كاهن مقبرة المقشع في البحرين

أسلوبه يخرج عن مبدأ التماثل الواقعي

نقش من مقبرة المقشع في البحرين يقابله آخر من إقليم خوزستان جنوب غربي إيران ونصب من مملكة الحضر شمال العراق
نقش من مقبرة المقشع في البحرين يقابله آخر من إقليم خوزستان جنوب غربي إيران ونصب من مملكة الحضر شمال العراق
TT

كاهن مقبرة المقشع في البحرين

نقش من مقبرة المقشع في البحرين يقابله آخر من إقليم خوزستان جنوب غربي إيران ونصب من مملكة الحضر شمال العراق
نقش من مقبرة المقشع في البحرين يقابله آخر من إقليم خوزستان جنوب غربي إيران ونصب من مملكة الحضر شمال العراق

يحتفظ متحف البحرين الوطني في المنامة بمجموعة كبيرة من شواهد القبور المزيَّنة بنقوش تصويرية آدمية، منها شاهد قبر من الحجم المتوسط، يعلوه نحت ناتئ يمثل رجلاً ذا شعر كثيف، يرفع يده اليمنى أمام صدره في ثبات. يتبنّى هذا النقش الناتئ نموذجاً تقليدياً يُعرف بالفرثي، نسبة إلى الإمبراطورية الفرثية التي امتدت من الروافد الشمالية للفرات إلى شرق إيران، وتميّزت بنتاجها الفني الذي جمع بين أساليب متعددة في قالب خاص انتشر انتشاراً واسعاً في القرون الميلادية الأولى.

عُثر على هذا الشاهد المنحوت خلال أعمال التنقيب التي قامت بها بعثة محلية بين عامي 1992 و1993 في مقبرة تجاور قرية المقشع وتُعرف باسمها، وتُعد من المقابر الأثرية الكبرى التي تقع في الشمال الشرقي من مملكة البحرين، وتتبع المحافظة الشمالية. يتكوّن هذا الشاهد من كتلة حجرية مستطيلة يبلغ طولها 46 سنتيمتراً، وعرضها 32 سنتيمترا، يحدّها إطار ناتئ يخلو من أي زخرفة. وسط هذا الإطار، يحضر رجل ملتحٍ في صورة نصفيّة تُمثل الجزء الأعلى من قامته، منتصباً في وضعية المواجهة، باسطاً راحة يده اليمنى عند أعلى صدره، قابضاً بيده اليسرى على شريط عريض يتدلّى من أعلى كتفه إلى أخمص وسطه. الذراعان ملتصقتان بالصدر، واللباس بسيط، وهو مكون من رداء مجرّد، يعلوه زنار معقود حول الوسط.

الرأس بيضاوي، وهو من الحجم الكبير، ونسبته أكبر من نسبة الصدر، ويعلوه شعر كثيف يبدو أشبه بكتلة مقوّسة ضخمة تحدّ الخدّين وتُخفي الأذنين بشكل كامل. تُزيّن هذه الكتلة شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية تمثّل خصل هذا الشعر الأشعث. ملامح الوجه منقوشة بأسلوب تحويري يخرج عن مبدأ التماثل الواقعي، ويعتمد الاختزال والتبسيط. العينان شاخصتان، وهما على شكل لوزتين واسعتين تحدهما أهداب مقوّسة ناتئة. وسط كل عين، يظهر نقش دائري منمنم يمثّل البؤبؤ. الحاجبان غائبان في الكتلة الحجرية، والأنف مستطيل ومسطّح، ويخلو من أي تجويف يشير إلى المنخرين. تغيب شفة الفم العليا تحت شاربين عريضين، مفتولين وملتصقين، وتحضر الشفة السفلى في كتلة أفقية ناتئة بشكل بسيط. يلتصق هذان الشاربان بلحية مثلثة عريضة تعلوها شبكة من الخطوط المتوازية ترسم خصلها المتراصة.

اليد اليمنى مبسوطة إلى الأمام، وتتمثّل في راحة تحدّها أربع أصابع متلاصقة متساوية في الحجم، وإبهام أصغر حجماً في طرفها. اليد اليسرى مجسّمة في أسلوب مماثل، مع ثلاث أصابع متلاصقة، وإصبع رابعة مستقلة، أما الإبهام فغائب تحت قطعة القماش المتدلية أفقياً على الكتف. تستقر كتلة الرأس الكبيرة فوق كتفين صغيرتين، ويحد عنقها شقّ يشير إلى طوق فتحة الثوب العليا. ثنايا الرداء بسيطة للغاية، وتتكوّن من بضعة نقوش تلتفّ حول الساعدين، وبضعة نقوش مماثلة ترتسم في الوسط عند حدود الحزام. يصعب تحديد هويّة هذا الرجل في غياب أي كتابة منقوشة ترافقه، غير أن الشريط الذي يتدلى على كتفه اليسرى يوحي بأنه كاهن متعبّد، كما تشهد قطع أثرية قديمة خرجت من منطقة الأهواز التي تقع اليوم في إقليم خوزستان، جنوب غربي إيران، وهي المنطقة التي عُرفت باسم عربستان، وتتكون من «سبع كور بين البصرة وفارس»، كما نقل ياقوت الحموي في «معجم البلدان».

يتّخذ هذا الكاهن وجهاً نموذجياً يُعرف بالوجه الفرثي، نسبةً إلى الإمبراطورية الفرثية التي نشأت في مقاطعة فرثية، أي بارتيا، في جنوب شرقي بحر قزوين، وهي اليوم في النصف الغربي من إقليم خراسان الواقع في الشمال الشرقي من إيران. من هذا الإقليم خرج عديد من القطع الفنية التي تحمل وجوهاً تشابه في تكوينها كما في سماتها وجه كاهن مقبرة المقشع، وتكرّر حضور هذا الوجه في نواحٍ عدة من العالم الفرثي، وتخطّى هذه الحدود بشكل واسع. على سبيل المثل لا الحصر، يتجلّى هذا النموذج في نقش حجري محفوظ في متحف متروبوليتان للفنون في نيويورك، مصدره جنوب غربي إيران. يمثّل هذا النقش رجلاً بشعر كثيف يبدو أشبه بقبعة مقوسة عريضة، يرتدي اللباس الفرثي التقليدي، الذي يتميز بحزام مؤلَّف من شريطين معقودين حول أعلى خاصرته، ويقف منتصباً كذلك في وضعية المواجهة الكليّة، رافعاً راحة يده اليمنى أمام صدره.

يتّخذ الكاهن وجهاً نموذجياً يُعرف بالوجه الفرثي نسبةً إلى الإمبراطورية الفرثية التي نشأت في مقاطعة فرثية (أي بارتيا) في جنوب شرقي بحر قزوين

نقع على قامات مماثلة في نواحٍ عدة من الشرق القديم، مع اختلاف في بعض التفاصيل الثانوية، كما نرى في مملكة الحضر التي تقع في الجزيرة الفراتية، في السهل الشمالي الغربي من وادي الرافدين، وتتبع اليوم محافظة نينوى في شمال العراق، أو في مدينة دورا أوروبوس التي تقع في بادية الشام، إلى الجنوب الشرقي من مدينة دير الزور في شمال شرقي سوريا، حيث تُعرف اليوم باسم صالحية الفرات. ولعلّ أشهر هذه الوجوه الفرثية الطابع، وجه يعود إلى تمثال من الحجر الكلسي محفوظ في المتحف العراقي في بغداد، يمثل سنطروق الأول، ثاني ملوك مملكة الحضر. يظهر هذا الملك مكلّلاً بتاج يتوسّطه نسر مشرّع الجناحين، يستقرّ فوق شعر أشعث يتكوّن من كتلتين تحدّان وجنتي الوجه، رافعاً راحة يده اليمنى تبعاً للنمط المألوف، ممسكاً بيده اليسرى سعفة تمتدّ كريشةٍ طويلة على ساعده.

أُنجز نقش مقبرة المقشع بين القرنين الثاني والثالث للميلاد، ويعود النصب المحفوظ في متحف متروبوليتان إلى القرن الثاني على الأرجح، ويمثل تمثال الحضر ملكاً حكم في الربع الأخير من ذلك القرن. في الخلاصة، تشهد هذه القطع لشيوع هذا النموذج المكرّس ولانتشاره الواسع في هذه البقاع المتباعدة من هذا الشرق المتعدّد الأقاليم والثقافات.


مقالات ذات صلة

كيف أمضى جبّور الدويهي يومه الأخير؟

يوميات الشرق الروائيّ اللبناني جبّور الدويهي (فيسبوك)

كيف أمضى جبّور الدويهي يومه الأخير؟

عشيّة الذكرى الثالثة لرحيله، تتحدّث عائلة الروائيّ اللبنانيّ جبّور الدويهي عن سنواته الأخيرة، وعن تفاصيل يوميّاته، وعن إحياء أدبِه من خلال أنشطة متنوّعة.

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

رواية «حكاية صفية» للروائية الكويتية ليلى العثمان الصادرة عام 2023، رواية جريئة بشكل استثنائي

فاضل ثامر
ثقافة وفنون شاهد قبر من البحرين، يقابله شاهدان من تدمر

الفتى حامل الطير وعنقود العنب

يحتفظ متحف البحرين الوطني في المنامة بمجموعة كبيرة من شواهد القبور الأثرية المزينة بنقوش تصويرية آدمية، منها شاهد مميّز يمثّل فتى يحمل عصفوراً وعنقوداً من العنب

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون غلاف الكتاب

الرواية الفلسطينية... ممارسات الاحتلال وآليات المقاومة

«أسئلة الرواية الفلسطينية» هو الكتاب الحادي عشر في النقد الروائي للشاعر والناقد سلمان زين الدين، وقد صدر مؤخّراً عن «مركز ليفانت للدراسات والنشر» في الإسكندرية.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون ريما بالي

الكاتبة السورية ريما بالي: أُواجه الحرب بالخيال وقصص الحب

تهتم الكاتبة الروائية السورية ريما بالي بسردية بلادها ما بعد الحرب، وتوليها عناية خاصة من خلال أعمالها التي تتحدث فيها عادة عن مسقط رأسها «حلب» في سياقات مختلفة

منى أبو النصر (القاهرة)

آل الشيخ يكشف عن أعضاء «جائزة القلم الذهبي للأدب»

المستشار تركي آل الشيخ رئيس مجلس إدارة هيئة الترفيه السعودية (الشرق الأوسط)
المستشار تركي آل الشيخ رئيس مجلس إدارة هيئة الترفيه السعودية (الشرق الأوسط)
TT

آل الشيخ يكشف عن أعضاء «جائزة القلم الذهبي للأدب»

المستشار تركي آل الشيخ رئيس مجلس إدارة هيئة الترفيه السعودية (الشرق الأوسط)
المستشار تركي آل الشيخ رئيس مجلس إدارة هيئة الترفيه السعودية (الشرق الأوسط)

كشف المستشار تركي آل الشيخ، رئيس مجلس إدارة هيئة الترفيه السعودية، الأربعاء، عن أعضاء لجنة «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً»، والتي تهدف إلى إثراء صناعة السينما بالمنطقة، ودعم المواهب الإبداعية في كتابة الرواية من جميع الجنسيات والأعمار.
وتَشكَّلت لجنة الجائزة من أعضاء يملكون خبرات واسعة في مجالات الأدب، والكتابة السينمائية، والإنتاج والإخراج السينمائي، حيث جاءت برئاسة الأديب والروائي السعودي الدكتور سعد البازعي، والروائي والمترجم والسيناريست السعودي عبد الله بن بخيت نائباً له.

وتضم اللجنة في عضويتها كلاً من الكاتب والروائي السعودي عبده خال، والروائي الكويتي سعود السنعوسي، والروائي المصري أحمد مراد، والروائية السعودية الدكتورة بدرية البشر، والكاتب والسيناريست السعودي مفرج المجفل، والكاتب والسيناريست المصري صلاح الجهيني، والناقد السينمائي المصري طارق الشناوي، والسيناريست المصري شريف نجيب، والخبير عدنان كيال مستشار مجلس إدارة هيئة الترفيه، وكاتبة السيناريو المصرية مريم نعوم، والمخرج المصري محمد خضير، والمنتج السينمائي المصري أحمد بدوي، والمخرج المصري خيري بشارة، والمنتج اللبناني صادق الصباح، والمخرج السينمائي المصري مروان حامد، والمخرج والمنتج السينمائي السعودي عبد الإله القرشي، والكاتب والسيناريست المسرحي السعودي ياسر مدخلي، والكاتب والروائي المصري تامر إبراهيم.

وتركز الجائزة على الروايات الأكثر جماهيرية وقابلية لتحويلها إلى أعمال سينمائية، مقسمة على مجموعة مسارات؛ أبرزها مسار «الجوائز الكبرى»، حيث ستُحوَّل الروايتان الفائزتان بالمركزين الأول والثاني إلى فيلمين، ويُمْنح صاحب المركز الأول مبلغ 100 ألف دولار، والثاني 50 ألف دولار، والثالث 30 ألف دولار.

ويشمل مسار «الرواية» فئات عدة، هي أفضل روايات «تشويق وإثارة» و«كوميدية» و«غموض وجريمة»، و«فانتازيا» و«رعب» و«تاريخية»، و«رومانسية» و«واقعية»، حيث يحصل المركز الأول على مبلغ 25 ألف دولار عن كل فئة بإجمالي 200 ألف دولار لكل الفئات.
وسيحوّل مسار «أفضل سيناريو مقدم من عمل أدبي» العملين الفائزين بالمركزين الأول والثاني إلى فيلمين سينمائيين مع مبلغ 100 ألف دولار للأول، و50 ألف دولار للثاني، و30 ألف دولار للثالث.
وتتضمن المسابقة جوائز إضافية أخرى، حيث سيحصل أفضل عمل روائي مترجم على جائزة قدرها 100 ألف دولار، وأفضل ناشر عربي 50 ألف دولار، بينما يُمنح الفائز «جائزة الجمهور» مبلغ 30 ألف دولار، وذلك بالتصويت عبر المنصة الإلكترونية المخصصة.