرئيسية التي ستفرزها نتائج الانتخابات تتمثل في معرفة ما إذا كان اليمين المتطرف؛ ممثلاً في «التجمع الوطني»؛ الفائز الأكبر في الانتخابات الأوروبية، سيتمكن، بفضل الانتخابات البرلمانية، من الوصول إلى السلطة في أحد أهم البلدان داخل الاتحاد الأوروبي.
وكانت المفاجأة نجاح أحزاب اليسار الثلاثة («الاشتراكي» و«الشيوعي» و«فرنسا الأبية»)، ومعها حزب «الخضر»، في التوصل بسرعة إلى اتفاق «مبدئي» يقوم على خوض الانتخابات معاً تحت شعار «الجبهة الوطنية»، وعلى تقدم مرشحين باسمها في الدوائر الـ577 التي تتشكل منها الخريطة الانتخابية. وكان لافتاً أن الأحزاب الأربعة وضعت خلافاتها السياسية والشخصية جانباً؛ وهدفها قطع الطريق على وصول اليمين المتطرف إلى السلطة.
بيد أن نجاح اليسار الأولي فتح عليه أبواب جهنم، وأثار خصومه بسبب الخطر الذي يشكله. فرئيس الحكومة، غبريال أتال، سارع إلى وصفه بـ«المثير للاشمئزاز»، مركزاً هجومه على «فرنسا الأبية» الذي اتهمه أكثر من مرة بأنه «معادٍ للسامية»، وبأنه لم يُدِن مرة هجمات «طوفان الأقصى». وأبدى أتال عتبه على «الحزب الاشتراكي» الذي يراه من ضمن «القوس الجمهوري»، والذي كان ماكرون يطمع في استمالة بعض نوابه للسير في ركابه. وكان الأخير يراهن على الخلافات الداخلية المستحكمة بين مكونات «الجبهة الشعبية» ليبعد خطرها.
وما فعله أتال فعلته المنظمات اليهودية مضاعفاً؛ إذ سارع جوناتان عارفي، رئيس «المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية» في فرنسا، إلى وصف الاتفاق، من خلال تغريدة على منصة «إكس»، بـ«العار»، مضيفاً أن «معاداة السامية (أي التهمة الملتصقة بميلونشون) لا تبدو سبباً كافياً لرفض الدخول في تحالف من أجل حفنة من المقاعد» النيابية.
وكتب «اتحاد الطلبة اليهود في فرنسا» على المنصة نفسها أن «(الجبهة الشعبية) قامت في عام 1936 من أجل محاربة معاداة السامية، بينما (الجبهة الشعبية) في 2024 قامت على تحالف معيب مع (الجهات) المعادية للسامية».
أما «رابطة محاربة العنصرية ومحاربة السامية»، فقد اتهمت «الحزب الاشتراكي» بأنه، بتحالفه مع «فرنسا الأبية»، «تناسى تاريخه وثقافته السياسية ومعاركه للدفاع عن الإنسانوية». وفي السياق عينه، اتهم أرييل غولدمان، رئيسُ «الصندوق الاجتماعي اليهودي الموحد»، الاشتراكيين بالتحالف مع حزب مؤيد لـ«حماس».
خيبة ماكرون الثانية
لم ينجح رهان ماكرون الأول تمزق اليسار، وخسر (حتى اليوم) تعويله على انضمام نواب وشخصيات من اليمين التقليدي إلى «القوس الجمهوري» الذي يسعى لانبعاثه، ويمثل الأمل الوحيد بألا يصاب حزبه وحلفاؤه بهزيمة ماحقة في الانتخابات. وجاءت الصدمة الكهربائية من أريك سيوتي، رئيس حزب «الجمهوريون» اليميني التقليدي، ووريث الديغولية التاريخية، الذي أعلن ظهر الثلاثاء، في مقابلة تلفزيونية، عن رغبته في إقامة «تحالف» مع اليمين المتطرف، قائلاً: «نحن بحاجة إلى التحالف، مع الحفاظ على هويتنا... مع حزب (التجمع الوطني) ومرشحيه». وبذلك يكون سيوتي قد داس على محرم احترمه جميع رؤساء الجمهورية اليمينيين وقادة الحزب في العقود الماضية. وفيما سارعت مارين لوبن، زعيمة حزب «التجمع الوطني»، إلى الترحيب بما أقدم عليه سيوتي، واصفة إياه بأنه «خيار شجاع»، انصبت الانتقادات عليه من داخل حزبه واتهمته بـ«خيانة» مبادئه، ودعا قادة كبار من داخله، مثل رئيس مجلس الشيوخ جيرار لارشيه، ورئيس مجموعته النيابية أوليفيه مارليكس، ورئيسه السابق لوران فوكييز، إلى استقالته أو إقالته. إلا إن الأخير رفض، معللاً رفضه بأنه يدين بمنصبه للمحازبين وليس لأحد غيرهم.
بعد أن أعلن ماكرون مساء الأحد حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات نيابية جديدة، كثرت التساؤلات عما سيقوم به في حال جاءت نتائجها مطابقة لنتائج الانتخابات الأوروبية، حيث حصل «التجمع الوطني» على ضعف ما حصل عليه تحالف ماكرون. ومن الفرضيات التي طرحت أن ماكرون قد يجد نفسه مضطراً إلى تقديم استقالته؛ لأن الاستفتاء الشعبي يكون قد بيّن أنه لم يعد يحظى بثقة مواطنيه. ولقطع دابر التأويلات ولتخفيف الضغوط عليه، سارع إلى التأكيد، في مقابلة نشرتها مجلة «لو فيغارو ماغازين»، أنه «مهما تكن نتيجة الانتخابات؛ فإنه لن يستقيل». وقد أمضى ماكرون عامين من ولايته الثانية وما زالت أمامه 3 أعوام.
وقال ماكرون في المقابلة: «ليس (التجمع الوطني) من يتولى كتابة الدستور. المؤسسات واضحة، ومنصب رئيس الجمهورية محفوظ مهما تكن نتائج الانتخابات. والدستور بالنسبة إليّ لا يمكن المساس به». وأعرب عن قدرته على الفوز في الانتخابات، نافياً أن يكون قد عمد إلى خيار غير عقلاني. وأضاف: «أقول للفرنسيين: لا تخافوا. اذهبوا واقترعوا». وكان مقرراً أن يعقد مؤتمراً صحافياً بعد ظهر الثلاثاء. إلا إنه أُجّل للأربعاء.
سلطة تنفيذية برأسين
تقول مصادر سياسية في باريس إنه في حال اكتسح اليمين المتطرف الانتخابات، فسيكون اضطرارياً دعوة رئيس «التجمع الوطني» وتكليفه تشكيل الوزارة الجديدة. وبذلك، سيكون على رأس السلطة التنفيذية مسؤولان؛ واحد في قصر الإليزيه (ماكرون)، وآخر في قصر ماتينيون (مقر رئيس الحكومة)؛ بحيث ستكثر مواضيع الاختلاف بينهما، خصوصاً أن لكل منهما رؤيته وسياسته. وفي أي حال، فإن سيناريو كهذا يعني أن الضعف السياسي سينهش رئيس الجمهورية في الداخل والخارج، وبالتالي؛ فإن موقع فرنسا وقدرتها على التأثير في الشؤون الأوروبية والعالمية سيتراجعان. كما أن ضبابية الوضع السياسي ستؤثر على صحة الاقتصاد، وبرز ذلك سريعاً مع تراجع «بورصة باريس» بعد الإعلان عن فوز اليمين المتطرف.