الشعر ملاذاً أخيراً

طلعت شاهين في ديوانه «تتعرى الأشجار من عصافيرها»

الشعر ملاذاً أخيراً
TT

الشعر ملاذاً أخيراً

الشعر ملاذاً أخيراً

بعد غياب طويل وانخطاف مباغت إلى عالم الترجمة والرواية، يعود طلعت شاهين إلى عالم الشعر بئره الأولى، بديوان يحمل عنوان «تتعرى الأشجار من عصافيرها»، صدر حديثاً عن «دار العين» بالقاهرة. لكن لماذا الحنين إلى الشعر، كأنه المخلص الذي يفتح للنفس نوافذ جديدة للتنفس والشعور بالأمان، بخاصة بعدما ارتعدت مفاصل العالم وضاقت أوردته، في مواجهة لحظة محفوفة بالمخاطر والألم، حبسته في قفص وباء «كورونا» على مدار شهور، ولا تزال آثارها ممتدةً إلى الآن. هذه اللحظة الشائكة يجسدها عنوان الديوان في دلالة فنية لافتة، فالوباء لم يكتفِ بحصد أرواح مئات الآلاف من البشر، إنما أصبح يهدد الطبيعة، العصافير والشجر، الغيم والمطر، وكل مظاهر الحياة.

في تلك اللحظة المجنونة تذكر طلعت شاهين أنه «شاعر العشق، العاشق المعشوق»، هكذا كان يطلق عليه أقرانه من شعراء السبعينات في مصر، لفتهم إلى ذلك أنه في قصائده البسيطة الحانية، كان دائماً يعزف على متوالية العشق لغوياً وجمالياً، موحداً ما بين حضور العشيقة في القصيدة وبين حضور الطبيعة، فكلاهما مرتكز للجمال وإثارة الدهشة والأسئلة.

في غمرة المزاح الذي يكشف عن محبة أقرانه الشعراء له، وأنا واحد منهم، خدعنا جميعاً، وفي صمت درس اللغة الإسبانية بالمركز الثقافي الإسباني بالقاهرة، مقرراً أن يوسع فضاء عشقه، ويكتسب له أرضاً وجغرافيا جديدتين، أكثر جرأة وانفتاحاً على المستوى الإنساني والعاطفي. في عام 1980 حط رحاله على شواطئ إسبانيا، وواصل دراساته الأكاديمية للقانون في رحاب جامعاتها حتى حصل على درجة الدكتوراه؛ كما حصل أيضا على الجنسية الإسبانية.

وسمت روح العاشق - ولا تزال - مسيرته في الحياة، ففي ظلالها عمل لفترة بالصحافة، وكتب الرواية والقصة وترجم أكثر من 24 كتاباً، من عيون أدب أميركا اللاتينية، من أبرزها مذكرات ماركيز «أن تعيش لتحكي»، و«الشعر النسائي في أميركا اللاتينية»، ورواية «المطر الأصفر» لخوليو يا ماثاريس... ويظل أجمل ما في هذه الروح العاشقة أنها بعفوية شديدة ساعدته في أن يتخفف من صرامة الأكاديمي المحترف، ليتعامل مع الحياة وكأنه هاوٍ، يتلمس أغصانها للمرة الأولى، وهو ما برز على نحو لافت في معظم هذه الترجمات.

شكل ديوانه الأول المشترك مع الشاعر أمجد ريان، وهما في باكورة خطواتهما الشعرية «أغنيات حب للأرض» صرخة عشق للجذور، وبرعم اتساع المسافة والزمن لم تبتعد هذه الروح عن أجواء ديوانه هذا الذي يعود به للشعر، فنحن إزاء ذات أصبحت محاصرةً، في أنفاسها وخطاها وهواجسها، لا ترى العالم إلا من وراء موانع وحواجز فرضتها حتمية التوخي والحظر للوقاية من براثن الوباء المسعور.

يستهل شاهين الديوان الواقع في مائة صفحة بقصيدة «لمن تدق الأجراس»، وفيها يبرز نوعٌ من التناص الناعم مع رواية همنغواي الشهيرة «لمن تقرع الأجراس» التي يصور فيها أهوال الحرب العالمية الثانية، وما ألحقته من دمار وخراب بالعالم، يقول في النص:

«لمن تدق الأجراس؟

سألوه ..

تلفّت الكاهنُ حوله،

تحسَّس حبلَ الجرس،

شاهد السكونَ يلفُّ أرجاء المكان؛

والمذبح خالٍ.

قال: لا أحد

الجميع غادروا دون وداع.

تركوني وحيداً مع الفراغ

تعويضاً عن الغياب

أدق الجرس

بحثاً عن ونس..»

لا يذهب كاهن الكنيسة إلى الحرب كما فعل بطل همنغواي، إنما يواجه حرباً خاصة مع الفراغ الموحش والقاتل، الذي يلف المكان، وأصبحت مقدرته على شد حبل الجرس هي مقياس وجوده، وعلامة على أنه حي.

في القصيدة الثانية «كوفيد - 19»، التي تشعل نحو نصف مساحة الديوان، يتسع المشهد وتتنوع زواياه، وبعين الكاميرا تتجول القصيدة في كل دروب الحياة، راصدة ما طرأ عليها جراء هذا الوباء، في الشوارع والحدائق والمقاهي والحانات، تلتقط ما يدور على ألسنة المسؤولين السياسيين ورجال الشرطة والجيش من همهمات وإشارات مرتجفة وعابرة، وترصد كيف تحولوا إلى مرايا هشة مغبشة بالخوف والألم. ويبلغ المشهد ذروته الشعرية، حين يتحول الصمت الذي يخيم على كل هذه العناصر إلى لغة، ورغم أنها لغة غير منطوقة، خرساء، فإنها استطاعت أن تثبت الصورة في المشهد، وتكشف بسلاسة عما يتناثر في غبارها من مشاعر وعواطف وانفعالات محبطة وصلت إلى حد اليأس وفقدان الأمل... ومن القصيدة نقرأ:

«تتعرى الأشجارُ من عصافيرها

وتغادر الصحراءُ نجومها

يجفُّ النّهر

تاركاً أسماكه

تنزف ما تبقى

من صخب الحياة.

لقد خيم الخراب؛

فلا المدنُ دانت لناسها

ولا الأجساد تمسكت بأرواحها

صار البين بياناً وعلامة.

صورةٌ ثابتةٌ

يقرأ المتحدث الرسمي أرقاماً باردةً

عن مصابين ينتظرون أسِرّة تأويهم،

عن موتى

أو سائرين على طريق الموت

يردد: اليوم أفضل

وغداً ربما لن يكون.

الشوارعُ خاليةٌ،

لا بشرَ، لا سمرَ، لا حياةَ

لا شيءَ على الأسفلت

على الطوار

تحت الأشجار

على حافة الأغصان .

الصمت يعانق سكون الرافعات

لا يهم.

يتساقط القرميد عن أسطح البيوت

لا يهم.

تعوي الرياح أحياناً

نابحة الغياب

لا يهم.

يهطل مطر ثقيل

يضرب النوافذ بقطرات حزينة

لا يه .

في كل صباح

تجاهد الشمسُ كي تجفِّف ما تساقط على وجهها

لا يهم.

يراكم النص مأساوية الحالة، ويكشف عن أبعادها الإنسانية الشائكة، معتمداً على توالي الصور، وتلاحق المشاهد، ويوظف الشاعر آلية التكرار (صورةٌ ثابتهٌ - لا يهُمّ) في بداية المقاطع، وفي اللطشة الأخيرة، لتكثيف المعنى والدلالة، ما بين الثبات والعبث والإحساس باللاجدوى، وفي لهاث شعري، كأنه في سباق مع الزمن لاحتواء الصورة التي أصبحت تستنسخ نفسها في قبضة الموت، وتتكرر مئات المرات يومياً. إنه اختطاف قاسٍ للحياة، بلا وداع ومعزين، بلا صلوت، أو حتى نظرة أخيرة، تعلق في سقف الذاكرة.

لا يرسخ التكرار المعنى فحسب من خلال آلية التشابه، إنما يحاول القبض على اللامعنى، المستتر والمخفي وراء الأشياء والعناصر، والذي لا يقترن بالفقد والغياب المباغت فحسب أيضاً، إنما يقترن أساساً بتراجع الملذات والمسرات، فالإنسان قابع في قبو نفسه، لا يستطيع أن يخرج، أو حتى يفتح النافذة، ليطل على الوجود والحياة. لكن اللافت هنا أن هذه القصيدة الطويلة أصبحت بمثابة اللحن الأساس في الديوان، وما يأتي بعدها من قصائد هو عزف منفرد عليها؛ يلعب على التيمات والعلامات نفسها، لكن بإيقاع خاطف، حيث تتسع المسافة قليلاً بين الذات والموضوع، فلم تعد الذات مشغولة بتثبيت الصورة/ الموضوع في المشهد، بقدر ما أصبحت تتأمله، ليس في حضوره الطاغي المباشر، إنما فيما يخلفه من فجوات وتشققات، تترك ندوباً على العين، وتبقى أثراً على ماض، لم يتخلص بعد من ربكته.

يوحد الشاعر ما بين حضور العشيقة في القصيدة وبين حضور الطبيعة فكلاهما مرتكز للجمال وإثارة الدهشة والأسئلة

وفي مقابل شعرية الموضوع أو الحالة التي طغت على اللحن الأساس في الديوان، تكرس قصائد القسم الأخير منه لما يمكن تسميته «شعرية الذات»، فمن خلالها يحاول الشاعر الخلوص لنفسه، لعالمه الخاص وأشيائه الحميمة، وهو ما يبرز في العناوين الخاطفة لمعظمها مثل «العلامة، غربة، إبحار، ماء، ادعاء، تعميد».. يقول في نص بعنوان «وجهان»:

«لي في هذا العالم وجهان

وجهٌ ارتديته باحثاً عن بدايةٍ للحياة

وظل يرتديني قناعاً لسبعين عاماً.

ما منحني سوى التعب،

وحياة مخضبة بدمٍ

انداح على الرمال بلا ثمن،

وألقى بي إلى واحة الغربة.

في الغربة ارتديتُ وجهاً آخر

اختبأتُ خلفه أربعين عاماً.

حاول أن يغسل الدماءَ التي علقت بملابسي،

ومنحني قلباً ورؤية،

فيما ظلَّ التعبُ كامناً خلفه،

لا راحةَ في القلب»

بنبرة شجن يعري الشاعر أقنعته في الغربة والحياة، وبحكمة الشعر يواجه الاثنين معاً كما يواجه الوباء، ما يذكرنا بصرخة أبي العلاء المعري «تعبٌ كلها الحياةُ فما أعجبَ.. إلا من راغبٍ في ازدياد»، لكنه مع ذلك لا يفقد المقدرة على التصالح معهما، فالحياة بيته، سواء في الغربة أو الوطن، ولا بأس أن يشاكسهما، في هذا الديوان الشيق بمحبة الشعر وروح العاشق معاً.


مقالات ذات صلة

كيف أمضى جبّور الدويهي يومه الأخير؟

يوميات الشرق الروائيّ اللبناني جبّور الدويهي (فيسبوك)

كيف أمضى جبّور الدويهي يومه الأخير؟

عشيّة الذكرى الثالثة لرحيله، تتحدّث عائلة الروائيّ اللبنانيّ جبّور الدويهي عن سنواته الأخيرة، وعن تفاصيل يوميّاته، وعن إحياء أدبِه من خلال أنشطة متنوّعة.

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

رواية «حكاية صفية» للروائية الكويتية ليلى العثمان الصادرة عام 2023، رواية جريئة بشكل استثنائي

فاضل ثامر
ثقافة وفنون شاهد قبر من البحرين، يقابله شاهدان من تدمر

الفتى حامل الطير وعنقود العنب

يحتفظ متحف البحرين الوطني في المنامة بمجموعة كبيرة من شواهد القبور الأثرية المزينة بنقوش تصويرية آدمية، منها شاهد مميّز يمثّل فتى يحمل عصفوراً وعنقوداً من العنب

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون غلاف الكتاب

الرواية الفلسطينية... ممارسات الاحتلال وآليات المقاومة

«أسئلة الرواية الفلسطينية» هو الكتاب الحادي عشر في النقد الروائي للشاعر والناقد سلمان زين الدين، وقد صدر مؤخّراً عن «مركز ليفانت للدراسات والنشر» في الإسكندرية.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون ريما بالي

الكاتبة السورية ريما بالي: أُواجه الحرب بالخيال وقصص الحب

تهتم الكاتبة الروائية السورية ريما بالي بسردية بلادها ما بعد الحرب، وتوليها عناية خاصة من خلال أعمالها التي تتحدث فيها عادة عن مسقط رأسها «حلب» في سياقات مختلفة

منى أبو النصر (القاهرة)

لماذا جُنَّ نيتشه؟

نيتشه مع أمه
نيتشه مع أمه
TT

لماذا جُنَّ نيتشه؟

نيتشه مع أمه
نيتشه مع أمه

أنْ تصل إلى قمة الشعر كالمتنبي وفيكتور هيغو فهذا شيء مفهوم ومقبول وإن على مضض. أنْ تصل إلى قمة الفكر كديكارت وكانط وهيغل، فهذا شيء مفهوم ومعقول، وإن على مضض أيضاً. أما أنْ تصل إلى قمة الشعر والفكر في آن معاً فهذا شيء ممنوع منعاً باتاً. هذا شيء لا يحتمل ولا يطاق. هل لهذا السبب جُنَّ نيتشه؟ من يعلم؟ أم أنه اقترب من السر الأعظم أكثر مما يجب فعميت عيناه؟

في شهر مايو (أيار) من عام 1879 استقال نيتشه من جامعة بال بسويسرا بسبب أمراضه العديدة المتفاقمة على الرغم من أنه لم يكن قد تجاوز الخامسة والثلاثين عاماً: أي في عز الشباب. وقد اقتنعت الجامعة بظروفه وحيثياته وقبلت بأن تصرف له تقاعداً شهرياً متواضعاً يكفيه لدفع أجرة الغرفة والأكل والشرب وشراء بعض الكتب والمراجع. أما الثياب فلم يكن بحاجة إلا إلى أقل القليل: غيار واحد فقط، طقمان وقميصان. وكفى الله المؤمنين شر القتال. بدءاً من تلك اللحظة أصبح نيتشه شخصاً تائهاً مشرداً على الطرقات والدروب. بدءاً من تلك اللحظة أصبح فيلسوفاً حقيقياً وكاتباً ضخماً لا يُشقُّ له غبار. لقد بقيت له عشر سنوات فقط لكي يعيش حياة الصحو. بعدئذ سوف يقلب في الجهة الأخرى من سفح الجنون. ولكن هذه السنوات العشر كانت كافية لكي يضع مؤلفاته الكبرى التي دوخت العالم منذ مائة وخمسين سنة حتى اليوم. بدءاً من تلك اللحظة أصبح العالم كله بوديانه السحيقة وغاباته العميقة مثل كتاب مفتوح على مصراعيه لكي يتفلسف عليه. هل يمكن أن يمضي نيتشه حياته كلها في إعطاء الدروس الجامعية بأوقات محددة وإكراهات وظيفية مزعجة وتصحيح أوراق الطلاب؟ محال. هذه حياة لا تليق بفيلسوف بركاني زلزالي يكاد يتفجر تفجراً... نقول ذلك، بخاصة أنه كان يكره الفلسفة الجامعية وأستاذ الجامعة ويعدّه «كالحمار» الذي يحمل أثقالاً وأفكاراً جاهزة يكررها على مدار السنوات حتى سن التقاعد. هل هذه حياة؟ هل هذه فلسفة؟ على هذا النحو انطلقت عبقريته وانفتحت طاقاته الإبداعية على مصراعيها. عشر سنوات كانت كافية لكي يزلزل تاريخ الفلسفة من أولها الى آخرها.

كل كتاباتي ليست إلا انتصارات على ذاتي!

هذا ما كان يردده باستمرار. وهي بالفعل انتصارات على المرض والمخاطر والصعوبات. إنها انتصارات على تربيته الأولى بشكل خاص. والأهم من ذلك كله أنها كانت انتصارات على التراث الموروث المتراكم والراسخ في العقليات رسوخ الجبال. هنا تكمن الزلازل النيتشوية. أين أمضى الشهور الأخيرة قبل أن ينفجر عقله كلياً؟ لقد أمضاها في مدينة تورين الإيطالية الجبلية الساحرة وهناك شعر بالارتياح وباسترجاع الصحة والعافية إلى حد ما. لقد استقر فيها خريف عام 1888 وأظهر شهية هائلة للكتابة وتفجرت طاقاته الإبداعية في كل الاتجاهات. وما كان أحد يتوقع أنه سينهار بعد أربعة أشهر فقط، ولا هو كان يتوقع ذلك بطبيعة الحال. ولكن الأشياء كانت تتراكم والانفجار الصاعق قد اقترب. نقول ذلك بخاصة أنه استطاع تأليف 5 كتب متلاحقة في ظرف 5 أشهر فقط. من يستطيع أن يؤلف كتاباً كل شهر؟

فلماذا الإعصار إذن؟ لماذا الانهيار بعد كل هذه الانتصارات التي حققها على ذاته وعلى أمراضه وأوجاعه؟ هل لأنه أنهك نفسه أكثر مما يجب فانفجر عقله في نهاية المطاف من كثرة التعميق والتركيز؟ هل الفلسفة تجنن إذا ما ذهبنا بها إلى نهاياتها، إلى أعماق أعماقها؟ هل يمكن أن ينكشف السر الأعظم لمخلوق على وجه الأرض؟ لا أحد يؤلف 5 كتب في 5 أشهر أو حتى 4. أم هل لأنه قال كل ما يمكن أن يقوله ووصل إلى ذروة الإبداع العبقري ولم يبق له إلا أن ينبطح أرضاً؟ أم هل لأنه كان مصاباً بمرض السفلس (الزهري) الذي اعتراه منذ شبابه الأول في مواخير مدينة كولونيا عام 1966. أم أن تلك الغاوية الحسناء سالومي جننته؟ أم؟ أم؟ أم؟ والله أعلم. البعض يقولون إنه دفع ثمن هجومه الصاعق على المسيحية غالياً. ينبغي ألا ننسى أنها كانت دين آبائه وأجداده، وأن والده كان قساً بروتستانتياً وجده كذلك، وجد جده أيضاً.. إلخ. ومعلوم أن أمه فرانزيسكا جن جنونها عندما سمعت بأنه أصبح ملحداً بعد أن كان مؤمناً متديناً بل وتقي ورع طيلة طفولته وشبابه الأول. فكيف انقلب على كل ذلك؟ كيف انقلب على ذاته وأعماق أعماقه؟ ألم يدفع ثمن هذا الانقلاب باهظاً؟ يحق له بالطبع أن يفكك الأصولية الطائفية والمذهبية الموروثة عن القرون الوسطى. يحق له أن يستأصلها من جذورها كما فعل أستاذه فولتير الذي أهداه أحد كتبه قائلاً: إلى فولتير أحد كبار محرري الروح البشرية. ولكن لا يحق له أن يستأصل العاطفة الدينية ذاتها. لا يحق له أن يستأصل أعظم ما أعطاه الدين المسيحي من قيم أخلاقية تحث على الإحسان والشفقة والرحمة وحب الآخرين (بين قوسين: وهي قيم موجودة في الإسلام أيضاً إذا ما فهمناه بشكل صحيح وليس على طريقة الإخوان المسلمين الذين لا شفقة لديهم ولا رحمة، وإنما فقط طائفيات ومذهبيات وتكفيرات وتفجيرات). لحسن الحظ فإن أمه لم تطلع على كتابه الأخير عن الدين وإلا كانت قد أُصيبت بالسكتة القلبية على الفور.

ما هي العلائم الأولى التي أرهصت بانهياره العقلي؟

تقول لنا الأخبار الموثقة ما فحواه: لقد ظل يكتب بشكل عقلاني متماسك حتى آخر لحظة تقريباً من عام 1888. ولكن بعد ذلك ابتدأت عبارات الجنون تظهر وتختلط بالعبارات العقلية المتماسكة أو التي ما زالت منطقية متماسكة. ابتدأت هذياناته غير المعروفة تظهر رويداً رويداً. ابتدأ يشعر بالبانورايا الجنونية. بموازاة ذلك تضخمت شخصيته وتحولت إلى هذيان كوني. هل هو جنون العظمة؟

بعدئذ في 6 يناير (كانون الثاني) من عام 1889، أي بداية العام الجديد الذي شهد انهياره تلقى البروفيسور الكبير جاكوب بوركهاردت أستاذ نيتشه والجيل كله رسالة هذيانية يقول فيها:

«الشيء الذي يخدش تواضعي وحيائي هو أنني أجسد في شخصي كل الأشخاص العظام الذين ظهروا في التاريخ. لقد شهدت خلال الفترة الأخيرة جنازتي ودفني مرتين في المقبرة»... ما هذا الكلام؟ ما هذا الهذيان؟ ما هذا الجنون؟ من يشهد جنازته ودفنه في المقبرة؟

عندما وصلت هذه الرسالة إلى بروفيسور سويسرا الكبير اتصل فوراً بأقرب صديق عزيز على قلب نيتشه: الدكتور فرانز أوفربيك وسلمه الرسالة قائلاً: لقد حصل شيء ما لنيتشه. حاول أن تفهم. حاول أن تفعل شيئاً. عجل، عجل. وعندئذ هرع الرجل وركب القطار فوراً من سويسرا إلى إيطاليا لكي ينقذ الوضع إذا أمكن. ولكن بعد فوات الأوان.

يقول ما فحواه: عندما دخلت عليه الغرفة وجدته مستلقياً نصف استلقاءة على الأريكة وبيده ورقة مكتوبة. فتقدمت نحوه لكي أسلم عليه ولكن ما إن رآني حتى انتصب فجأة على قدميه وهرع هو نحوي ورمى بنفسه بين أحضاني. لم يقل كلمة واحدة، لم يلفظ عبارة واحدة، فقط كان ينتحب بصوت عال والدموع تنهمر من عينيه مدراراً. وكل أعضاء جسمه كانت تختلج وترتجف وهو يردد كلمة واحدة هي: اسمي فقط. لكأنه يستغيث بي. لم تكن الحساسية البشرية قد انتهت فيه كلياً آنذاك. لم يكن عقله الجبار قد انطفأ كلياً. فيما بعد لم يعد يتذكر إلا أمه وأخته اللتين أشرفتا عليه حتى مات عام 1900. (بين قوسين: انظر صورته مع أمه أكثر من مؤثرة). وفجأة شعرت أخته إليزابيت بأنها تمتلك كنز الكنوز: مؤلفاته العبقرية! فقد راحت تكتسح ألمانيا كلها من أولها إلى آخرها في حين أنه لم يبع منها في حياته أكثر من عشر نسخ. بل وكان ينشرها على حسابه الشخصي على الرغم من فقره وتعتيره. ولكن بعد جنونه بفترة قصيرة ذاع صيته وانطلقت شهرته. ثم راح صوته يخترق كالرعد القاصف السماء المكفهرة للبشرية الأوروبية. وأصبحت كتبه تباع بالملايين. بل وتحول كتابه «هكذا تكلم زرادشت» إلى إنجيل خامس كما يقال. وأقبلت عليه الشبيبة الألمانية تتشرب أفكاره تشرباً. وقد تنبأ هو بذلك عندما قال: «هناك أناس يولدون بعد موتهم. سوف تجيء لحظتي ولكني لن أكون هنا».

رسائل الجنون

سوف أتوقف فقط عند تلك البطاقة التي أرسلها إلى «كوزيما» زوجة صديقه ومعلمه السابق الموسيقار الشهير ريتشارد فاغنر. كل المخاوف والإحراجات التي كانت تمنعه من البوح لها بعواطفه ومشاعره حرره منها الجنون. يبدو أنه كان مولهاً بها منذ زمن طويل عندما كان يزورهم في البيت الريفي ويمضي عدة أيام في ضيافتهم. وحتماً كان يغازلها بشكل خفيف. ولكنه كان حباً عذرياً خالصاً لا تشوبه شائبة.

يقول لها في تلك الرسالة الجنونية:

«حبيبتي الغالية جداً أميرة الأميرات. من الخطأ اعتباري شخصاً عادياً كبقية الناس. لقد عشت طويلاً بين البشر وأعرف كل ما يستطيعون فعله من أسفل شيء إلى أعلى شيء. بين الهنود كنت بوذا بشخصه. وعند الإغريق كنت ديونيسوس. والإسكندر المقدوني وقيصر روما هما من تجلياتي أيضاً. وحتى الشاعر شكسبير واللورد فرانسيس بيكون تجسدا في شخصي. وكنت فولتير ونابليون وربما ريتشارد فاغنر ذاته. لقد تقمصتهم جميعاً.

ولكن هذه المرة أجيء كديونيسوس الظافر الذي سيجعل الأرض كلها كرة من نور وحفلة عيد. السماوات ذاتها أصبحت ترقص وتغني وتطلق الزغاريد ما إن وصلت.. وكنت أيضاً معلقاً على الصليب».